إستشهاد ألفلاسفة؛ وصمة عار على جبين “المثقفين”:
لن أعتب على الناس العوام ولا أصحاب المهن أو الموظفين و أحزابهم السياسية ولا حتى حكوماتهم لأنها هي السبب في قتل و تهجير و تشريد الفلاسفة؛ بل عتبي ألأكبر هو على المُثقفين ألمُدّعين و أصحاب الأقلام وألأعلاميين و أساتذة الجامعات الذين يدّعون حمل راية العلم و المعرفة .. ألذين ليس فقط لا يُدافعون عن هؤلاء العظام الذين وحدهم يرسمون طريق الخير والخلود للبشر؛ بل ويعادونهم لحين شهادتهم لينبروا بعدها بآلكتابة وآلتّأفف عليهم!!!!!
في السابق كان يستشهد فيلسوف واحد كل قرن تقريباً لمحدوديتهم و قلة سكان العالم, أما في عصرنا .. فتكاد تشهد كل عقد شهادة فيلسوف يُقتل هنا و يُشرّد هناك و يسجن و يحاصر وتقطع لقمته حتى في بلدان الغرب التي تدّعي التحضر و الحرية .. و يمرّ الخبر و كأنّ شيئا لم يكن.
يوم أمس إستشهد فيلسوف آخر كما سمعنا و أعلنّا في حادث و ظرف غامض لم يُكشف تفاصيله بعد .. سبقه من قبل خلال العقدين أو الثلاثة الأخيرة إستشهاد فلاسفة عظام, منهم روجيه غارودي الذي تعرّض للسجن و الملاحقة و قطع مصدر رزقه من قبل السلطات الفرنسية التي تدّعي حملها لراية الحرّية و الدّيمقراطية و الثورة الصناعية بعد الرينوسانس, ثم شهادة الفيلسوف (هنري كاربون) الذي كان و إستاذه غارودي و بعض تلامذتهم ككرستيان بونو (يحى علوي) الذين عارضوا نهج البرلمان
الفرنسي و اللوبيات و الأحزاب الحاكمة التقدمية “جدّاً ” من دراسة ليس فقط الفلسفة .. بل حذف كل العلوم الأجتماعية و الدّينية من مناهج التعليم الأبتدائية و حتى الجامعة, لأنها لا تفيد العصر و التطور و الأنتاج!!؟
لكن هؤلاء العمالقة الكونيّون وقفوا أمام ذلك الخيار الخطير الذي كاد يُمكن أن تكون بداية لحرب كونيّة خطيرة على نهج الحقّ ألمُبين, فكلّفهم في النهاية حياتهم كآلمعتاد .. لكن المشكلة التي أريد التأكيد عليها آلآن كما أكّدت عليها كل مرّة, هي: أين آلمُثقّفين؟
أين الكُتّاب؟
أين اساتذة الجامعات في بلادنا و العالم ؟
أين الأحزاب التي تدّعي الأسلام والحق؟
أين المرجعيات من هذه الحروب الأخطر من كل حرب تقليدية وحتى نووية عالمية؟
هل ماتوا حقاً كما نعتقد؟
لقد غسلنا أيدينا من الحكومات منذ أن سقطت حكومة عليّ(ع), لأنها – أي الحكومات – إنْ دافعت عن الفلاسفة فمصيرها الزّوال لأنّ الحُكم و القيادة الفكرية هي من شأن و حقّ الفلاسفة لا من حقّهم الذي يعبثون به!؟
على كل حال .. أليوم وفي هذا المقال الكونيّ .. نُريد تسليط الضوء على محنة و مظلومية فيلسوف آخر زار كل منابع العلم و المعرفة في العالم ليرفع راية الحقّ في أوساط البشرية الآسنة الراكدة المصابة بأنواع الجراثيم الفكريّة و الأنا و اللهوث على البطن و ما دونه, وهو هنزي كاربون:ـ

(هنري كاربون) فيلسوف غربيّ فرنسي الأصل معاصر وقرين الفيلسوف روجيه(رجاء) غارودي(1) الذي تأثر كثيراً بأفكار استاذنا الفيلسوف الصدر الأول و الذي منعته السلطات الجاهلية البعثية نهاية السّبعينات من زيارته رغم أنه وصل النجف لكن لم يحصل اللقاء .. ترأس قسم الفلسفة في جامعة السّوربون, ثمّ تخصّص في الدّراسات الشّرقية و الأديان وَ كَتَبَ مائتي بحث (أكاديمي) لا (تراكمي) أكرّر (أكاديمي) لا (تراكمي) كما هو حال جامعاتنا و حوزاتنا عموماً, تلك البحوث يعرف قيمتها العُلماء آلمُختصّين, كما ترجم الكثير من الكتب الأسلاميّة للفرنسية و الانكليزية, و يتقن عدّة لغات منها ألعربيّة حتى مَلَكَ فيها نظر و كذلك الفارسية, و تَعَمّق بدراسة جذور المذاهب الأسلاميّة بشغفٍ في مصر 4 سنوات, ثمّ آلمغرب ألعربيّ سنتين, ثمّ سنة في آلحجاز ثم العراق و إطّلع من قرب على مذاهب و ثقافة آلمسلمين و مستوياتهم و تعاملهم و نمط حياتهم, و كانت محطته الأخيرة إيران حيث إلتقى بكبار آلعلماء, منهم الفيلسوف الفقيه (محمد حسين الطباطبائي) الذي يُعتبر أحد أكبر مهندسي ألحكومة الأسلاميّة ألمعاصرة, و فاقَ بعلومه زميله السيد الخوئي في السّتينات و بشهادات موثقة منهم الشيخ المطهري, لكنّهُ ترك النّجف و آلزّعامة المرجعيّة التي كانت له بلا منازع ليستقرّ بمدينة قم التي قضى فيها 5 سنوات متواصلة لتفسير القرآن كاد أنْ يفقد بسببه بصره لولا عناية الأمام الحسين(ع) حفيد رسول الأسلام(ص) الذي مسح على عينه في رّؤيا صادقة فأعاد بصره و لم يلبس بعدها (النّظارات) حتى آخر العمر .. فكان ثمرة تلك الجهود الكبيرة تفسير (ألميزان) ثورة في عالم آلمعرفة و آلفلسفة و آلأجتماع و آلتّأريخ لأحتوائه نظريّات و بحوث جديدة تحتاج لدراسات أكاديمية موسّعة!

