اليوم الحادي والعشرون للإضراب …
لم تصل سلطات الاحتلال الإسرائيلي مع إضراب الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في سجونها الذي دخل يومه الحادي والعشرين إلى مرحلة التغذية القسرية، والتي هي خيارها الأخير ووسيلتها الأقوى والأخطر، إلا أنها بدأت الاستعداد العملية لهذه المرحلة، ليقينها أن الإضرابَ مستمر، وأن إرادة الأسرى ماضية وعزمهم شديد ونيتهم معقودة، والمفاوضات معهم معدومة، فلا تراجع عندهم عن الإضراب حتى تستجيب إدارة السجون لمطالبهم، وتحقق شروطهم التي ينادون بها، ولأن إدارة السجون تعرف أن صحة المضربين باتت في خطرٍ، وأن مظاهر الإعياء الشديد بدأت تظهر عليهم، وقد تحدث لهم مضاعفاتٌ أخرى خطيرة، في ظل الدوخة وزوغان البصر والقيئ والنقص الحاد في الوزن، فقد بدأت التهديد باللجوء إلى التغذية القسرية.
وقد بدأت فعلاً في مخاطبة وزارة الصحة لتأمين أطباء مختصين يشرفون على تغذية الأسرى والمعتقلين المضربين عن الطعان قسرياً، كما شرعت في مراسلة واستدراج عددٍ من الأطباء الدوليين لمشاركتهم في هذه المهمة، ولضمان إشرافهم عليها ومراقبتهم لها، لعلمهم أنها عملية خطيرة وأسلوب غير مشروع، وأنها تتناقض من مبادئ حقوق الإنسان، وتنتهك كرامة الأسرى والمعتقلين، رغم أن قضاة المحكمة العليا الإسرائيلية قد أجازوا اللجوء إليها، وسمحوا للسلطات المعنية بممارستها مع الأسرى عنوةً وكرهاً، رغم معرفتهم الأكيدة أنها قد تلحق بهم ضرراً، وقد تسبب الوفاة لبعضهم، وقد سبق أن استشهد عددٌ من الأسرى في إضراباتٍ سابقةٍ أثناء تغذيتهم قسرياً.
قد تركب مصلحة السجون الإسرائيلية في الأيام القليلة القادمة الصعب، وتعمد إلى حرق آخر أوراقها القمعية، وتلجأ إلى تغذية المضربين قسراً عبر الأنبوب، وهي التغذية التي يطلق عليها المعتقلون اسم “الزوندة”، والتي تتم بواسطة أنبوب التغذية الصناعية المطاطي، الذي يستخدم في إدخال الغذاء السائل من حليب أو غيره إلى المعدة مباشرة ودون المرور بالفم، وذلك للحفاظ على حياة الأسرى والمعتقلين، ووقف حالة التدهور الصحية المتردية بسرعة، حيث تقوم إدارة السجون بإخضاع الأسرى الذين ترى أن حالتهم الصحية قد وصلت إلى مراحل سيئةٍ، ولم يعد بإمكانهم مواصلة الحياة دون غذاء، فتغذيهم بالقوة بواسطة الأنبوب المطاطي، إلا أن إدارة السجون تهدف أيضاً إلى جانب الحفاظ على حياتهم إلى إضعاف الروح المعنوية لدى الأسرى المضربين، وكسر إرادتهم، وإجبارهم على تعليق الإضراب، إذ توهمهم أنهم قد كسروا الإضراب فعلاً ولو من باب التغذية القسرية، وأنها لا تعد تعترف بإضرابهم بعد جلسات الزوندة.
