مثلت عمليات الدمقرطة أو التحول الديمقراطي الظاهرة العالمية الأهم خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، ففي منتصف السبعينيات شهد العالم ما أصبح يعرف اليوم بالموجة الثالثة للديمقراطية التي بدأت في البرتغال مع حركة القرنفل في 1974 و اسبانيا بعد وفاة فرانكو ثم اليونان بعد سقوط الحكم العسكري، ثم انتشرت إلى أميركا اللاتينية و بعض أجزاء أسيا وخلال الثمانينيات امتدت إلى أوروبا الشرقية و الاتحاد السوفييتي وبعض أجزاء القارة الإفريقية في أواخر الثمانينات و أوائل التسعينيات.
إن الحكم الديمقراطي في القرن الحادي و العشرين حيث سرعة التعبير و اتساع نطاقه والتطور التكنولوجي الهائل في وسائل الإعلام و الاتصال يعني أكثر من مجرد انتخابات أو إجراءات جزئية، انه عملية متكاملة بل انه “هندسة سياسية” تؤدي في الأخير لتحقيق دولة الحق و القانون و الجودة السياسية على مستوى نظام الحكم التي تكرس الديمقراطية المشاركاتية.
يعتبر مفهوم التحول الديموقراطي من المفاهيم التي شغلت طموح المجتمع السياسي بدول العالم العربي، فكل المجتمعات يعلقون آمالا واعدة على المرحلة الراهنة، ويستبشرون خيرا بما قد يحصل سيما وأن فكرة الانتقال نحو أنظمة تعترف بحقوق الفرد وحرياته وبفائدة التعددية السياسية، قد فرضت نفسها في العالم، فالديموقراطية أصبحت تحتل القيمة الأولى في سلم المعايير السياسية، كما أضحت مطلبا من بين المطالب الاجتماعية الأولى، بل من الضرورات والاحتياجات الأولى التي أصبح المواطن العربي في حاجة ماسة إليها، في البداية لابد من تمييز التحول الديمقراطي عن الانتقال الديمقراطي : فالأول هو مرحلة متقدمة على الانتقال الديموقراطي وتتميز بالصعوبة والتعقيد، ويتمثل التحول الديموقراطي في التغيير البطيء والتدريجي للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في بلد ما.
لكل دولة نسختها من الديمقراطية أو غيابها، ولكل مجتمع عناصر الدفع التي أدت إليها أو أعاقتها وهذا التفاعل بين العناصر المختلفة هو الذي شكل لكل نظام ديمقراطي صيغته النهائية. بيد أن أنماطا خمسة مع هامش من الخطأ في التعميم، يمكن رصدها في أدبيات التحول الديمقراطي. وفي كل نمط من هذه الأنماط كان هناك عامل أساسي، وليس وحيدا، يدفع نحو التحول الديمقراطي إما من قاع المجتمع السياسي أو من قمته، وإما من داخل النظام السياسي أو من خارجه، فهناك التحول الديمقراطي في أعقاب ثورات اجتماعية ، وهناك التحول تحت سلطة الاحتلال أو بالتعاون معه مثلما حصل في الهند، وهناك التحول الديمقراطي تحت يد نخبة ديمقراطية بعد انهيار الديكتاتورية في الدولة مثل اسبانيا وهناك التحول الديمقراطي عن طريق الانفتاح التكتيكي الذي يؤدي إلى مطالب ديمقراطية غير متوقعة، أخيرا نجد تعاقد النخبة المستبدة على انسحابها من الحياة السياسية بعد ارتفاع تكلفة القمع، وفي هذا النموذج النخب الحاكمة ليست قادرة على القمع ولا تملك القدرة على إدارة عملية التحول الديمقراطي ومن هنا يكون أفضل بديل ممكن لها أن تنسحب من الحياة السياسية بعد أن توقع عقدا يضمن لها عفوا سياسيا وبعض الامتيازات على ألا تقف حجر عثرة في مواجهة السلطة الحاكمة الجديدة مثلما حدث في اليونان في عام 1973 (1)..
