الدعاء هو مخ العبادة ، ومخ الشيء باطنه ولبه . والتحويلات التي تطرأ على ما يغلف ذلك المخ إنما هي من إنتاج هذا الأخير . ونحن لا نحس بتلك الحركات اللطيفة ، ولا بتلك البناءات الكثيفة ورغم ذلك فحقيقة البناء سائرة وطرق التحولات غائرة .
هكذا قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : الـدعاء مخ العبادة . ولكن ما أثر الدعاء في تغيير السنن الثابتة وفي القضاء المحتوم والهدف المرسوم ؟ ، لقد جاء في كتاب كرين برينتون أن الدعاء لا فائدة منه ما دامت القوانين متحكمة في ما نراه ونتعامل معه من السنن الكونية الثابتة .
وكانت المادة إلى وقت غير بعيد يظن أصحابها – أصحاب النظريات المادية – أنها صلبة وأنها متماسكة وما عداها فهو الخرافي الغير موجود اللهم إلا في العقول التي لا زالت ترين عليها الخرافة . وصاح في يوم من الأيام الفيزيائي إسحاق نيوتن وقد هالته الأمور الغيبية أو بتعبيره الأمور الميتافيزيقية أيتها الطبيعة احفظيني مما بعد الطبيعة . ويعلق الكاتب : فيا للأسف لن تقدر الطبيعة أن تفعل أكثر من ذلك .
لأن الطبيعة انحلت إلى ذرات والذرات انحلت إلى إشعاع والإشعاع هو نور فهو يرتفع قليلا عن مجال الميتافيزيقا المبهم. بل هو في الغموض أغرب فهذه المادة الصلبة ما هي إلا نور ، فهل هناك أغرب من هذا القول ؟ يا سيد نيوتن فالصلابة التي كنت تحتمي بها من غموض الميتافيزيقا قد جاورت بل شابهت بل التحمت مع غرابة الميتافيزيقا.
فالعالم المتبحر في تركيب مواد الكون قد التقى بجانب روحي نوراني غير قابل للإمساك فبعد أن كانت المادة هي هذه الصلابة التي ” بين يديك وتحت قدميك وأمام عينيك ، صارت ليست هي هذا اللون المنظور، لأنك لا تنظره إلا بشبكة العين الإنسانية فإذا ضاقت أمواجه أو اتسعت فلا لون أمام عينيك ، وليس هذا اللون بعينه منظورا لكل ذي عين من الأحياء.
وليست المادة هي هذه الدقة التي تسمعها إذا ضربت المائدة بيدك، لأن يدك لا تدق شيئا إذا تضاعفت قوتها مئات الأضعاف أو ألوف الأضعاف، بل تجري دون المائدة كما تجري في هذا الفضاء وليست المادة هذا الوزن الثقيل أو الخفيف، لأنها تقوم بغير هذا الوزن وراء حدود الجاذبية الأرضية.. المادة ذرات، والذرة لا يدري أحد أهي موجة أو جوهر فرد صغير بالغ في الصغر ولكنه يقبل الانقسام فيطير شعاعا في الأثير. وما هو الأثير ؟ كل ما قيل من قبل عن الروح أيسر فهما وأقرب إلى الإدراك من هذا الأثير”.
ويقول إدنجتون: ليس الأثير نوعا من المادة، فهو لا مادي. ومن ثم أصبحت المادة تظهر في صورة طاقة، وأصبحت الطاقة تتشكل في صورة المادة ، ذلك أن الكتلة طاقة مركزة حين تتحرك بسرعة الضوء نسميها طاقة أو إشعاعا ، وإن خمدت الطاقة وأدركنا كتلتها نسميها مادة .
وقانون الأحداث كذلك نجده متداخلا مع ما تظهر لنا من أعمال البشر وما وراءه من تسطير القدر. وتلبس الروح بالمادة وظهورها في ثوب الجسد الفاني ، وقيام الجسد بالروح واختفائها يهدم الجسم الذي كان تحت إدارتها .
لقد قال نيتشه ” إنه لشيء مخجل أن يبتهل الإنسان بالصلاة ” . ويرد ” أوليفر لودج ” وهو من أشهر علماء الرياضة والطبيعة، على القائلين بمخالفة الصلاة – أي الدعاء- للسنن الكونية فيقول: ” إنهم يتوهمون ذلك لأنهم يحكمون على الصلاة حكمهم على ظاهرة طبيعية خارجة من حدود الكون. ولكنها في الواقع ظاهرة كونية يحسب حسابها في أعمال الكون كما يحسب حسابها في سائر الحوادث التي تقع في حياتنا بغير صلاة .. وإذا كانت الصلاة تربية نفسية ، فلماذا يحسب المعترضون أن هذه التربية ليست سببا لتحقيق بعض الحوادث كما تسببها كل تربية يتم بها استعداد الإنسان لغاية من الغايات ؟ “.