يرفض الأسرى والمعتقلون عادةً اللجوء أو القبول بالزوندة خشية ضياع أو فقدان ما تمكنوا من إنجازه وتحقيقه خلال فترة الإضراب، علماً أن التغذية بهذه الطريقة لا تكسر الإضراب، ولا تعتبر إطعاماً بقدر ما هي تغذية مباشرة، فهي طريقة تعافها النفس ولا تقبل بها، فضلاً عن أنها مؤذية، وليس فيها شيء من المتعة أو الشهوة، وقد تؤدي إلى الإقياء، وعلى الرغم من أن الأسرى يعتقدون أنها آلية لا تفسد الإضراب ولا تكسره، إلا أن الكثير من المضربين يرفضون الانصياع إلى هذا الخيار، ويشعرون بأنه يخالف قواعد إضرابهم، لكن السلطات الإسرائيلية ترغمهم عليه قسراً، الأمر الذي يسبب ويلحق أضراراً صحية خطرة قد تهدد حياة المعتقلين، علماً أن هذه العملية قد أدت سابقاً إلى استشهاد عددٍ من المعتقلين.
تلجأ إدارة السجون الإسرائيلية إلى استخدام هذا الأسلوب بعد أن مضي أسابيع على إضراب المعتقلين، إلا أن هذا الأسلوب في التغذية يشكل خطورة كبيرة على حياة المعتقلين، واحتمال دخول الغذاء في مجرى التنفس، وهو ما يحذر منه الأطباء في العادة في ظل الظروف العادية، خاصةً أن الذين يقومون بعملية التغذية القسرية ممرضون عديمو الخبرة، أو أطباء لا تجربة عندهم، وأحياناً يشاركهم الجنود والحراس في تنفيذها.
تعتبر عملية التغذية القسرية للأسرى والمعتقلين غاية في الخطورة، كون الممرض أو الطبيب الذي يشرف على إدخال الأنبوب في معدة المعتقل، يتعامل بحقدٍ وكرهٍ، ويقوم بدوره بقسوةٍ وعنفٍ، ويتجاهل معاني الإنسانية والرحمة والأمانة في مهمته، ويتعمد عندما يخرج الأنبوب من جوف الأسير جرح المعدة وإيذاء الأسير، خاصة أن العملية تتم بينما الأسير يقاوم ويرفض لأنه مصر على الإضراب، وقد تسبب هذا الأمر في استشهاد عددٍ من الأسرى نتيجة دخول الغذاء في مجرى التنفس، الأمر الذي أدى إلى اختناقهم واستشهادهم، وقد أصبح هؤلاء الشهداء رموزاً للحركة الوطنية الأسيرة، يذكرون دوماً عند كل إضرابٍ يخوضه المعتقلون.
تنفذ سلطات الاحتلال التغذية القسرية بطريقةٍ مؤذيةٍ للجسد ومهينة للنفس، حيث يجلبون الأسرى من زنازينهم تباعاً، وتوضع كؤوس ماء وملح ولبن ورز بحليب أمامهم، ويُضربون ويعذبون ويركلون بالبساطير على الوجه والرأس والمناطق الحساسة لدفعهم للطعام، وبعد فشل ذلك وهو ما يحدث غالباً، يقوم السجانون بإدخال بربيش “الزوندة” في “فتحتي أنف المعتقلين، حتى يسيل الدم منهما، ويصبون فيه المواد الغذائية، وبعد ذلك يسحبون البربيش مع ما يصاحب ذلك من أذى وجرحٍ ونزفٍ، وأحياناً يتسرب الغذاء إلى الرئتين، فيدخل الأسير في نوبةٍ شديدةٍ من السعال وحالةٍ من الاختناق، مما يؤدي إلى استشهاد بعضهم.
تعلم سلطات الاحتلال الإسرائيلي التي شرعت التغذية القسرية أنها تخالف القانون الدولي، وتعتدي على حرمة الأسير الفلسطيني، وترغمه على أشياء تتنافى مع الأخلاق الطبية وتتعارض مع شرائع حقوق الإنسان الدولية، إلا أن محاكمهم التي تحكم على الفلسطينيين بعشرات المؤبدات ومئات السنين، لا تتورع عن إجازة التغذية القسرية التي هي في حقيقتها عذاباً وليست تغذية، وتقود إلى الموت ولا تعين على الحياة.