في أكثر من ثلاثمائة صفحة يحدثنا محمود شقير عن رحلة عشيرة ( العبد اللات ) من البرية إلى مشارف مدينة القدس ، يحدثنا عن التحول من البداوة والدخول في المدنية ، عن هجر مضارب بيوت الشعر إلى البيت الحجري الحديث، عن ترك الرعي والزراعة ولو جزئيا للعمل
في مرافق المدينة المختلفة . عن هجرالدراسة عند الشيوخ ببيضة ورغيف إلى المدرسة الحديثة ، عن ترك الثوب البدوي إلى الفستان ،عن اشعال النار بالحطب إلى موقد الكاز ( البابور ) عن التحول من الحكم التركي إلى الحكم الإنكليزي . عن رجال ارغموا على خوض الحرب إلى جانب الأتراك ليعودوا جثثا أو يختفون ، وعن رجال حاربوا مع الإنكليز ليعودوا محملين قتلى على ظهور البغال .
يحدثنا محمود شقير عن رجال مزواجين يعشقون النساء والأبناء ، ويحبون الحكايات الشعبية والخرافات والبطولات والفروسية . يحدثنا عن نساء يعشقن وينجبن ويحببن دون حدود ، ويحلمن بالجن والشياطين ، أو يهرب بعضهن مع عشاقهن . عن الشحادين والباعة المتجولين
عن الجبليين وقرودهم التي ترقص للنساء ، عن الغجر وهجراتهم وفنونهم ،عن ثورات مجهضة وبطولات فردية .عن عادات وتقاليد وطقوس ومشاعر وأحاسيس وصلوات وأغان ترسم نسيج أرواح هؤلاء الناس ، وتسبر خفايا نفوسهم .
يحدثنا محمود بمحبة لا تخلومن طرافة عن طقوس الخصب عند هؤلاء الناس ، ليوحد بين خصب الأرض وخصب الأنثى . المواقعة الجنسية مع المرأة قد تتم في حقل الحراثة ،على ظهر البغل أو استلقاء على الأرض، ليبدو فعل الحرث مشتركا بين الأرض والمرأة . فكلاهما حرث ينتج عنه خصب ، لنجد أنفسنا وكأننا أمام طقس تموزي من طقوس ما قبل التاريخ .
وفي مواقعات أخرى يتم الطقس على البيدر بين حصيد الكرسنة ، أوبين القطيع الهاجع على نور القمر، ورائحة الخصب تتضوع منه . أو إلى جانب نار مشتعلة في البرية .
يوظف محمود شقير خبرة طويلة مع الكلمة في قرابة أربعين مؤلفا وأكثر من ستين عاما مع الكتاب وفنون السرد الأدبي ، ليبدو كساحر يجمع رزمة من الأوراق تتحدث عن أكثر من مائة شخصية ، ثم يشرع في سحبها ورقة ورقة ، دون أن نعرف كيف سحبها ، بما لا يتأتي إلا لمن خبروا فن السرد وأتقنوا سحر الروي . يسير بشخوصه بخطوط شبه متوازية وكأنه يسير بهم معا في آن واحد، فلا يطيل الحديث عن شخصية إلا لينتقل إلى أخرى ، والقاريء الذي لا يركز في القراءة قد يضيع ،غير أنه وإن ضاع سيجد نفسه مشدودا إلى متابعة الواقعة الحدث دون أن يعير كثير اهتمام لإسم الشخصية التي تجري معها الواقعة . فنحن لسنا أمام رواية شخصية ،أو قصة بوليصية تكتم انفاسنا ونحن نتابع مجريات البحث عن القاتل ، نحن هنا أمام بطولة جماعية نتابع فيها حياة هؤلاء الناس في مجتمع البداوة .وهذا لا يعني أن محمود أهمل رسم شخصياته ، أبدا ، فقد كان حريصا على تميز كل شخصية وتفردها عن غيرها . لكن كثرة الشخصيات والتنقل من واقعة إلى أخرى حال دون تركيز القارئ على الشخصيات . ورغم ذلك تعلق في الأذهان شخصيات كثيرة لا يمكن أن تنسى .
يسيرمحمود مع شخوصه خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف . إلى الأمام في ما هو مستجد وما سيستجد من أحداث ، وإلى الخلف لنعرف ماضي الأسرة أو ماضي الشخصية في الرواية . يتم السرد عن الماضي باستقراء ذاكرة الشخصية ، أو عبر حكايات الأم ، أو من قبل الراوي نفسه باسترجاع الماضي ، أو عبر أحلام الشخصيات . يتنقل بنا من حدث إلى آخر بتكثيف شديد ودون أية مطمطة أواستطراد .

يحدثنا محمود عن مشاجرات عشائرية قبلية ، عن أناس يغرقون في الينابيع أو في برك المياه .عن امرأة تلد طفلا بأذني حصان ، يجيد الصهيل .. عن شيخ دجال يزني بالنساء بذريعة تقديم دواء للنساء العقيمات ، وعند موته يتحول ضريحه إلى مقام يضاف إلى مقام آخر تقدم له النذور
وتجري فيه طقوس العبادة . يحدثنا عن جني يظهر للنساء في كلب أسود . يحدثنا عن فرس العائلة الغائبة الحاضرة التي تظهربصهيلها في الملمات من الأيام ، لتدخل الزمن الماضي بالزمن الحاضر ، مذكرة بالأصالة والحنين والوفاء إلى فارسها الراحل الذي قتل غيلة وغدرا ، يحدثنا عن رجال يقتلون الضباع والغيلان . يحدثنا محمود عن أم الغيث وموسم النبي موسى ، وعن أعراس هؤلاء الناس وأغانيهم . يحدثنا عن قطعان تجرفها السيول أو تسطو عليها الذئاب . يحدثنا عن الجدب ، عن أطفال يدهمهم فيضان فيغرقون في لجة مياهه . يكاد محمود أن لا يترك شيئا إلا ويتحدث عنه ، لنجد أنفسنا أمام كنز من التراث لا يستطيع أن يحيط به إلا من عايش هؤلاء الناس وخبر منجم حياتهم وتاريخهم الإجتماعي وأساطيرهم وحكاياتهم .