وفي المجال الكوني نتعامل مع الحقيقة الظاهرة والحقيقة المستترة ، ولا تقف هذه في طريق تلك. فالعالم الذي يعرف أن اللبنة في بناء الكون تتمثل في الإشعاع ، ويعلم أن الجدار غير متماسك، لا يمنعه هذا العلم من اتخاذ البيوت للسكن والاحتماء والوقاية من تقلبات الطقس ومظاهر تقلبات الجو. كذلك هو لا يقنع ولا يقف عند الظاهر المادي للكون، بل يتجاوزه وينزل إلى أعماقه التي تختفي فيه حقيقة المادة التي يقف على صلابتها وتماسكها.
وكذلك حقيقة الدعاء فإنه إن لم يغير بصورة مباشرة سنن الأحداث ، فإنه لا بد أن يتدخل في تغييرها بصورة لطيفة جدا . لأننا لا نعرف جميع العوامل التي تتدخل في سير وتناسق الأحداث ومن ثم فإننا نجهل قيمة الدعاء في التغيير.
” فلا الدين ولا العلم يقضيان على الإنسان أن ينكر حقيقة النواميس الطبيعية . ولكن وجود الإله قائم في ضمائرنا على إيماننا بأن النواميس الطبيعية وحدها لا تغني الإنسان عن الاتصال بخالقها لأن وجود النواميس لا يلغي عمل الإله، ولا يعني أن الاتصال به والانقطاع عنه سواء”.
“وسنة الله لا تبديل لها حقا، ولكننا لا نعلم من سنة الله إلا ما نهتدي إليه بعقولنا وهداية الله. وقد تكون سنة الله في نصيب الإنسان موقوفة على تربية نفسية تحققها الصلاة، وقد تكون هذه التربية النفسية سببا مشروطا للسنة الإلهية لا يجوز للمؤمن تعطيله ، أو لا يجوز له أن يدعي القضاء فيه باسم الإله”.
وشيء آخر متعلق بطبيعة الإنسان ذاته، ذلك أن إرادة الله متمثلة في طبيعة الإنسان ، وأن من طبيعة الإنسان أن تطلب الغوث عند الحاجة إليه، وأن طلبه من غير الله عبث مع الإيمان بوجود الإله القادر على كل شيء. فإذا اندفعت طبيعة الإنسان إلى طلب الغوث من الله ، فمن أين له إذا قمع هذه الطبيعة أنه يخالف إرادة الله؟ ومن أين له أن الاستجابة هي كل ما يرجى من الدعاء؟ ومن أين له أن الدعاء نفسه ليس هو سبيل الاتصال بالله من جانب الإنسان ، لأنه في ذاته عمل من أعمال النفس التي تدل على سجية من سجاياها وإن لم يكن لها جواب؟.
ونعود إلى الرياضي الكبير أوليفر لودج لأن الرياضيين من أقدر الناس على فرض الفروض التي تحل المجهولات ، فنقول : لماذا نحسب الصلاة خارقة للنواميس (القوانين) الكونية وهي ظاهرة كونية كسائر الظواهر التي تحدث كل يوم في هذا الكون ؟”.
فنحن نتعامل مع هيكل الكون ظاهره وخافيه . فظاهره مهم وهو للعامي – وللعالم أيضا- المجال الذي يحكمه في أعماله ويتكئ على صلابة وثبات قوانينه . وهو للعالم – بدون العامي- المجال الذي يتعامل به ويصنع ، من ثم ، له وللعامي الأدوات والمركبات والمَرْكبات التي تعينه في الحياة . ونحن نتعامل مع الأحداث ما يقوم به كل إنسان وما ينسجه بيده، ونتعامل مع الأقدار المصرفة لهذه الأعمال. فنكون قد جمعنا بين الكتابين، كتاب الكون بظاهره وخافيه ، وكتاب الله بظاهر الأحداث وخافيها .
فالمسلمون “عرفوا أن الله هو الفاعل –وحده- وعرفوا كذلك أنهم مأمورون من قبل الله في اتخاذ الوسائل والأسباب، وبذل الجهد، والوفاء بالتكاليف، فاستيقنوا الحقيقة، وأطاعوا الأمر ، في توازن شعوري وحركي عجيب”. وهذا هو التوازن.
فرغم معرفة الفيزيائي أن المادة هي الطاقة –وهذه حقيقة علمية- إلا أنه يتعامل مع هذه الحقيقة بما يظهر للرجل العامي البسيط .. وهذا هو التوازن .
فالله سبحانه وتعالى هو الفاعل .. وهذه حقيقة. إلا أنه على الإنسان أن يعمل كالجاهل الذي لا يعرف الله . وهذا هو التوازن .
فتكون النظرية المعرفية العلمية السليمة كالتالي :

ظاهر الكون
ــــــــــ
الأسباب
المعرفة =ـــــــــ
قدرة الله