منذ مقالة إميل زولا (1840-1902) الشهيرة حول ما يعرف بقضية دريفوس لم يعد بالإمكان الفصل بين المثقف والوظيفة الاجتماعية والمدنية الموكلة به والدور الذي يلعبه المثقف في مسار التنوير والدفاع عن العدالة والحق ومناهضة التطرف والاستبداد. فالثقافة وظيفة حيوية لا غنى عنها لأي مجتمع ولا تنفصل البتة عن الدين وعن السياسة وعن الواقع في صيرورته التاريخية.
في تراثنا الفكري وجد مثقفون تنويريون رفضوا ركوب الموجة وادخروا صوتهم لفائدة المجموع مع نقد الواقع اجتماعيا دينيا وسياسيا. وتحضرني حالة أبي حيان التوحيدي (922-1023) صاحب كتاب “مثالب الوزيرين” أي الصاحب بن عباد وابن العميد فهو ينتقد ثقافة السلطة تلك التي تعني الإحاطة من كل علم بطرف وحفظ الأشعار لمسامرة السلطان على حساب فقر العامة وجهلها. كما تحضرني حالة أبي العلاء على الرغم من سلبيته إزاء المرأة والحياة عموما لكنه كان مثقفا تنويريا مارس الحفر المعرفي وانتقد السلطة والدغمائية والشعبوية وندد بالظلم السياسي والطبقي وتحمل تبعات وخيمة نتيجة عقليته الانتقادية وتحضرني حالة العز بن عبدالسلام (1181-1262) والذي كانت وقفته التاريخية المشهورة مع أمراء المماليك ورقة بيضاء ناصعة في جبين العالم المسلم ودوره في مناهضة الاستبداد. وفي الغرب تكرس هذا الدور منذ فلاسفة الأنوار ديدرو ومونتيسكيو وفولتير وميرابو خطيب الثورة الفرنسية وانتهاء بتظاهرات سارتر في بولفار سان جرمان انطلاقا من مقهى فلور ضد جرائم فرنسا في الجزائر ومرورا براسل في بريطانيا وتظاهراته ضد الاستغلال السلبي للسلاح النووي.
نأتي إلى واقعنا هل عدمنا مثقفين؟ سئل أدونيس هذا السؤال فأجاب: يوم يتهيأ المثقفون لدخول السجون نتقدم. كثير من المثقفين لما دخلوا في ركاب السلطة واقتسموا الغنيمة فضلوا الوزارات وقصور الثقافة والمناصب والتسابق على الجوائز والانحياز القطري الضيق على حساب الرابطة القومية والإنسانية. صار المثقف يعيش بعقلية المناصر في المدرجات لا بعقلية الباحث عن الحق والناقد وكأنه يؤكد مقولة الشاعر العربي القديم:
وما أنا إلا من غزية إن غوت ** غويت وإن ترشد غزية أرشد
تراجع دور المثقف وصار خادما للسلطة وتابعا لها ومعيدا لإنتاج خطابها القطري الضيق والنفعي الضيق على حساب المصلحة القومية وذلك يعني بقاء الواقع على ما هو عليه حالة التراجع الحضاري والتشرذم القطري والإفلاس المعنوي والمصالح المتضاربة والولاءات المتضاربة وهذه الطبقة بيدها الإعلام ودور النشر واللمة الجماهيرية ودعم السلطة وهذه الفئة لا يعول عليها. وقليل من المثقفين ممن يرفض بيع العرض وابتذال النفس يجاهدون وهم معزولون من كل وسائل الدعم كالإعلام ودور النشر ومعزولون عن الجماهير بفعل التحذير منهم ولكنهم لا يؤثرون في الوقت الحالي بسبب أقليتهم وعزوف الجماهير عنهم واتجاهها إلى الفكر الاستهلاكي السطحي المتماشي مع موجة العصر العولمي. إنها فئة حكيمة لا تغلب المصلحة القطرية الضيقة وتدعو إلى الحكمة والرابطة القومية ويشكل الصراع العربي الإسرائيلي مظهرا جليا لها، وموقفها الراسخ من فكرة الدول الإثنية التي يراد إنشاؤها.
نحن نعيش واقعا مزريا حالة الحطام المفتوح بتعبير الدكتور الطيب تيزيني انحطاط فكري، وتراجع حضاري، واستبداد سياسي وتشرذم قطري ودول إثنية سيتم إنشاؤها، وردة علمية غياب الحريات.
أين هم المثقفون؟ لماذا لا يؤدون دورهم في التنوير والتطوير والنضال من أجل كرامة الإنسان من أجل العدالة والحق والمساواة من أجل العلم والديمقراطية والحريات؟ وهل من يسكت مقابل نيل حظه من غنائم السلطة هو مثقف حقا؟ ماذا تكون الثقافة إذا لم تكن دفاعا عن كرامة الإنسان ودفاعا عن الحق والعدل والحرية والعلم والإنسان ذلك المخلوق البديع الجميل الذي ابتذلته ضرورات الحياة وقتلت كل أثر فيه للوهج الإنساني.
إبراهيم مشارة