مع تقدم العمر تكثر المعرقلات والمنغصات الروحية والجسدية التي تجعل من الصيام أمرا مستصعبا شديدا قاسيا. وكلما يتقدم العمر تقل قدرة المرء على تحمل متطلبات الالتزام الحرفي بالقواعد؛ ولاسيما تحمل قواعد الصيام الصارمة. وفي كل عام مع قرب حلول الشهر المبارك أفتح حوارا مع نفسي لأقنعها بأني غير قادر على الصيام في هذا العام ومن حقي أن ادفع الكفارة، وتقنعني بأن الإنسان يبقى قادرا ومتمكنا من أداء الطاعات ولو عَمَّرَ مثل نوح، وفي النهاية تنتصر علي فأردد بخشوع: نويت أصوم شهر رمضان المبارك، اللهم لك صمت. ثم لا تلبث أيام الشهر أن تنقضي وأنا أشد إصرارا على المطاولة.

في أيام الصيام أفقد ميزة واحدة حيث تتعطل عادة مشاريعي البحثية الكبيرة فأشغل نفسي بمشاريع صغيرة لا تتجاوز كتابة مقال بسيط أو متابعة قراءة المواضيع في المواقع التي أحبها أو حتى مجرد تسجيل ملاحظات عابرة. ومع أول يوم من أيام العيد تعود لي شهيتي للأكل وتناول أقداح القهوة والشاي والرغبة الجامحة بمتابعة وإتمام المشاريع الكبيرة المؤجلة التي بدأتها أو التي خططت لانجازها.  ومن الملاحظات التي سجلتها هذا العام في الساعات المأزومة التي ينهكني فيها العطش وقسوة الجو:

• بعد كم الكتب الدينية والعقائدية الكبير جدا الذي قرأته خلال أكثر من خمسة وأربعين عاما من عمري أدركت أن معرفتي بالله لم تتقدم مليما واحدا، وأني لا زلت لا أعرف عن الله أكثر مما يعرفه الأعمى عن ألوان الطيف الشمسي ومما يعرفه الطفل الرضيع عن سعة الأكوان وما يعرفه الجاهل الأمي عن عالم الذرة، فكم أنت عظيم يا ربي سبحانك.!

• مهما انغمس الإنسان في دنيا الدناءة والسقوط يستحيل أن يكون فاقدا للبراءة وخال من الفضائل بشكل كلي، فالإنسان سر الوجود، وامتلاك الإنسان لنعمة العقل وسعيه الدائب في تحدي المستحيل وغير المعقول هو الذي يزرع الطيبة في داخله حتى ولو كان اكبر شرير في الكون، فالعقل هو الذي أوصله إلى ما هو عليه اليوم بالرغم من دناءة أعماله على مر التاريخ.

• محطات العمر مثل محطات الحياة كلها متشابهة من حيث المآسي والتعقيدات والآلام والجوع والعري والظلم والحرب والقتل، وانتقالنا من واحدة منها إلى أخرى يعني أننا تخلصنا من هموم تلك وعلينا الانشغال بهموم هذه لكي لا تجتمع علينا هموم المرحلتين فننوء بحمل لا نقدر عليه فنفشل في تجربتنا، والفشل مر علقم يسبب الألم لك وللآخرين، فما أكثر الذين يصيبهم فشلك بالخيبة وأنت لا تدري.

• يرى البعض أن لا علاقة وجدانية تربط الإنسان بربه ولولا الخوف من النار لما بقي من الذين يعبدون الله بلا طمع في جنة أو خوف من نار ويتقربون منه لذاته لا لشيء آخر إلا وحدانا من بين مليارات البشر. ولو تمعن الإنسان بالمُرديات الموصلات إلى جهنم لوجدها مجموعة أعمال خسيسة لا يمارسها إلا من كان يحمل الدناءة والحقارة في أصل تكوينه، ويأنف نقي الثياب التقرب منها، وبناء عليه يجب أن لا يكون الخوف من جهنم هو الذي يدفعنا إلى الإيمان وإنما يجب أن نحكم نقاوة أرواحنا ونجعلها تهفو إلى الطيب بعيدا عن سبل الدناءة وبالتالي سيجد الإنسان نفسه أقرب ما يكون إلى ربه دون أن يخسر شيئا من متع الحياة.

• منذ الأيام الأولى لوجودنا على الأرض وإلى هذه اللحظة ونحن على يقين كامل أن بقاءنا مرهون بأفعالنا، ومع ذلك تجدنا نجازف كل يوم بأعمال وأفعال تقودنا إلى الفناء دون أن نلتفت إلى الخطر الداهم المحيط بنا وكأننا نستعدي الأيام ونستحثها على فنائنا. الغريب أننا حينما نتعمق بالتفكير نجد هناك مصدات وضعها الله بيننا وبين الموت لا نعرف سبب وجودها.

• الإيمان ليس أمرا مستصعبا معجزا ولكنه يبقى ناقصا إذا لم تحب لأخيك ما تحبه لنفسك: “لا يؤمن أحدُكم حتَّى يحِبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه”

• يرى البعض الإسلام في منتهى الصعوبة والتعقيد، أما أنا فأراه أيسر من أن نهتم بأمره ونقلق من تطبيقه، فدين يدخل امرأة النار في هرة حبستها ويدخل الأخرى الجنة في كلب سقته شربة ماء ويدخل الثالث الجنة لمجرد أنه رفع غصنا من الطريق: “مرَّ رجلٌ بغصن شجرةٍ على ظهر طريقٍ، فقال: والله لأُنَحِّيَنَّ هذا عن المسلمين؛ لا يؤذيهم، فأُدخِلَ الجنَّة” ويدخل رابعة النار لمجرد أنها تتكلم في جيرانها: “قيل: يا رسول الله، فلانة تصلِّي الليل، وتصوم النهار، وفي لِسانِها شيءٌ يؤذي جيرانَها، قال: لا خير فيها، هي في النَّار” إنما هو دين يهتم بالحياة.

• إلى كل الذين دخلوا قلبي عنوة أو طوعا أمركم يهمني مثلما تهمني نفسي وما أتمناه لنفسي في العيد أتمناه لكم وأرجو لكم ما أرجوه لنفسي من خير وأمن وسعادة ورفاه ونجاح، أسعد الله ايامكم