كنتيجة لما يجري, يمكننا القول ان الثقافة هي المتضرر الوحيد, انها تعاني صعقات متتالية فيما اركان الثلاثية الفكرية المتبقية (الدين والسياسة) في حال افضل بحكم امتلاكها للقوة والمال.
اشبه هذه الثلاثية بثلاثية السلطات التي تكون الدولة, سلطات التنفيذ والتشريع والقضاء, وان شراع الدساتير, وفقهاؤه, توصلوا الى مبدأ الفصل بين تلك السلطات لضمان استقلالها وتأدية الدور التي حلّت من كانت لأجله, ويمكن من خلال هذا المبدأ معرفة مدى تحقق الديمقراطية والاستقلالية, اذ بمدى تحقق الفصل بين تلك السلطات يتحقق القدر الاكبر من الاستقلالية والديمقراطية.
ان ثلاثية الدين والسياسة والثقافة تحتاج لهذا الفصل ايضا, وهذا الفصل لا يعني الطلاق, بل ان تحقق مبدأ الفصل بين هذه المفاهيم يحقق القدر الاكبر من حرية الرأي والتعايش الانساني, وهي ثلاثية تعلو حتى على ثلاثية الدولة في الفصل بين السلطات.
لكن الواقع يعطينا تصور مضني عن سوء الحال فيما بين تلك المفاهيم, اذ نجد ان الدين يسيطر على السياسة فيما السياسة تسيطر على الثقافة, وهكذا نجد ان الثقافة هي المتضرر الاكبر فيما يجري.
ان بقاء هذه السيطرة المجحفة في معادلة نجد ان ضحيتها (الثقافة وحدها) لا يوفر القدر الكافي للتعايش فيما بين البشر ويجعل التداخل والسيطرة مؤثر سلبي على اداء كل مفهوم ودورة كركيزة اساسية من ركائز الحياة. فبدلا من التقاء تلك المفاهيم من روافد لتشكل مصبا للفكر والتعايش الانساني نجد انها تحترب فيما بينها, وهذا الإحتراب غير العادل سوف يؤدي بالنتيجة الى ابتعاد الادوار التي يؤديها كل مفهوم منها على حده.
الدين وهو الحلقة الاقوى, سوف يكون اداة للتعصب, والمؤسس لثقافة العنف والترهيب لأنه سيصاب بالغرور والتوحد والانفراد بزمام الانسان (حتما اعني الدين المنحرف عن المفاهيم الإلاهية), وهو بهذا يبتعد عن دورة الارشادي الموفر لسبل الالتقاء بين بني البشر والمحفز الاساس لاطمئنانهم واعتقادهم بقوى غيبية سوف تكون مؤثرة بسلوك الفرد في مجتمعه.
السياسة وهي مفهوم له خاصية الاضطراب, لا يحمل الكثير من صفات القوى الروحية بقدر ما فيه من مفاهيم خلقها البشر ليسيروا انفسهم, سوف يتغذى على خراب مفهومي الدين والثقافة, لكنه الداعم الاساس لهما لو كان يسير بالشكل الصحيح, واما سيطرته على الثقافة فهي نتيجة طبيعية وخصوصا للأنظمة الفاسدة التي تدرك ان الثقافة هي من يساعد الشعوب على اقصار مدة قيام تلك الانظمة ولذلك نجد ان عدوانيتها سببها النفعية.
اما الثقافة, ضحية الأثنين معا, والملهم الاساسي لتحرر الانسان ووضعه في قوالب الفكر وتبصيره على كل تلك المفاهيم, بحسنها ورديها, لذلك نجد انها الصوت الصريح بين جملة توريات تسيطر على الطقس العام في المجتمع الانساني.
 
ان التلاحم الفكرية بين مفاهيم التعيش الانساني (الدين الثقافة السياسة) حاجة ملحة, وكذلك يجب توفير الاستقلالية فيما بينها بالقدر الذي يلائم مسير الحياة, وان اضطهاد بعضها البعض خليق بأن يجعل المنظومة الفكرية تعاني التراجع والانحدار, ويمكن لكل واحد منها ان تغذي الاخرى نحو عمل شمولي لارتقاء كل واحدة بالأخرى, اذا ما علمنا ان بروز كل منها كمفهوم مستقل كان قد نشا وترعرع في احضان الاخرى بأسبقية الدين على الثقافة واسبقية الثقافة على السياسة, وهكذا نجد ان الانفصال بوجهه الإيجابي بات مطلبا اساسيا لصناعة انسان واع مدرك لكل ما حوله.