عوامل تزايد الاهتمام بنشر الديمقراطية
تشير عدة دلائل إلي أن البيئة الدولية عقب انتهاء الحرب الباردة قد أفرزت ذلك التوافق بين القوى الكبرى‏ خاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي‏ حول ضرورة لعب دور أكبر لدعم التحول الديمقراطي‏،‏ وهناك جملة من التفسيرات التي تسهم في فهم ذلك التوجه الجديد أهمها التفسير الأمني أو نظرية السلام الديمقراطي‏ و اللبيرالية الديمقراطية -التي هي حسب “فرانسيس فوكوياما” نهاية التاريخ بانتصار للديمقراطية الليبرالية الأميركية- ،‏ ويذهب هذا الاتجاه إلي أن تبني سياسة نشر الديمقراطية يعمل في التحليل الأخير علي دعم المصالح الأمنية للقوى الكبرى‏، وتطبيع المجتمعات المختلفة من خلال تقليص نفوذ الاتجاهات والجماعات الراديكالية‏ وهي التي صنفت باعتبارها الخطر الأكبر بعد تفكك الاتحاد السوفيتي‏.
وتتبني طائفة أخرى من التفسيرات المبرر الأيديولوجي،‏ ويري هذا الاتجاه أن انتهاء الحرب الباردة كان إيذانا بانتهاء أو فشل النموذج المنافس للدول الغربية سياسيا واقتصاديا، وبالتالي فإن نشر الديمقراطية يعتبر محاولة لبناء نظام ما بعد الحرب الباردة بشكل متسق مع البناء القيمي والمؤسسي الداخلي للدول الغربية الكبرى ومحاولة تحقيق النمطية السياسية من المنطلقات اللبيرالية.
يمكن القول أن اهتمام الدول الكبرى بالديمقراطية يتوازي مع الخطاب الذي يسوق مبررات مصلحية أو أيديولوجية لتفسير تزايد اهتمام القوي الكبرى بقضية الديمقراطية ‏هو خطاب متشكك يرى أن الاهتمام بالديمقراطية هو مجرد اهتمام خطابي تستخدمه القوي الكبرى كورقة ضغط وبشكل ذرائعي ومتقطع‏ لتحقيق مجموعة من المصالح البراغماتية.‏
كما أن إستراتيجية نشر الديمقراطية قد اقتصرت علي حالة دعم التحول الديمقراطي في دول شرق ووسط أوروبا، وبعض الجمهوريات السوفيتية السابقة‏،‏ وهو ما يفسره التغاضي عن تقييد الحريات وانتكاسات الديمقراطية في الدول الحليفة التي لم تتأثر أهميتها بانتهاء الحرب الباردة‏ لاعتبارات إستراتيجية‏‏، ومن ثم‏‏ فقد ظلت الاعتبارات المصلحية -خاصة الأمنية‏ – حاكمة في رسم السياسة الخارجية للقوى الكبرى بالرغم من التصعيد الخطابي لقضية الديمقراطية‏.‏ ويشير الواقع إلي صورة مختلطة‏‏ وبوسائل مختلفة‏‏ باشرت فيها القوي الكبرى نشر الديمقراطية بدرجات متفاوتة من الجدية‏‏ تجاه الحالات المختلفة والفترات الزمنية المتعاقبة‏،‏ فعلى سبيل المثال‏‏ كان الدور الخارجي‏ خاصة دور الاتحاد الأوروبي الداعم للتحول الديمقراطي في دول شرق ووسط أوروبا واضحا ومباشرا‏ حيث اعتبر الإصلاح السياسي بوابة للانضمام إلي الاتحاد‏، كذلك لعبت الولايات المتحدة دورا مهما في دعم التحول في بعض الجمهوريات السوفيتية السابقة وبدرجة أقل في الدول الأوروبية الشيوعية السابقة وفيما عدا ذلك يعتبر السجل الأوروبي والأمريكي مختلطا علي أفضل تقدير‏،‏ فقد اتبعت الولايات المتحدة الأمريكية منذ رئاسة “بيل كلينتون”‏‏ آلية الربط بين المعونات الاقتصادية والتحول الديمقراطي‏ وهو الخط نفسه الذي تبناه الاتحاد الأوروبي في تقديم القروض والمنح إلي دول إفريقيا جنوب الصحراء وأمريكا اللاتينية علي وجه الخصوص‏، وتوافقت الدول المانحة في هذا الإطار علي تشديد “المشروطية السياسية” في بداية التسعينيات‏ سواء في معوناتها المقدمة بشكل مباشر أو من خلال المؤسسات المالية الدولية‏.‏
وفي إطار هذا السجل المختلط للإستراتيجية العالمية لنشر الديمقراطية‏، فقد ظلت الدول العربية ومنطقة الشرق الأوسط بوجه عام علي هامش تلك الظاهرة الجديدة من التدخل الدولي لإحداث تغييرات في نظم الحكم‏ حتى “أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001‏”.
