من المسؤل عن الفساد في العراق؟

علي الكاش
من البديهي ان تنتشر بعض القيم غير السوية في المجتمعات التي تخضع للقهر الإستعماري، ولكن ‏ما حصل في العراق يعتبر ظاهرة غير طبيعية مقارنة بالدول التي وقعت تحت نير الإستعمار ‏الأجنبي، فقد غرق العراق بالفساد الحكومي، وإمتد الى الفساد المجتمعي، فإنتشرت ظواهر غريبة ‏بين افراد مجتمعه كالرشاوي والسلاح المنفلت والسطوة العشائرية والتزوير والجهل والأمية وتردي ‏الأحوال الصحية والخدمية والتربوية وغسيل الأموال وظاهرة الزنا بالمحارم والسرقات والتلوث ‏البيئي والفقر والبطالة والجوع، وظواهر ما أنزل الله بها من سلطان، بل حتى القيم الأخلاقية ‏والعشائرية أصبحت أسخف من ان يشار اليها، فقد يكون فصل عشائري بسبب جرذ خرج من دار ‏ودخل الى دار آخر، وإنتشر الألحاد ـ في حكم يفترض انه اسلامي ـ بين الشباب بشكل مريع، ‏وصارت معاجيز وسحر الأئمة مثيرة للسخرية والتهكم بين خطباء المنبر الحسيني، ولا توجد ‏ضوابط شرعية او حكومية تلجم ألسنتهم القذرة والمخالفة للعقل والأخلاق والشرع الإسلامي.‏
ولابد من إقتحام أبواب الحقيقة للتعرف عمن يقف وراء هذه الأبواب، فمن يريد فعلا ان يعالج ‏الأمراض الإجتماعية، عليه ان يشخصها اولا، وبعدها يعالجها، وربما الحقيقة في هذا الجانب ‏تتطلب الصراحة المطلقة، والبعض كالعادة سيأخذ بالقشور ويترك اللب بسبب العنصرية والمذهبية ‏والأهواء والميول الشخصية، ناهيك عن المستفيدين من هذه الأوضاع المأساوية ولديهم العديد من ‏الأقلام المستأجرة والذباب الألكتروني، سيما كبار السياسيين ورجال الدين وزعماء العصابات ‏المسلحة.‏

الأحزاب الاسلامية الحاكمة
تتحمل الأحزاب الاسلامية التي حكمت العراق المسؤولية عن تفشي حالات الفساد الحكومي، والتي ‏تجاوزت (350) مليار دولار من عام الغزو 2003 ولغاية 2018، ويكفي ان تعلم بأن الحكومة ‏العراقية رفضت ان تقدم موازنة عام 2014، ولا أحد يعرف كيف كانت الحكومة تصرف الأموال ‏لحد اليوم أي عام 2022، ويتحمل رئيس الوزراء السابق نوري المالكي وحزب الدعوة المسؤولية ‏عن ضياع أموال العراق، ولم يجرأ المدعي العام والقضاء العراقي عن فتح هذا الملف مع تعدد ‏أججهزة الرقابة البرلمانية والحكومية، كهيئة النزاهة وديوان لرقابة المالية والمفتشون العامون في ‏الوزارات ولجنة النقابة البرلمانية بسبب تخادم المصالح بين الزمر الحاكمة وتوفر الغطائين الحزبي ‏والمذهبي. فزعماء الأحزاب الدينية وجلهم من العملاء والجواسيس ممن كانوا يتلقوا المساعدات من ‏المخابرات الأجنبية أصبحوا أصحاب مليارات مثل نوري المالكي وعمار الحكيم وباقر صولاغ ‏وهمام حمودي ومقتدى الصدر وبهاء الأعرجي وغيرهم.‏