و لكن ما هي قصة هذا الفيلسوف الكبير (كاربون) مع الفيلسوف الكبير (الطباطبائي)؟
بعد مُناظرات مُعمّقة بين الفيلسوفين؛ قال (كاربون) بعد أسفار علمية معمّقة في كلّ العالم و من كل العلوم؛

إنّ (التّشيع) لمذهب أهل البيت هو المنهج الوحيد الذي يحفظ للأنسان بإستمرار و حيوية رابطة الهداية بين الله (الخالق) و بين (الخلق), و هذه الولاية قائمة حية للأبد, فآليهودية أنهتْ العلاقة الواقعيّة بين الله و آلعالم الأنسانيّ في تشخيص النبي موسى(ع), ثمّ لم تُذعن بعذئذٍ بنبوة السّيد المسيح(ع) و النّبيّ محمد(ص), فإنقطعت تلك الرّابطة المذكورة, و المسيحيّة توقفت أيضاً بآلعلامة المذكورة عند السيد المسيح(ع), أمّا أهل (السُّنة) من المسلمين فقد توقّفوا بآلعلاقة المذكورة عند وفاة النّبيّ محمد(ص) و بإختتام النبوة به, و لم يَعُد ثمّة إستمرار في رابطة العلاقة الحيّة – في مستوى الولاية – بين الخالق و الخلق, و بقي (التّشيّع) هو المذهب الوحيد الذي آمن بجميع الرسالات و ختمها بنبوة محمد(ص) و آمن في الوقت نفسه بـ (آلولاية), و هي العلاقة الدائمة التي تستكمل خط الهداية الألهية و تسير به بعد النبي(ص) و أبقى عليه إلى الأبد عن طريق الأمام الثاني عشر الذي مازال حيا.
و يضيف (كاربون)؛ [ما تَحَصّلَ لي من خلال ذلك في نهاية المطاف .. و لطبيعة أسفاري و بحوثي العلمية الأختصاصيّة في الأديان و المذاهب .. كوني مستشرقاً مسيحياً بروتستانيّاً؛
(أنّه يجب النظر إلى حقائق الأسلام و معنوياته من خلال (الشيعة) ألّذين يتحلّون برؤية حيّة و معمّقة و واقعية للأسلام].
و بعد ختام لقاآته التأريخية العلمية .. أشهر إسلامه عام 1978م عاد إلى فرنسا و إنشغل بآلترجمة و التأليف, و ختم رحلته في هذا المجال بآلقول:
لقد بذلتُ جهدي على قدر ما أستطيع لتعريف العالم الغربيّ بمذهب (التشيع) على النّحو الذي يليق به و يتسق مع واقعية هذا المذهب .. و سأبقى أبذل الجهود في هذا الطريق].

من أبرز كتبه؛ (ألأسلام في إيران, مشاهد روحية و فلسفية), و قد تأثّر به الكثير من علماء الغرب, منهم الفيلسوف فرانسوا توال ألذي أكّد بدوره ألقول:
[سيبقى العالم الأسلامي مبهماً لنا سواءاً بشكله السّياسي أو الجيوبوليتكي أو بشكل حوار الأديان إذا كنا لا نعرف ألتّشيع].

جاء هذا التقرير الهام بعد ما عَرَفَ الغرب الأسلام عن طريق المذاهب الأخرى و أعتقد بأن الأسلام يتمثل بتلك المذاهب, ألتي بنووا على أساسها نظرتهم و تقيمهم للشرق و للدّين الأسلامي بآلذّات, و لكن بعد ما إطّلعوا على منهج أهل البيت(ع) خصوصاً بعد نجاح الثورة الأسلامية و تأسيس أوّل دولة شيعية في العالم, تغيير موقفهم وإنفتحت أمامهم آفاقاً أخرى كما ظهر من كلام فلاسفتهم, و الخير ما شهد به الآخرون.
ألفيلسوف الكوني