“أحداث الحادي عشر من سبتمبر” و “الديمقراطية”
شكلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر والحرب علي “الإرهاب” تكريسا للفكرة التي تربط بين الديمقراطية والأمن في الخطاب الأمريكي علي مستوياته المختلفة‏‏ خاصة أن منفذي الهجمات لم ينتموا إلي دول فقيرة في الدخل القومي أو إلي طبقات فقيرة في دولهم‏ وبالتالي ساد الاعتقاد بأن الإحباط السياسي وفشل بناء الدولة في الدول غير الديمقراطية هو المنبع الرئيس “للإرهاب” و”الحركات الراديكالية”‏ بعبارة أخري‏،‏ أدت “أحداث الحادي عشر من سبتمبر” إلي تكريس مبدأ الربط بين الأمن والديمقراطية مع نقل المنطقة العربية من هامش الإستراتيجية العالمية لنشر الديمقراطية إلي مركزها.
وفي هذا الإطار طرحت العديد من المبادرات الأمريكية أو الأمريكية ـ الأوروبية المشتركة‏‏ التي صيغت لتحفيز الإصلاح السياسي في دول المنطقة منها مبادرة الشرق الأوسط الجديد‏،‏ ومبادرة الشرق الأوسط الموسع ‏.‏
وفي الوقت نفسه‏‏ صاغ كل طرف مبادرات منفردة للغرض نفسه‏‏ منها علي الجانب الأمريكي المبادرة المتقدمة للحرية‏، ومبادرة المشاركة مع دول الشرق الأوسط‏،‏ ومبادرة إقامة منطقة للتجارة الحرة مع دول المنطقة‏, ‏بالإضافة إلى تطبيق “نظرية تغيير الأنظمة” حسب الإستراتجية الأمريكية الأمنية التي نجدها تركز على أربعة مقاربات أساسية وهي: محاربة و مراقبة انتشار أسلحة الدمار الشامل، والسعي لحل النزاعات الاقلمية، وكذا تدعيم الدول الموالية لها بمعنى الدول المحورية، ثم رابعا المقاربة الإنسانية التي تقوم على الديمقراطية و حقوق الإنسان، وعلي الجانب الأوروبي مبادرة الجوار الجديد مع دول جنوب وشرق المتوسط‏ التي جاءت في إطار تطورات المشاركة الأوروبية ـ المتوسطية‏‏ المسماة بعملية برشلونة‏.‏
فلو نحلل جيدا أجندة الرئيس الأميركي “أوباما” الذي كان شعاره هو التغيير نستنتج أن هذا التغيير الذي يحدث الآن هو تغيير طبيعي و متوقع ومخطط له منذ زمن بعيد.
وما نشهده اليوم من ثورات شعبية مطالبة بالتغيير ما هو إلا جزء من المخطط الأميركي الذي تسعى من خلاله للهيمنة العالمية المطلقة و تحضير دول المنطقة العربية لمشروع الشرق الأوسط الكبير،لكن هذا لايعني أن أحداث تونس و مصر وليبيا التي تعتبر انتصار للإرادة الشعبية تدخل في هذا الإطار لكنها أتاحت فرصة إستراتجية وتاريخية للولايات المتحدة الأميركية وسهلت عليها العملية للتخلص من أنظمة فاسدة منتهية الصلاحية لم تعد تتماشى مع الأجندة الأميركية الجديدة .
الهوامش:
1-كمال المنوفي ، يوسف محمد الصواني ، ندوة الديمقراطية و الإصلاح السياسي في الوطن العربي، جامعة القاهرة 2005،(ليبيا: المركز العالمي لدراسات و أبحاث الكتاب الأخضر،2006)
*جامعي .