يعتبر مفهوم التحول الديموقراطي من المفاهيم التي شغلت طموح المجتمع السياسي بدول العالم العربي، فكل المجتمعات العربية تعلق آمالا واعدة على المرحلة الراهنة- موجة الديمقراطية العربية-، ويستبشرون خيرا بما قد يحصل سيما وأن فكرة الانتقال نحو أنظمة تعترف بحقوق الفرد وحرياته وبفائدة التعددية السياسية، قد فرضت نفسها في العالم، فالديموقراطية أصبحت تحتل القيمة الأولى في سلم المعايير السياسية، كما أضحت مطلبا من بين المطالب الاجتماعية الأولى، بل من الضرورات والاحتياجات الأولى التي أصبح المواطن العربي في حاجة ماسة إليها، فكل الشارع العربي يغني أغنية “الشعب يريد إسقاط النظام” لكن ليس لديهم أي فكرة عمن كتب كلمات هذه الأغنية وليس لديهم أية فكرة عن ماذا سيحصل بعد أن يسقط النظام ، فبعد سقوط النظام سيقسط الشعب و هو ما تؤكده المجازر التي حصلت و تحصل في العراق وما يجري من تقتيل و وحروب في ليبيا بين القبائل الليبية ، وما يجري في مصر التي تبحث عن نفسها ، فبعد سقوط النظام ووصول نظام جديد إلى الحكم سيسعى هذا النظام الجديد إلى إسقاط الشعب و هذا راجع الى غياب المعنى الحقيقي للديمقراطية سواء على مستوى الممارسة أو على مستوى الإطار القانوني الذي ينظم العمل السياسي، بالإضافة إلى غياب اللغة السياسية والاجتماعية المبدعة والمقنعة في الخطابات المتماثلة والمتكررة و المملة التي ترددها مختلف الحكومات العربية، حكومات تخاطب الشعب بلغة لا يفهمها.

إن الدول العربية عبر توظيفها الشكلي والتجميلي للكثير من المفاهيم الحداثية كالديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون والشفافية تعبر عن قدرة فائقة في الالتفاف على المطالب الداخلية والضغوطات الخارجية ليس من حيث تحديث أدائها وممارساتها وآليات صنع القرار فيها والاعتراف بأن مسألة الإصلاح السياسي كعملية لا خيار لها إلا القبول بها، إنما من حيث تطويع كل ذلك بحيث لا يمس مسالة إحتكار القلة للسلطة، وإن ذلك قد يعود في الحقيقة إلى أن الدولة العربية قد كانت أكثر من ممتازة في قدرتها على إعادة إنتاج كل المفاهيم والأطروحات الحداثية في المشاركة والديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون والمواطنة المتساوية وتطويعها لمراميها الخاصة بحيث لا يجلب لها ذلك أو لبعض أو جل رموزها أي ضرر أو يجلب لاحتكارها للسلطة أي انتقاص، وإذا نظرنا بعمق إلى أنظمة الحكم العربية المعاصرة، نجد أن الكثير منها من حيث النص الدستوري لم تنتقل من حيث المبدأ إلى نظم الحكم الديمقراطية، بل هي توصف علمياً بأنها من أنظمة الحكم الفرد المطلق، حيث تكون إرادة الحاكم الفرد(ملك أو سلطان أو أمير أو رئيس جمهورية)،هي مصدر السلطات ،والدستور أو النظام الأساسي في هذه الدول إما أنه يحتفظ للحاكم بالسلطة المطلقة بشكل صريح ، أو أنه يلتف على المواد الدستورية التي تقول إن الشعب مصدر السلطات بمواد دستورية أخرى تجهض هذا المبدأ الديمقراطي الجوهري وتتيح للحاكم الفرد أن يحتفظ بالسلطة والثروة والنفوذ ويوزعها كيفما يشاء و على من يشاء وحينما يشاء، سواء تتطلب ذلك منه إلى تعديل الدستور وتزوير إرادة المواطنين أو دون حاجة إلى تعديل الدستور طالما كان يتمتع بالحماية الخارجية.
