د. حميد لشهب : يكتب

 

سؤال يختبئ ضمنيا في كتاب: “عودة ليليت”[2] للشاعرة اللبنانية الموهوبة جمانة حداد عندما تاهت في متاهات عالم ذاك الوجه الأسطوري-الحقيقي: ليليت. و هو سؤال مشروع لابد من طرحه على الرغم من طبيعته الإحتمالية، ليست لها أية صلة بالواقع الفعلي المباشر.

ليليت، حسب ما نستشفه من الكتاب، هي الوجه المكبوت، المستبعد، المقصي، بل و المنفي في أسطورة الخلق. اعتراني شعور غريب ـ و أعترف أنني لم أكن أعرف أي شيء عن ليليت[3] ـ عندما علمت أن حواء لم تكن المرأة الأولى، بل سبقتها ليليت في الوجود. و كآدم فإنها خلقت من تراب: “ثم خلق الله المرأة على صورته من التراب في اليوم السابع خلقها من فرط الحياة عند احتمالها خلقها ليليت”[4].

تتلاشى خيوط الأسطورة في سومر و كنعان و غيرها من الحضارات الأخرى: “لُقبتُ بجنية الليل المجنحة و سماني أهل سومر و كنعان و شعوب الرافدين إلهة الإغراء و الرغبة، و سموني إلهة اللذة المجانية و شفيعة الإستمناء …”[5] لتصبح واقعا دينيا لا غبار عليه في أوائل الكتب المقدسة: “جاء في تفسير الكتاب الأول أني من تراب خُلقت و جُعلت زوجة آدم الأولى فلم أخضع”[6]؛ فارضة علينا بذلك وعيا جديدا، ليس فقط بوضعية المرأة، بل و بالذات الإلهية نفسها. و بهذا نلمس السؤال الضامر القنبلة لجمانة حداد، و هو سؤال لم تطرحه علانية، بل تدفعه لنا من تحت الطاولة، لنتأمله تخمينيا و نحاول أن نفهم ـ إذا كان هناك فهم ـ علاقة الله بليليت، و بالتالي بالنساء، و سر تعويضها بحواء، و سبب خلق هذه الأخيرة من ضلع آدم، حسب الكتب المقدسة.

“عودة ليليت” بهذا المعنى هي عودة الوعي بجزء مهم من تاريخنا النفسي ـ الديني، بجزء من ذاك المقدس المكبوت، و تاريخ المقدس في بعض جوانبه يشبه تاريخ الإمبراطوريات في انتقاء الأحداث طبقا لحاجيات و أهداف بعينها تخدم شخصا معينا أو مجموعة من الأشخاص، و لربما فئة خاصة.

استماتة ليليت في الدفاع عن حق من حقوقها يعري عن واقع متحيز و مأساوي لصالح الرجل. و هو واقع وُرث بعد ذلك في أرض الواقع “ليهب” لنا التاريخ المقدس العقلية الأبيسية، التي دخلنا و ندخل سجنها متطوعين و طائعين، ذكورا و إناثا دون سؤال و لا تسائل، و بذلك يكون المفعول التخديري للمكبوت قد فلح في بتر جدع التفكير فينا، و بفضل “عودة ليليت” يضع تاريخ الأدب العربي المعاصر بين أيدينا فرصة الدفاع عن الفكر النقدي لكي لا تُقلع جذور التفكير ـ السؤال، لمحاولة الإفلات من الفكر التبريري، الذي يفرض منطق الإقرار و القبول و يوهم بأن السؤال حرام و طرحه من الكبائر. لابد و الحالة هذه أن تقلب “عودة ليليت” طريقة تفكيرنا رأسا على عقب، لنتحرر من سلاسل وُضعت من حوالينا، إذا نحن أردنا التفكير الجدي في العلاقة التي تربطنا بعالمنا الرمزي، و بالخصوص ما ورثناه عن هذا العالم فيما يتعلق بالصورة الذهنية ـ النفسية لفكرة طبيعة المرأة و فكرة الحق و العدل في تصورنا الديني. و للإشارة، فإن الإسلام ـ حسب ما أعرف ـ لم يذكر ليليت ببنة شفة، في الوقت الذي نجد ذكرها واضحا في اليهودية و المسيحية. بل نجد أثارا واضحة لها في الإرث الثقافي المسيحي الغربي على مر العصور سواء عند مشاهير الرسامة كميخائيل أنجيلو و دانتي غابريال روسيتي أو عند مشاهير الأدباء كجوتي في “فاوست” و في قصص غريم و جورج برنار شاو و غيرهم كثير.

