في وقت مبكر نسبياً أعلنت المفوضية العليا للانتخابات التي لن أخفي أبداً شكّي في استقلاليتها التامة عن نفوذ الحكومة والأحزاب السياسية المالكة سلطة تعيين موظفي المفوضية، وبخاصة كبارهم، مصادقتها على نظام الإنفاق على الحملات الانتخابية، وهذا أمر جيد ومبادرة ايجابية، لكن السؤال: هل سيعمل هذا النظام ليحقق الهدف من تشريعه؟
النظام يضع سقفاً لكمية المال النقدي والعيني التي يُمكن للمترشحين وكياناتهم إنفاقها في الانتخابات البرلمانية القادمة، ويحدّد الوسائل والانشطة المسموح للكيانات والائتلافات والمترشحين باستخدامها للتأثير في الناخبين وكسب ثقتهم لغرض التصويت لهم. ومن المفترض أن يحول هذا النظام دون استخدام الاموال غير المشروعة في تمويل الحملة الانتخابية، ودون شراء الاصوات واحتكار وإفساد العملية الانتخابية والحياة السياسية.
تعتقد المفوضية العليا انها تستطيع تحقيق الهدف المرجو من تشريع النظام بالزام المترشحين والكيانات بفتح حسابات مصرفية وتعيين محاسبين واعداد سجلات حسابية خاضعة للاطلاع والكشف عليها من جانب المفوضية. لكن هذا النظام على أهميته لن يكون في التطبيق سوى قطرة من ماء عذب في بحر.
ليس في وسع هذا النظام ومئة نظام مثله أو أفضل منه أن تمنع افساد العملية الانتخابية والحياة السياسية من دون قوانين تنظّم الحياة السياسية على وفق المبادئ والقواعد الديمقراطية، وفي المقدمة قانون الأحزاب.
كيف لنظام كالنظام الذي استحدثته للتو مفوضية الانتخابات أن يتوثق، مثلاً، من ان المال المستثمر في الانتخابات لم يأت من خارج الحدود أو من المال العام المسروق؟. الآن لا يوجد رقيب أو حسيب على عمل الاحزاب السياسية، ولابدّ ان المفوضية تعرف، كما نعرف، ان أموالاً طائلة تتدفق عبر الحدود من الجهات الاربع جميعاً، دونما استثناء، على العديد من الاحزاب والكيانات، وبخاصة الكبيرة منها. ولابدّ ان المفوضية تعرف مثلنا ان الأحزاب المتنفذة في السلطة تستخدم المال العام ونفوذها في أجهزة الدولة وإمكانات الدولة ووسائلها، للتأثير في الناخبين، أي شراء أصواتهم، ولا يوجد قانون واضح ومحدد يمنع هذا الذي جرى على نحو منهجي في الانتخابات السابقة كلها.
اذا كانت المفوضية لا تعرف فانني أتبرع بلفت نظرها الى ان الاحزاب والكيانات المتنفذة في الدولة، أي صاحبة الامكانات المالية غير المحدودة، عملت في السابق وستعمل الان أيضاً على شراء ذمم رؤساء عشائر ومدراء دوائر حكومية، بدفع اموال نقدية وهدايا عينية وبتلزيم مقاولات، فكيف لنظام المفوضية الجديد أن يمنع هذا؟
واذا كانت المفوضية العليا لا تعلم فإنني أتطوع لتنبيهها الى ان مسؤولين كباراً في الدولة سيعملون الآن، كما عملوا عشية الانتخابات السابقة كلها، على رشوة الناخبين بصورة مباشرة أو غير مباشرة عبر اطلاق الوعود، وحتى تقديم الرشا من نوع التوظيف في دوائر الدولة وتوزيع الاراضي والمساكن.
 ما ضرّ مفوضية الانتخابات لو أعلنت منذ “انتخابها” أن المهمة الوطنية السامية الموكولة اليها لا تتحقق من دون قانون للأحزاب في الأقل، فضلاً عن قانون رصين للانتخابات لا يتغير وفقاً للاهواء والأمزجة، وعن استقلالية حقيقية للمفوضية؟ .