الحاكم الفيلسوف
لما يقول أفلاطون أن افضل نظام حكم هو حكم الحاكم الفيلسوف نظرا لقدرته الفائقة على النظر في أمور وشؤون الرعايا و الجمهورية ونظرا لأن هذا الحاكم يدرك حقيقة الأشياء، فالحاكم لما يكون فيلسوف فهو لا يخطئ و لا يظلم أحد و هو فوق القانون لأنه يعرف كل شيء وهنا افلاطون يربط بين نظرية المعرفة و الفلسفة السياسية بمعنى فلسفة الحكم، لكن بعد افلاطون ظننا أن هذه النظرية غير صالحة في وقتنا الحالي وخصوصا عندما أصبحت السياسة منصب عمل لمن لا عمل له، لكن في وقتنا الحالي أصبح الحاكم فيلسوفا، إماما، قاضيا، منجما و عالما، وأصبح الحاكم مبدعا في اختراع وتفسير النظريات التي تتعلق بالحكم و المحافظة عليه، كما يحدث حاليا في مصر من قبل الرئيس المصري محمد مرسي وفي تونس من قبل حركة النهضة الإسلامية،(و غيرها من الدول العربية منذ عقود خلت) في وسط من يدّعون العصمة فالحاكم الملهم المعصوم يختصر فكريا فكر أمته وما على أمته سوى التهليل والتصفيق له ويستتبع مفهوم العصمة في التفكير غياب أساليب المحاكمة العقلية المنطقية واستبدالها بالصيغ المعلبة الصالحة لكل زمان ومكان والمتمثلة في ولايات الفقيه نيابة عن الإمام الغائب وجماعة أهل الحل والعقد ومرجعية المرشد العام أو حسب النظرية الدينية القديمة التي تقول أن طاعة الحاكم من طاعة الله و أن الحاكم هو خليفة الله في الأرض واعتبار من يتجاوزها مارقا على قيم المجتمع وعصمه القائد المزعومة سياسيا كان أم دينيا أم غير ذلك وانقياد الجماهير لأوامره مشكلة معطلة لحكم الشعب في مجال اتخاذ القرارات الكبيرة وفي مجال انتخاب ممثلي الشعب أقصد بهذا الاحتكام إلى صناديق الاقتراع فنتائج التصويت في هكذا انقياد أعمى لرأي القائد الملهم المزعوم هي أبعد ما تكون عن الصحة، لذلك تجمع العديد من الآراء على غياب الديمقراطية في سائر الدول العربية ويتضح هذا الإجماع في الدراسات والبحوث التي تشير إلى الخروقات التي تتعرض لها حقوق الإنسان وحرياته إلى جانب ضعف المشاركة في الحياة السياسية، وانعدام التداول السلمي على السلطة بسبب الطبيعة ألاستبدادية لجميع حكام الدول العربية والتي تتجسد في نزعة السيطرة والتمسك بالسلطة وقمع المعارضة و الاستبداد وغياب التشريعات القانونية الضامنة لحقوق الإنسان وحرياته، بالإضافة إلى تقييد حق المواطن في المعارضة والمشاركة في الحياة السياسية، في ظل دولة فشلت في تكريس مبدأ الحرية والمواطنة المتساوية ، ولم تنجح في القضاء على الانتماءات القبلية والطائفية والمذهبية و الصراعات الداخلية وسوء توزيع الثروة وغياب العدالة الاجتماعية.
الشعوب تعيش بسلام بعد تدميرها
في مقال لي فريد زكريا في مجلة التايم، بعنوان “منطقة في حرب مع تاريخها”، نُشر في عدد 16 أفريل 2012، قال إنه بعد مرور عام على ثورات الربيع العربي التي سلبت خيال العالم، نجد أن هذا الربيع قد فقد جاذبيته، ذلك أن الأمل في ميلاد جديد للحرية في المنطقة العربية قد أعقبه حقائق أكثر مأساوية.
