اغتسل ولبس الجديد، واتجه رفقة ابنه الأكبر إلى المقبرة. فالميت ضيف، والدخول على الضيف، يستلزم بعضا من الآداب ..

 

أن يرافق المرء أهله وأبناءه .. ليتعلم الأبناء، أن زيارة الميت كزيارة الحي، وأن قطع الصلة بالأموات، لاتقل جرما عن قطع الصلة بالأحياء. وأن من تجرأ على قطع ومنع زيارة الرفات، هان عليه قطع حبال الأخوة والأخوات. وأن فضل زيارة من في باطن الأرض، يساوي في الفضل من هو فوق الأرض.

 

للمرء جذور، تمتد من باطن الأرض إلى أعلاها، والعاقل من يحرص عليها بالزيارة، والصدقة، والذكر. فالمرء يُعرفُ بماضيه، وكلما احترم العظام البالية، أحترمت الأجسام الباقية.

 

من تمام الرجولة وكمالها، أن يأذن الرجل للمرأة بزيارة الزوج المفجوعة في زوجها، والأخت المتضررة بفقدان الأخ، والأم المصابة بهلاك فلذة كبدها.

 

حين ينظر المرء من حوله .. يرى غلظة في الأفعال، وقساوة في الأقوال، وجفاء في الظاهر، وسوادا في الباطن. وحين يبحث عن السبب، يجد أن عدم زيارة الأموات من الأسباب الظاهرة، وأن منع الأهل والأولاد من وراء ذلك. فكلما ابتعد المرء عن الميت، ابتعد عن الحي. وكلما أحسن للأموات، أحسن للأحياء. فالإحسان خط ممتد، يشمل الحي والميت معا، فاحرص على الجميع، تنال فضل الجميع.

 

قال الأخ الأكبر لأخيه، بأيهما نبدأ، بالقراءة أم الدعاء؟ .. أجاب الأخ الأصغر، إبدأ بما شئت، فكل مايقدمه الإبن لوالديه، يصل لامحالة، وليس بين الولد والوالد حجاب. وبين يديك كثير، فقدّم ماستطعت، واغتنم فرصة حياتك، لتتقرّب بها إلى والديك. والولد الصالح جاءت في سياق مابعد موت الوالدين، فاحرص أن تكون صالحا في حياته ومماته، بزيارته والتصدق عليه، وبنعمه وفضله، التي لاتملك منها شيئا.

 

البارحة، تمّ تشييع جنازة إحدى الجارات، والسبب في ذلك أن وسيلة نقل اصطدمت بها داخل المقبرة، وقبل أن يمتد إليك طرفك، أمست تُزار، بعدما كانت تزور . إن موضع الميت، كغرفة النوم، يجب احترامه وعدم الدوس عليه. ودخول السيارات داخل المقبرة، من علامات انتهاك حرمة الأموات، التي لاتليق. وإن الذي وضع قانون السّير، ومنع استعمال منبّه السيارات في الليل وداخل المدن، كان عليه أن يمنع دخول السيارات بأنواعها للمقابر، ويمنع منبّه السيارات داخل المقابر وبجوارها، لأن كل مايزعج الحي ويقلقه، يزعج الميت ويقلقه، بل إن الميت أولى بالحماية والذود، لأنه دون حماية، وهو أحوج إليها من الحي.

 

رحم الله، إمام الأمة وفقيهها، أحمد حماني، حين ذكر في كتابه القيم، “فتاوى الشيخ أحمد حماني” .. أن كل مافي المقبرة، هي ملك للميت، لايحق لأحد أن يستولي عليه، أو ينتفع به،  بأيّ وجه من الأوجه، بما فيها حجارة المقبرة،.

 

مكانة المرء في صدر أخيه، بقدر عدد الزيارات، والدعاء له بالغيب، وكذلك الميت .. ومن كمال الضيافة، أن يجلس الضيف، حيث طلب منه صاحب البيت، لأنه أعلم بعورات البيت. ولايرفع صوته، ولايتقدم للإمامة، ولو كان أهلا لها، إلا بإذن صاحب البيت. ولاينصرف إلا بإذنه، ولو كان صاحب سلطان. والميت يُعامل معاملة الضيف، في كيفية الدخول والخروج، وعدم رفع الصوت، وإماطة الأذى عنه، وستره وعدم الكشف عنه.