طُردت ليليت من الفردوس و رُمي بها في غياهب براري الكون، لسبب بسيط – حسب الرواية الدينية نفسها- و هو أنها طالبت بحق حق، على اعتبار أنها خُلقت من نفس طينة آدم، يتمثل بحق “التدحرج من التحت إلى الفوق” أثناء المضاجعة. لكن آدم رفض هذا و استنكره مدعيا أنه أحسن منها، دون تقديم أي دليل على ذلك. ألصقت لليليت تهمة العصيان و التمرد و محاولة قلب النظام الأبدي للعلاقة بين الجنسين. لا داعي للتذكير أن “أذاب” المضاجعة في الإسلام مثلا تحث على الإحتفاظ و المحافظة على هذا النظام الأزلي، و أنه “حرام” – بلغة فقهاء الحيض و النفاس و الفرقة الناجية – على المسلمة “التدحرج من التحت إلى الفوق” أثناء معاشرتها لزوجها.

يبدو عقاب الله لليليت بإقصائها من الجنة تدخلا صارخا له في العلاقة الحميمية بينها و بين آدم. و السؤال الذي يجب هنا طرحه هو: لماذا لم يُعاقب آدم، أو على الأقل لم يُوبخ، لرفضه حقا مشروعا لليليت؟ و هل كانت مطالبة ليليلت بحق من حقوقها كافية لإخراجها من الجنة؟ لماذا لم يتدخل الله للصلح بينهما؟ لم يتوقف العقاب الإلهي لليليت عند هذا الحد، بل تعداه “بوهب” آدم زوجة ثانية – تماما كما يعمل الأباء و الأمهات المتسلطون في العالم العربي و لربما الإسلامي برمته عندما لا تكون عروس “الإبن” “طائعة”، “خاضعة”-. تجاوز العقاب إذن حدوده الطبيعية – على الرغم من جوره- ليصبح نوعا معينا من “الإنتقام” من ليليت، و بالخصوص عندما اختار الله طريقة جديدة لخلق المرافقة الجديدة لآدم: حواء.

لا تنتهي حكاية ليليت هذه على هذا المشهد الدرامي، بل تستمر على مستوى أعقد، يوحي بأن ليليت لم تكن مرأة مغلوب على أمرها و لا “ولية” انكمشت على نفسها في ركنها، بل نكتشف على هذا المستوى سر الأسرار في محاولة مسح ليليت من ذاكرة الأسطورة عامة و الدينية الإبراهيمية خاصة: غرس صورة المرأة الطائعة.

لم تستلم ليليت لقدرها و لم تقبل أن تصفع لأنها طالبت بحقها، بل حاولت بكل قواها الدفاع عن كرامتها و لو من قاع السجن. ما نكتشفه على هذا المستوى و ما لا تذكره التأويلات الصفراء للكتب المقدسة هو وجه آخر لله: حق الدفاع عن حق مشروع مضمون من طرف الله نفسه. فصورة الله الجبروت، الذي تحيز لآدم و تدخل بيد من حديد في مشكلته مع ليليلت، يُعوض هنا بصورة الله الضامن لحق الرد و مقاومة الظلم.

تساعدنا جمانة حداد في “عودة ليليت” في توسيع معرفتنا بقصة “الخطيئة الأولى”. إذا كانت الكتب المقدسة تؤكد على إغواء حواء لآدم بدفعه للأكل من “الشجرة المحرمة”، بإيحاء من الحية/الشيطان، فإن ما نكتشفه هو أن الحية لم تقم بما قامت به بمحض إرادتها، بل بأمر من ليليت[7]، الممسوسة في كرامتها. فبحجرة واحدة استطاعت الإنتقام لكرامتها و لشرفها ممن اختيرت عنها لآدم و من آدم نفسه، ليكون مصير الإثنين معا الهبوط إلى الأرض، و بالتالي من الحياة الأبدية، ليُصبحا قابلين للموت، في الوقت الذي احتفظت فيه ليليلت بالحياة إلى الأبد.