في رأينا نجد أن تاريخ الديمقراطية العالمية وتاريخ أقدم الديمقراطيات في العالم كان نتاجا لثورات وحروب ومعاناة كبيرة فحتى أوروبا التي تدّعي الديمقراطية قد مرت بعصور و فترات مظلمة اسوأ مما تمر به المنطقة العربية حاليا فثمن الديمقراطية هو ثمن باهض جدا مثلما حدي في العراق بعد أن دمرت عن أخرها صرح جورج والكر بوش قائلا “هذا هو ثمن الديمقراطية” .
لو نظرنا إلي الثورات التونسية والمصرية والليبية واليمنية والبحرينية بتمعن‏,‏ وفي غيرها من الظواهر الاحتجاجية المرشحة للتحول إلي ثورات أخري مماثلة كما في المغرب والجزائر وعمان وسوريا‏,‏ لوجدنا أنهم جميعا في الجوهر يدورون حول هدف واحد رئيسي هو تحقيق الديمقراطية, والتخلص من حكم الفرد, جمهوريا كان أو ملكيا، لكن وحتى الآن لم تنجح دولة عربية واحدة في بناء نظام ديمقراطي سليم يتحقق من خلاله مبادئ الديمقراطية, والوصول إليها من خلال صناديق الانتخاب, حتي وصل الأمر إلي بقاء رؤساء دول فوق مقاعدهم حتي نهاية العمر, أو استيلاء أخرين علي السلطة من خلال مؤامرات أو انقلابات عسكرية حيث أن مفهوم صندوق الانتخاب مازال غريبا ومنبوذا وبعيدا عن الفكر العربي برغم اهتمام معظم الدول العربية بتطوير الاقتصاد والتعليم والثقافة والفن ولكن بشرط ألا يؤدي ذلك إلي فكرة الديمقراطية الحقيقية, والوصول إلي الحكم من خلالها، فالديمقراطية حسب هؤلاء هي في المزيد من الانغلاق السياسي و التأكيد على غياب العدالة الاقتصادية و تعميق فكرة عدم المساواة في توزيع الثروة.
يثير ضعف قوى الديمقراطية والتغيير الاجتماعي في البلاد العربية تساؤلات مستمرة حول مصير المجتمعات العربية في ميادين البحث الدولية. وبعد التفاؤل الذي أثارته الثورة الاصلاحية والديمقراطية في مطلع الألفية الثالثة، وساهمت به تقارير التنمية الإنسانية للمنطقة العربية التي عمل عليها مثقفون عرب من كل الأنحاء، تسود منذ سنوات موجة من اليأس والقنوط، وربما التسليم بأن أفق التحول السياسي في العالم العربي يكاد يكون معدوما، وإذا وجد ففي حدود ما يمكن أن يتفضل به نظام تسلطي، يأمل البعض أن يقوده شعوره بالقوة، بعد انهيار مشروع الشرق الأوسط الكبير وفشل الحرب الأمريكية العراقية، إلى التخفيف من قبضته الأمنية وحساسيته المفرطة تجاه التعددية الفكرية والسياسية.
ولعل أبرز النقاط التي تدفع الباحثين إلى الشك بمستقبل التحول السياسي والاصلاح في المنطقة العربية الضعف الواضح في قوى التغيير وهشاشة هيكلتها السياسية والفكرية، وكثيرا ما يبالغ هؤلاء في وضع اللوم على المجتمعات العربية نفسها، أو بالأحرى على الثقافة الاسلامية لتفسير ذلك، والحال أن هذه المجتمعات وتلك الثقافة ليست منفصلة عن الأوضاع التي تعيشها هذه المجتمعات ضمن المنظومة الدولية القائمة ، وهي ليست نسخة طبق الأصل عن التراث الذي كان من دون شك بعيدا في قيمه عن قيم الديمقراطية كما نفهمها اليوم.