الولايات المتحدة
تتحمل الدول المحتلة وفق القانون الدولي المسؤولية الكاملة عن إدارة الدول التي خضعت ‏للإحتلال، ويقصد بذلك الجوانب المالية والأمنية والاقتصادية والسياسية، وقد أخلت الولايات ‏المتحدة ودول التحالف ضد العراق مسؤوليتها عن هذه الجوانب، وتنصلت منها، بل انها سلمت ‏ثروات العراق لزمرة من اللصوص والعملاء دون ان تراعي حقوق الشعب العراقي، وهذا أمر ‏شاذ رغم ان الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها انه لا توجد تحتل دولة وتعمل على تطويرها، بل العكس ‏تماما، وهذا ليس حال العراق فقط، بل جميع الدول التي أحتلتها قوى أجنبية. وربما العراق ‏وافغانستان من شواهد العصر الحالي، وعلى الرعم من انتشار الصفقات الفاسدة لم تتدخل الولايات ‏المتحدة بهذا الشأن تاركة ثروات العراق تنهب أمام أعينها، بل ان شركات امريكية ساهمت ‏بصفقات فاسدة، وسلمت رشاوي لمسؤولين عراقيين، علاوة على نهب آثار العراق التي وصلت ‏الألاف منها الى الولايات المتحدة، ولا أحد يجهل انها هربت من قبل قوات الإحتلال نفسها.‏

نظام الملالي
سلم الرئيس الامريكي السابق اوباما العراق على طبق من ذهب الى ايران بسبب كراهيته للعرب ‏وحبه للفرس، وكان هذا الكلب الأسود في البيت الأبيض يرغب بإنجاح مفاوضات الملف النووي ‏مع ايران على حساب العراق، فأطلق يدها فيه، وعمل الولي الفقيه على تشجيع ذيوله لتبديد ثروات ‏العراق واضعافه اقتصاديا، وجعل العراق المتنفس الوحيد له للتهرب من الحصار الإقتصادي ‏المفروض عليه دوليا، وقامت الشركات الايرانية بالسيطرة على المشاريع العراقية مثل بناء ‏المدارس والآلاف من المشاريع تسلمت الشركات الايرانية الأموال العراقية، وتبخرت هي ‏والأموال فقد تبين ان أكثرها شركات وهمية، ولم تجرأ اية حكومة عراقية على مفاتحة سيدها الولي ‏الفقيه عن هذه الظاهرة واسترجاع الاموال المنهوبة. بل صارت ايران الملجأ الابرز للسراق ‏والفاسدين ممن تنكشف حقيقتهم فيولوا أدبارهم الى ايران، ومنها الى دول أخرى، ولا تسمح ايران ‏للعراق بإسترداد المجرمين والفاسدين.‏
وعملت ايران بالتعاون مع ذيلها حزب الله اللبناني بجعل العراق ممرا ومستهلكا وصانعا للمخدرات ‏وحقلا لزراعة الحشيشة، وآخر الأحصائيات توضح بأن حوالي 50% من شباب العراق يستخدم ‏المخدرات، وبسبب هذا الوباء الايراني اللعين انتشرت ظواهر غريبة في المجتمع العراقي مثل ‏ظاهرة زنا المحارم والعنف الأسري والمثلية الجنسية والجريمة.‏

مرجعية النجف
مع بداية الغزو الامريكي للعراق انتشرت شائعة بين العراقيين ـ من الشيعة ـ بأن فقهائهم وخطباء ‏منابرهم سمحوا بنهب مؤسسات الدولة بإعتبار انها مجهولة المصدر، على ان يتم تخميسها من قبل ‏المراجع، اي دفع خمسها للمرجعية، وشجعت هذه الفتاوي الشيعة على نهب مؤسسات الدولة ‏والبنوك، ومن المؤسف ان فتوى المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني أتت متأخرة، كثيرا وبعد ‏سنوات من النهب، كما يقول المثل العراقي” بعد خراب البصرة”، وطانت الإجابة ليس من قبل ‏المرجعية التي شهدت سرقة أموال الدولة وتسلمت خمسها، بل عبر سؤال موجه الى المرجع ‏الشيعي الأعلى علي السيستاني: ما حكم سرقة أموال الدولة التي لا تحكم بالشريعة الإسلاميّة ولا ‏تعطي الشعب حقّه؟
فأجاب: لا يجوز‎.‎
وعمل خطباء المنبر الحسيني على تجهيل الشيعة ونشر الكذب والدجل بين صفوفهم، فليس من ‏المعقول ان يدفع المثقف الشيعي والواعي خمس راتبه وممتلكاته الى المرجعية، الأمر يستوجب ‏الجهل والإستغفال والحماقة، ولإدامة الخمس للمراجع لابد من تجهيل المجتمع الشيعي، لذا بعد ان ‏كان العراق خاليا من الجهل والأمية بشهادة منظمة اليونسكو، يوجد حوالي (7) مليون عراقي أمي ‏ومتسرب من الدراسة اليوم.‏

