برهة من الصمت… سقط قرص الشمس وسط البيوت… وانتشرت الظلمة في الأجواء.
قرر “شهاب” مغادرة عمله ليبدل ملابسه… مر عليه يوم شاق جدا… أنهك جسده وعقله.
ركب سيارته وقبلما يديرها تذكر أنه نسى هاتفه على مكتبه، ترجل من سيارته ليحضره.
أشتم عطر يستحيل نسيانه ، عطر أعاد ذكرى أيام محفورة بالوجدان ، أكمل طريقه محاولا ترحيل نسيم العطر من باله.
ـ لما أكملت طريقك ولم تلتف لترى صاحبة العطر… منذ ثلاث سنوات وأنا عازفة على وضعه…. يذكرني بكل لحظة جمعتنا سواء كانت حلوة أو مره… لكنى لم أستطع… فحياتي مرتبطة بك… كان خطأ فادح حينما فكرت أنني أستطيع نسيانك.

ظل واقف بمكانه… لم يفعل أى رد فعل مما يشعر أنه بحاجه ليفعله ، هل تمنى أن يأخذها بين ذراعيه ويطفئ لهفة الشوق والحنين.
اختنقت بداخلها وابل من الكلمات كانت تحضرها لتخبره بها، حاولت تتكلم لكنها لم تستطع، حاولت مرة ثانية وقالت بصوت منخفض:
ـ آلا تشتاق لرؤيتي؟!!
ظل ثابت بمكانه لم يلتفت:
ـ لما جئت الآن؟… أمضيت فى طريقى بمفردى منذ زمن… ماذا تريدي؟؟…
ـ رغم أنني لا أرى وجهك… لكنى أشعر بالحزن يخيم على قلبك…. صوتك يخبرني بما تحاول إخفاءه عنى.
أخرج زفرة طويلة قائلا بهدوء:
ـ لا أعتقد أن مكانك هنا … نبش رفات ذكريات مريرة لن تجنى منه سوى آلم وآسى أكثر من ذي قبل.
ـ أعتقد أنني عطلتك عن المضي في طريقك… لعلك وجدت شريكة لحياتك.. أتمنى لك السعادة معها… لدى معلومة فقط لا تعرفها… لم أستطع المضي في حياتي… لقد انفصلت عن “باسم” ثاني يوم لزفافنا…. اعترفت له أنى أحبك… ورفضت اقترابه منى.
ـ هذا هراء…. تهوى العيش فى الكذب… لقد سافرتى معه ثالث يوم لزفافكم لأمريكا.
ـ أجل حدث.. لكنى لم أكن زوجته أمام الله… ظللنا أمام الناس أزواج أملا منه أن يميل قلبي له.. حتى أنه كلا منا عاش حياته بدون الآخر… لا نرى بعضنا بالأيام.
ـ أكملي كذبك… أزواج على الورق… و”ماجد” ابن من؟؟… جاء من الهواء… لقد سمعت من أمي أنك رزقتى بطفل منذ ثلاث أشهر.
ـ ليس إبنى…. إبن “باسم”.
ـ “باسم” أنجبه من العدم.
ـ بلا من صديقته نانا… تعرف عليها وأحبها… وبالفعل طلقني ليتزوجها لكنها توفيت وهى تلد.. لذا لم يخبر أحد بالأمر.
ظن الجميع أنه إبنى… وتركهم يظنوا ما يريد… لكنى لست أمه… وهذه شهادة ميلاده.
مازلت على عهدي معك… أحاسب نفسي لإستسلامى لضغط أهلى… كيف تركتك لأكسب رضاهم… لم يرى أحد العذاب الذى رأيته.
ـ “راوية” إتركى هذا الهراء… تشاهدي أفلام هندي كثيرا مما أثرت على عقلك .
ـ إن لم تكن تصدقني… كيف أثبت لك أنه لم يمسني “باسم”… تستطيع المجئ معي لأي طبيب لأثبت لك.
ـ لا يهمنى… لم يعد لهذا الإثبات أي أهمية عندي… لحظة رأيتك بفستان زفافك لغيري لم تعدى حبيبتي….
أظن الليل خيم… والطريق بدأ يزدحم… أسرعي لتعودي لزوجك.

انفجرت غضبا، أمسكت ذراعه محاولة إجباره على النظر إلي:
ـ “راوية” أرجوك… ليس هذا وقته ولا مكانه… مضى الكثير من الوقت منذ آخر مرة تلاقت فيها وجوهنا… مات ما كان يربطنا… لم يعد هناك رابط.
قالت “راوية” بصوت مختنق:
ـ “شهاب” يكفيني ما مررت به… لا تقسو علي أيضا.
شد ذراعيه قائلا:
ـ أرجو أن تتحلى ببعض الكرامة ولا تريني وجهك مرة ثانية.
ـ أعرف أن بداخلك بركان من الغضب والألم… لكن أرجوك إسمعنى… كن رحيما بى.
ـ أليس من المفترض أن تكوني برفقته الآن.
ـ أعرف.. حقك تكون غاضب منى… لا يوجد مبرر مقنع… الأخبار المتنقلة لا تثبت صحة كلامي… ليس كل ما تسمع يصدق… بسببهم عرف أهلي بحبي لك.. ونجحوا في التفرقة بيننا.
ـ لا يهم كل هذا الكلام… لقد بدأت حياتي.. استطعت محو طيفك الذي لاحقني كثيرا… لذا إبتعدى عن طريقي.. و إبحثى عن شخص آخر يستطيع تقبل الألم… واللعب بمشاعره… ذلك الشخص الذى يستسلم ويتحمل أي فعل منك .

تركها وركب سيارته ، قرر الابتعاد، لم ينظر للوراء، لم ينظر لها ولا حتى عبر مرآة السيارة.
هرول ليترك وراءه كل آلم وحزن لحق به معها ، قرر التمسك بقلب ظل واقف معه في أشد أوقات ضعفه ، لم يطالبه بأي مقابل ، لم يطالب سوى برؤية ابتسامة خفيفة تعتلى وجهه الحزين العابس، وأظن أنه حان الوقت للمرح من جديد.