بعد صلاة الجمعة، ذهب رفقة أبنائه ليتجوّل عبر أجنحة معرض أقامته إداراة الغابات حول البيئة. وبعد ان استمتع الأبناء بمناظر النباتات، ومشاهدة مختلف الحيوانات، راح الأب يقلّب نقطة واحدة، لفتت الانتباه، ويقف عندها بتمعّن، وهي:

 

أن الحيوانات صغيرة كانت أم كبيرة، حين توضع في القفص تتحول إلى لعبة، يتسلى بها الكبير والصغير، لأنها تحرم مما يميّزها ..

 

فهذه النعامة التي تنافس السيارات في سرعتها وقوتها، تسجن بين أسلاك معدنية، وتحرم من ريشها الذي يزيّها ويقويها، فيتسلى بها الصغير قبل الكبير. 

 

والحصان الذي مازالت المدنية تعتمد على قوته في قياس قوة الباخرة، والسيارة، والآلات الضخمة. فيقال بقوة 100 حصان، أو 400 حصان، أو أزيد أو أكثر، يتحول إلى صورة صامتة تلتقط .

 

والصقر، الذي يضرب به المثل في حدّة البصر، ودقة الصيد، واختياره للأماكن العالية، يمسي أسير طفل، أعطاه أو منعه.

 

هذه الحيوانات وغيرها، تحرم العطاء، وتفقد قوتها وغريزتها، حتّى أن الزائر حين يراجع الصور التي التقطها أبناءه، يجدها صور جامدة لاتعبر عن روح القوة، والحركة الكامنة من هذا الحيوان الرابض وراء القفص.

 

إن الفكرة، تحتاج إلى حرية، لكي تنفجر ويستفيد منها الجميع، ويمكن تصحيحها وتقويمها عبر الزمن، ممن يملك الأحسن والأفضل، والأكثر فاعلية.

 

أما إذا وضعت الفكرة في قفص، ومنع صاحبها من أن ينشرها، ويفصح عنها، ومورست عليها ضغوطا شتى، لكي لاتنتقل لأهلها وأصحابها، ومن هم في أمسّ الحاجة إليها، حرم حينها المجتمع كله من ثمراتها، وظلّ ضحية سجنه للفكرة، يتدحرج إلى الوراء، جراء مااقترفت يداه.

 

إن عدد المسلمين الذي انتشر خلال صلح الحديبية، والتي لم تتجاوز مدتها عامين، فاق بكثير عدد المسلمين خلال المرحلة المكية والمدنية، والسبب في ذلك طعم الحرية، الذي ساد خلال المدة القصيرة جدا.

 

إن سيّدنا بلال بن رباح، لم يعرف أن له صوت شجي ندي، إلا بعد أن نال حريته، فأطلق العنان لحباله، يطرب بها الكون كله، فحرمت قريش فضل صوته، بسبب العبودية التي فرضتها عليه، وأمتعها صراخه وهو تحت الصخرة، ولهيب الظهيرة، وحرّ الرمال، فلم تعد تفرّق بين جمال الصوت حين يعشق حريته، والأنين حين ينزف صاحبه دما.

 

إن سيّدنا يوسف عليه السلام، أبدع في تسيير أزمة كادت تعصف بالملك والمجتمع، لأن الملك منحه الحرية الكاملة في إدارة الأزمة وتسييرها. فالحرية التي منحت له هي التي كانت من وراء تفجير حسن التسيير وتدبيره. أما اخوته الذين كانوا من وراء نفيه ورميه في الجب، حرموا حسن تدبيره، وأمسوا على بابه يتسولون، ويرجون القوت لأبنائهم وأهليهم الجائعين، المقبلين على الهلاك.

 

 

إن السجان، أول المتضررين من سجن الفكرة وقمعها، لأنه يحرم نفسه فضائلها، فيمسي الأسير، حتى لو ملك مفاتيح السجن والقمع. وعلى المرء أن يدرك، إن الفكرة تخيف من لايملك مثلها، أو أحسن منها. وبما أن العطاء لاينقطع، وجب التعامل مع الفكرة بما يناسبها في الإقناع، والرسوخ ، والانتشار.