لفهم ضعف قوى الديمقراطية في معركة التحول والتغيير الاجتماعيين من جهة وقوة حركات التمرد الإثنية والطائفية والدينية من جهة ثانية، وتفسير كيف يعيد النظام القائم إنتاج نفسه ويتغلب على الأزمات العميقة التي تهدده، ينبغي التركيز في نظري على مجموعتين من العوامل الموضوعية والكشف عن الترابط والتفاعل فيما بينهما •
المجموعة الأولى تتعلق بصيرورة المجتمع السياسي نفسه وبتكوين الرأي العام والثقافة الحديثين والنظم السياسية، وهو جزء من التطور التاريخي للمجتمع عموما ، انطلاقا من موارده الخاصة واعتمادا عليها، سواء كانت تراثا ثقافيا أو موقعا جيوستراتيجيا أو موارد طبيعية، أي التراث كما نظرنا إليه نحن الحديثين، لا كما هو بالمطلق، ولا كما نظر إليه أسلافنا، والثانية تتعلق ببنية الدولة وطبيعة عملها كما تكونت في إطار منظومة دولية مندمجة، رغم التناقضات والنزاعات وغيرها، أي كجزء من نظام عالمي تحكمه مجموعة من القواعد الثابتة نسبيا.
منذ الأيام الأولى لاندلاع الثورات العربية خرج المتظاهرون ليطالبوا بتطبيق الديمقراطية والحرية وإطلاق شعارات جميلة تؤكد على هذا الجانب الذي نتمنى جميعاً تطبيقه على أرض الواقع في جميع أرجاء الوطن العربي نظراً لغيابه المقصود في مجتمعاتنا العربية ، ولا يستطيع أي مسؤول أو مواطن عربي أن ينكر هذه الحقيقة ويقول إن الديمقراطية تطبق في بلاده ، وأن الزعماء يمارسون الديمقراطية بحق شعوبهم ويمنحون مواطنيهم القدر الكافي من الحرية والديمقراطية ، ولكي لا أكون متعصباً حيال هذا الموضوع أستطيع القول إن الديمقراطية في وطننا العربي معدومةً بشكل شبه كامل.

وفي عودة للحديث عن الديمقراطية أستطيع القول إن الشعوب العربية تواقة إلى تحقيق الديمقراطية وتطبيقها على أرض الواقع وترجمة الأقوال إلى أفعال ، ولكن من الملاحظ أن اللهجة بدأت تتغير وتزداد وتيرتها ونغمات إيقاعها بشكل متصاعد مما شكل إجهاضاً للثورات العربية ، لأن الدعوات ابتدأت بالحديث عن الديمقراطية والحرية والقضاء على الفساد ، وهي مطالب نقف جميعنا معها ونؤيدها. ولكن سقف المطالبات ازدادت حدتها بتحريض خارجي بالدعوة إلى الانقسام الداخلي من أجل عدم ترك الكرسي شاغرا مما أدى للدخول في دوامة الحروب الأهلية مثل ليبيا.

إن الحكم الديمقراطي في القرن الحادي و العشرين حيث سرعة التعبير و اتساع نطاقه والتطور التكنولوجي الهائل في وسائل الإعلام و الاتصال يعني أكثر من مجرد انتخابات أو إجراءات جزئية، انه عملية متكاملة بل انه “هندسة سياسية” تؤدي في الأخير لتحقيق دولة الحق و القانون و الجودة السياسية على مستوى نظام الحكم التي تكرس الديمقراطية المشاركاتية.
فالديمقراطية ليست في تقديم أطروحات وأفكار منتهية الصلاحية أو تقديم أفكار لا فائدة منها وتقديم خطابات طوباوية مثالية غير صالحة للتطبيق ، فما يهم الشعب ليس تلك الملصقات وتلك الخطابات المملة وتلك الوعود الكاذبة وتلك الشعارات الزائفة، بل ما يهمه هو كيف ومتى يتحقق مشروع المجتمع وكيف ومتى تتحقق العدالة الاجتماعية وكيف ومتى يصبح المواطن مواطن حقيقي يتمتع بكل حقوقه من أجل القيام بواجبه تجاه الوطن.