يأخذ محمود اسم عائلة من عرب السواحرة تدعى عائلة ( العبد اللات ) (باللام المضخمة ، كونها جمعا لمفرد عبد الله باللهجة العامية ) يأخذه محمود ليجعله اسما للعشيرة المنحدرة من أصول بدوية التي تتحدث عنها الرواية ، وليبقي على اللام مبهمة لتلفظ مخففة ، ليوغل بنا بعيدا في التاريخ ، إلى أناس كانوا يعبدون في الجاهلية وثنا يدعى اللات ، يرمزون به إلى الله ، فيتقربون منه ويتعبدون إليه ، وقد اقترن اسمه دائما في مدونات التاريخ بالعزى ومناة .
غير أن هذه الأصول الضاربة في التاريخ تغدو حقيقة حين نرى أبناء العشيرة يتقولون ويجذفون على العشيرة بنسبها إلى أبي جهل ، ألد أعداء الإسلام .
أقام محمود شقير بناءه الدرامي أو المحور الذي تدور حوله الأحداث ، على هجر البرية والرحيل إلى مشارف مدينة القدس . والمرور على شخصيات العشيرة هو لتحديد موقفها إما مع الرحيل أو ضده . وحين نكاد ننسى في غمرة الأحداث المتلاحقة ،الغاية من هذه الرواية يفاجئنا محمود بموقف شخصية من الرحيل .
غير أن هذا الحامل الدرامي للأحداث لا يغدو مهما إلى هذا الحد أمام سحر الحياة االميثولوجية لهؤلاء الناس ، فلا يترقب القاريء حدوث الرحيل بل وقد لا يهمه إن لم يحدث .
وأخيرا يتم الرحيل . لكن متى ؟ في الصفحة 144 و145 من الرواية :
( صبيحة يوم الرحيل كانت قاسية على الأنفس وعلى الأبدان ،نهضت النساء منذ الفجر ورحن يحزمن الأمتعة )
( توجه منان وأبناء عشيرته غربا ، يحملون على الجمال والخيول والبغال والحمير أمتعتهم ، وكانوا أسبق في الرحيل من عشائر عرب السواحرة )
سأكتفي بهذين المقطعين من الرحيل لأشير هنا إلى التداخل بين الواقع الفني المتخيل والواقع التاريخي الواقعي أو الحقيقي . فمحمود هنا يشير إلى عشائر عرب السواحرة وهي عشائر حقيقية ما تزال تعيش في أراضي جبل المكبر والسواحرة الشرقية ، بينما عشيرة العبداللات التي يقودها المختار منان هي عشيرة متخيلة . ثم إن بلدة رأس النبع التي يقيمها الراحلون على مشارف القدس هي بلدة متخيلة ولا وجود لها على الخريطة المقدسية . غير أن محمود يجعلها بلدة لها وجودها حين يجعل بعض الثوار وقادتهم يزورونها ، كالشهيد القائد عبد القادر الحسيني وبعض رفاقه . كما أنه يتطرق إلى بعض أبناء السواحرة الذين كانوا مع الثورة أو في جيش الإنقاذ.
لقد لجأت إلى التكثيف الشديد في تناولي لرواية محمود شقير ، لإعطاء فكرة عن الرواية وعالمها لا غير ، فلم أتوقف حتى مع الشخصيات الرئيسة في الرواية كمنان الذي تزوج ست نساء أنجب منهن أربعة عشر ابنا وست بنات ولم أتوقف مع أبيه الذي كان مزواجا أيضا ومات بعد رحلة مضنية في الحج . ولم أتطرق إلى الجد عبد الله الذي قتل على بئر ماء لتظل فرسه (تحمحم بالقرب من جثته ، وحين اشتمت رائحة دمه المتخثر ، راحت تشب رافعة قائمتيها الأماميتين إلى أعلى كأنها تطلب النجدة ، وحينما لم يصل أحد ، انطلقت تعدو مثيرة النقع خلفها ، ولم تتوقف إلا أمام مضارب العشيرة ) ( ص 35)
لم أتوقف عند شخصيات كثيرة ووقائع تستحق التوقف عندها ، لأن المجال لا يتسع ، ولا بد من مقالة مطولة تعطي هذه الملحمة الأدبية بعض حقها .
خلاصة القول : إن (فرس العائلة ) هي ملحمة أدبية بامتياز ندر مثيلها في الأدب العربي على الإطلاق ، ولا شك أن الروائيين العرب ، والفلسطينيين منهم بشكل خاص ، سيجهدون كثيرا
لبلوغ هذا المستوى من الخطاب السردي الرفيع ، الملم بكافة نواحي الحياة لمجتمع ما ، لما حواه من تكثيف في السرد ، وبلاغة في اللغة ، واستعارات طريفة ،وعادات وتقاليد راسخة وميثولوجيا مدهشة . ووقائع مصطفاة ونادرة .
إنه حديث الروح إلى الروح . روح محمود شقير إلى أرواح السواحرة والعيازرة والديسة والسلاونة والطورة والعبيدية والتعامرة والصورباهريين والعساسوة .. والمقدسيين جميعا ، والفلسطينيين إن شئتم .