القضاء العراقي
عندما تكون سطوة القانون شديدة لا يمكن ان ينحدر المجتمع الى الحضيض، فالعدالة أساسها ‏القضاء وليس الحكومة التنفيذية، واذا بسط القضاء يده على الجميع، تم تحديد الفساد وقلعه من ‏جذوره، لكن القضاء العراق خاضع الى المحاصصة الطائفية، فقراراته ذات نكهة مذهبية، ولا ‏يوجد معيار للحكم القضائي، هذا القضاء يحكم بسجن طفل بسبب سرقة علبة مناديل ورقية عشر ‏سنوات، ويبرأ سارقة مليارات لأنها امرأة ولابد من مراعاة جنسها، ويبرأ سارق ملايين لأنه شاب ‏ولابد من مراعاة عمره!!! بل في أحدث ظاهرة لا يمكن ان يتصورها العقل ان يسجن ضابط من ‏قسم المخدرات في البصرة (الرائد علي شياع)، لأنه قبض على تاجر مخدرات معمم، بل وينقل ‏الضابط الى موقع آخر كعقوبه لقيامه بواجبه الوظيفي، والأنكى منه إن عليه ان يدفغ فصل ‏عشائري للتاجر المعمم!! وفي الشهر الماضي أطلق سراح تاجر مخدرات جواد الياسري (ابن ‏محافظ النجف لؤي الياسري) وهو ضابط في جهاز المخابرات العراقي بمرسوم جمهوري وقعه ‏رئيس الجمهورية برهم صالح حامي الدستور العراقي، ولم يقتصر الإعفاء على جواد الياسري بل ‏جميع أفراد عصابته، وقد هربوا الى خارج العراق (ايران)، وبعد الفضيحة قرر حامي الدستور ‏سحب المرسوم، وهذه حيلة أخرى، فالمرسوم الجمهوري لا يُسحب بل يُلغى بمرسوم جمهوري ‏لاحق، وعلى اي حال لا اثر لسحب او الغاء المرسوم فقد هربت العصابه وصارت أثرا بعد عين، ‏هذا فعل حامي الدستور فما بالك ببقية المسؤولين؟ أما المدعي العام فهو في سبات ايراني عميق ولا ‏أحد يستطيع ان يفيقه الا الولي الفقيه.‏
من جهة أخرى اعتمد القضاء العراقي حالة غريبة لا علاقة لها بالعدالة، بل تأصل للظلم ، وهي ‏ظاهرة المخبر السري، وهو شبح من شأنه ان يلقي بك في هاوية الموت او السجن بقصاصة يقدمها ‏للقضاء دون التعريف بنفسه او الحضور الى جلسة المحاكمة، وضحايا المخبر السري عشرات ‏الآلاف جميعهم من أهل السنة، وقعوا بوشاية هذا الضال. وقد كُشف عن حالة يمكن القياس عليها، ‏فقد رفضت عائلة عراقية زواج ابنتها من شاب، فقام الشاب (مخبر سري) برفع تهمة الإرهاب ضد ‏أبو الفتاة فأودعه السجن.‏