ما يُمكن استنتاجه على هذا المستوى من التحليل هو أن الله في رحاب عدله، سمح لليليت باستعمال كل الوسائل التي كانت بيدها من أجل الدفاع عن نفسها و استرجاع كرامتها، و لو بالتضحية بحواء المسكينة، التي كانت ضحية أكثر من مرة: إخراجها من ضلع الرجل، ثقتها فيما حكاه لها آدم من أكاذيب عن ليليلت و تصويرها لها كشيطانة ماردة. و عدم قبول الصلح بينها و بين ليليلت، و هو صلح اقترحته ليليلت نفسها.

إذا كان بإمكاننا إعادة تصور قصة “الخطيئة الأولى” على ضوء قصة ليليلت، فإن ما يمكن استنتاجه هو تأكيد الخالق على هذين النموذجين النسويين: المرأة الغاضبة، الثائرة، الواثقة من نفسها، المطالبة بحقوقها، الكريمة، القوية الشخصية، و نموذج المرأة الأداة، الطائعة، المفعول فيها إلخ. و حتى و إن كان هذين النموذجين مشخصان في التقليد اليهودي المسيحي في امرأتين، و حتى و إن كانت مقصلة التأويل الأبيسي المحافظ قد قص قصا و حذف حذفا قصة ليليت، فإن خصوصيات هاتين المرأتين مجتمعة في كل مرأة، و بما أن الله – كما رأينا- لا يحرم أحدا من حقه و المطالبة بهذا الحق و مساعدته على الوصول إلى هذا الحق بكل السبل، فمن واجب كل مرأة، بغض النظر عن دينها و ثقافتها و انتمائها العرقي، أن تدافع عن ليليلت القابعة فيها و تُفعل فلسفتها فيها و تشعل فتيل الحرب و اللجوء إلى الحية إذا كان ذلك ضروريا لصون كرامتها الأنطولوجية، يعني تلك التي غرسها الله فيها. فقد شبع تاريخ البشرية عامة و تاريخ المسلمين خاصة من المرأة “حواء” و نحن ننتظر خروج ليليلت من سجنها، مادام آدم عامة و المسلم خاصة لم يكن في تاريخه الطويل إلا أنانيا، كذابا، منافقا، لا يمكن، بل لا يجب أن ننتظر منه لا عتق رقبة حواء، حبيسة عقلية أبيسية نرجسية و لا وعي واقعه البئيس، حيث لا يمكن أن يعيش دون حواء، و لم يستطع لحد الساعة التخلص من كابوس ليليت. فلتحيى ليليت و ليمت جبروت الرجل الذي لم يفهم أسرار الله.

 


[1] د. حميد لشهب، نمساوي من أصل مغربي، يعمل خبيرا سيكولوجيا و بيداغوجيا بكل من النمسا و إمارة الليكتنشطاين. عضو المجلس البلدي لمدينة فيلدكيرخ بالنمسا. نشر له أكثر من 20 كتابا بالعربية و الفرنسية و الألمانية.

[2] جمانة حداد، عودة ليليت، دار النهارللنشر، بيروت، 2004. ترجم هذا الكتاب إلى الألمانية من طرف  Heribert Beckerو نشر هذه السنة 2008 عن دار النشر الألمانية هانس شيلر Hans Schiller.

[3] أعتقد أن الأغلبية الساحقة من المسلمين لا تعرف للأسف هذا.

[4] نفس المرجع السابق، ص. 15.

[5] نفس المرجع السابق، ص. 11.

[6] نفس المرجع السابق، نفس الصفحة.

[7] هناك لوحة جميلة للفنان ميخائيل أنجيلو تذكر بهذا.