لم ينتهج اي زعيم عراقي سياسة التغيير الديموغرافي قبل الاحتلال الامريكي عن قصد وعمد كما الدكتاتور صدام حسين، الذي ترك لنا بسياسته الطائشة ورعونته ارثا من المشاكل التي لازلنا نعاني منها بشدة وقد تكون خطرا حقيقيا في حال استمرارها مثلما هي اليوم وبقائها دون حلول على مستقبل البلد ووحدته. فترسيخ التغيير الديموغرافي وتغذيته اكثر من سابقيه في محافظة كركوك حتى وصل الامر به الى تغيير اسمها ايضا، وصل الى مديات كبيرة ما ترك المحافظة اشبه ببرميل البارود الذي ان انفجر فان شظاياه تصل الى مناطق واسعة من العراق. ولم يكتفي النظام الدموي السابق بكركوك فقط بل تعداها الى قضم اراضي من محافظتي بغداد وكركوك ليشكل منها محافظة باسم صلاح الدين حيث مسقط رأسه، واستمر النظام البعثي “المنهار” بالتغيير الديموغرافي عندما ضم منطقة النخيب في محافظة كربلاء الى محافظة الانبار اضافة الى المشاكل الكبيرة العالقة في محافظة نينوى.

ما ان انهار النظام البعثي اثر الاحتلال الامريكي للبلد وبدلا من انتهاج سياسة منطقية تأخذ بنظر الاعتبار وقف التغيير الديموغرافي وصولا الى سلوك طرق سياسية وقانونية لاعادة الحقوق الى نصابها الحقيقي من قبل ساسة العراق الذي يراد له ان يكون جديدا، والتي بدأت بالمادة 140 غير المعمول بها لليوم “الا في نطاق التعويضات” على الرغم من دستوريتها. نرى سلطات بغداد وللهروب من مشاكلها تقدم على خطوة جديدة في التغيير الديموغرافي للبلد اشد واكثر خطورة من خطوة فاشيي بغداد من البعثيين، وهي انشاء محافظات شيعية في مناطق سنية مما يفتح الباب على مصراعيه لحروب اهلية ان لم تكن اليوم فغدا. ان وعد بلفور العراقي اي السيد المالكي بتحويل قضائي تلعفر والطوز الى محافظتين قد فتح شهية اقضية اخرى وبلدات اخرى كي تحذو حذو المدينتين، فها هي الكوفة وصفوان وخانقين وغدا بدرة وجصان والنخيب مثلا ستطالب هي الاخرى بتحويلها الى محافظات وقد تطول القائمة لتصل الى الكاظمية أو الاعظمية داخل بغداد.

ان عدم استطاعة المالكي من توفير الامن بالبلاد وعدم سيطرته على الكثير من مناطقها وكذلك فشله في توفير حياة كريمة “لمواطنيه” رغم العائدات المالية الكبيرة وكخطوة محسوبة للانتخابات القادمة هي ليست الوحيدة التي دفعته لاتخاذ هذا القرار الخطير، واذا تعكز على الدستور في وعده هذا فان نفس الدستور قد حدد سقفا زمنيا لانجاز المادة 140 ونفس الدستور يتحدث عن مناطق متنازع عليها. بل هناك خطوة اخرى هدفها تعميق الشرخ الطائفي وتهديد المحافظات “السنية” بحقول الغام باتخاذ المحافظات الشيعية المزمع تأسيسها عامل عدم استقرار فيها، متناسيا ان عدم استقرار اية محافظة او مدينة في البلد يلقي بظلاله على الوضع الامني للبلد ككل. واذا كان المالكي لا يستطيع اليوم من تأمين هذه البلدات من هجمات الارهابيين سواء من داخل البلد او من خارجه، فكيف سيستطيع تأمينها مستقبلا وما هي الاليات التي ستتخذ؟ ولماذا لا يتخذ مثل هذه الاليات اليوم ان كانت متوفرة؟

ان عدم حل المشاكل القومية والدينية على اسس ديموقراطية صحيحة وسليمة واللجوء الى القوة او فرض سياسة الامر الواقع في حلها تزيد حتما من كم المشاكل التي تتناسل بشكل يومي. كما وعلينا الاستفادة من تجارب الشعوب الاخرى في حل مشاكل التغيير الديموغرافي عندها ودراسة تجربتها بشكل جيد واقرب مثال لنا هي مشكلة ناغورني قره باخ بين الارمن والاذريين والموروثة من الحقبة السوفيتية، عندما منح السوفييت اواخر العام 1920 اقليم ناغورني قره باخ الى اذربيجان بدلا من ارمينيا حسب وعود سابقة في خطوة لاستمالة تركيا الى جانب السياسات السوفيتية . والتي انفجرت كمشكلة عرقية دينية في حرب امتدت بين عامي 1988 و 1994 ليذهب ضحيتها الالاف من الابرياء. فهل يريد المالكي ان يشعل مستقبلا حروبا بين العرب السنة في الموصل والتركمان الشيعة في تلعفر، ومثلها بين عرب كركوك السنة وكوردها مع التركمان الشيعة في الطوز؟ اليس من الاجدى للمالكي ان يتعامل مع المسألة القومية والطائفية بروح رجل الدولة الذي عليه بسط سلطان نفوذ الدولة على كل شبر من اراضي بلده بتوفيره الامن وفرص العمل وتوزيع الثروة بشكل عادل؟ وهل زيادة عدد المحافظات سينهي مشاكلنا العديدة او يقللها؟

ان تصرفات المالكي وقراراته الاخيرة توحي بانه يتبارى مع بايدن “ان كنّا حسني النية” على من هو الاسرع في تفتيت العراق كدولة، ويبقى بايدن لليوم اكثر “وطنية” من المالكي لانه ينادي بتقسيم العراق الى ثلاثة اقاليم على اساس طائفي وقومي فقط مع بقاء بغداد كعاصمة ادارية، اما المالكي فانه يريد نسف حتى هذه الأقاليم عن طريق اشاعة الفوضى في الحياة السياسية والامنية في البلد.

ان المالكي اليوم يشكل خطرا كبيرا على مستقبل العراق ووحدته كما يشكل عامل عدم استقرار سياسي نتيجة هيمنته على مراكز القرار الاكثر اهمية في البلد علاوة على تحكمه بالثروة وطريقة صرفها. واذا لم يعمل حلفاءه من داخل البيت الشيعي او من خارجه ممن اوصلوه لكرسي رئاسة الوزراء على لجم تصرفاته – ان كان لديهم لليوم حس وطني – فان البلاد ستكون امامها اياما اكثر سوادا مما هي عليه اليوم وسيدفعون على يديه وحزبه الثمن واحدا تلو الاخر ليقولوا ساعتها “اكلنا يوم اكل الخروف الابيض“. ومن الواضح ان المالكي يريد البقاء بالسلطة حتى لو بلغ الامر به ان يكون عرّابا للفوضى بالعراق.

عراق اليوم ولينهض من جديد بحاجة الى بسمارك ديموقراطي يوّحده وليس الى رجل طائفي يمزقه.