سطوة الميليشيات الولائية والعشائر
خيم شبح الميليشيات الولائية في العراق بغد الغزو الامريكي بجناحية جيش المهدي وفيلق بدر، ‏وكلاهما ممول من قبل الولي الفقيه، وتفقست بقية الميليشيات الولائية تحت عباءة مقتدى الصدر، ‏وخلال حكم العميل البريطاني أياد علاوي تم دمج عناصر هذه الميليشيات وغالبيتهم من السجناء ‏والمجرمين والعاطلين عن العمل وعملاء ايران في الأجهزة الأمنية، ووزعت عليهم الرتب ‏والمناصب العسكرية حسب رأي زعماء هذه الميليشيات، فتوزعت الولاءات بين الأحزاب، ولا ‏ولاء للوطن عندهم، وبعد توسع تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي وقيام قوات التحالف الدولي ‏والقوات العراقية بدحر فلول التنظيم، احتكر الحشد الشيعي النصر لنفسه وتجاهل (13000) غارة ‏جوية قامت بها قوات التحالف وتعاونها في المجال الاستخباري عبر الأقمار الصناعية، ودك ‏مدفعيتها لمواقع التنظيم الإرهابي، علاوة على تضحيات الجيش العراقي، وبعد النصر تحول الحشد ‏الشعبي الى التجارة عبر المكاتب الإقتصادية والسيطرة على المنافذ البرية والبحرية والجوية، ‏والأتاوات في السيطرات التابعة للميليشيات والمشاركة في الصفقات والمشاريع، وهيمنت قوات ‏الحشد الشيعي على مقدرات الدولة كافة، وصارت الدولة العميقة هي من تحكم العراق، وأصبح ‏لعنصر الحشد من القوة بأن ابسط عنصر فيه يمكنه ان يتهجم على ضابط رفيع في القوات الأمنية ‏دون ان يتمكن الضابط من التفوه بكلمة، وتفاقمت سطوة الحشد ليس على الحكومة الضعيفة بل على ‏المواطن العراقي نفسه الذي لا يجد من يدافع عنه تجاه هذه الميليشيات الولائية التي تفرض ‏الأتاوات على زراعته وصناعته وتجارته وجميع ممتلكاته، وينحاشى القضاء العراق من حشر أنفه ‏القصير في ملفات فساد الحشد الشعبي، فهو قضاء إختصاصه الفقراء وأهل السنة والتنكيل بهم. ‏وبسبب عجز الحكومة عن درء المظالم عن المواطنين، وعجز القضاء عن ملاحقة المجرمين التجأ ‏المواطن العراقي الى عشيرته لعلها تؤمن له بعض الحماية، وتحول شيوخ العشائر الى تجار بدماء ‏الناس، وتزوع ولائهم بين الأحزاب الولائية لمضاعفة قوتهم وتعزيز أسلحتهم، فهم يمتلكوا أسلحة ‏ثقيلة وطائرات مسيرة.‏

انعدام الوازع الديني والأخلاقي العام
بلا أدنى شك ان الشعب العراقي يتحمل مسؤولية كبيرة في الوضع المزري الذي يعيشه، فقد ‏تحولت القيم الأخلاقية الى مرادفتها فالسرقة تحولت الى مال عام مجهول المصدر، والفساد تحول ‏الى شطارة، والدين الى تجارة، والجهل الى ثقافة، والرشاوى الى تسهيلات، وحلٌ الولاء المذهبي ‏محل الولاء الوطني، وتلاشى الوعي الوطني كتلاشي الضباب بظهور الشمس، وصارت القاعدة ‏الشعبية (آني شعلية)، اي الأمر لا يعنيني، وتفاقمت ظاهرة الخوف من الميليشيات فأخرست ‏المواطن عن المطالبة بحقوقه، وعلى الرغم من إنتفاضة تشرين وكان الأمل بنجاحها، لكن مع ‏الأسف أخفقت بسبب سلميتها المفرطة وضعفها، وقد استغلت الدولة العميقة هذا الشعف فأجهضتها ‏بسهولة. قال تعالى في سورة الزخرف/54 ((فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ)).‏

علي الكاش