يصور لنا الزمن الماضي معالم الشخصية الإنسانية التي تتموقع في منطقة واحدة وتربطها ذات الجذور التي أصلت فيها سمات متشابهة في النطق وطريقة التعبير واللباس وحتى المبادئ فصارت صفة لصيقة بها، وهذا ما جعلها تتميز عن غيرها من الشعوب والأمم التي تجاورها على ظهر هذه البسيطة ، ذلك ما يطلق عليه اصطلاحا العادات والتقاليد.
فالعادات والتقاليد هي الطابع الذي يشكل شخصية متجذرة في التاريخ تجعلها تتمتع بهوية تمنحها اسما ومكانا مميزا في خانات الشعوب والأمم، ولا ترتبط هذه العادات والتقاليد بدين أو منطق أو تفكير بل هي شبه قوانين وضعها الأجداد ليحكموا بها القبائل والعروش بشكل عام، فكان كل شيخ قبيلة يفرض على من تحت يده مجموعة من البنود ينظم بها التعامل في جميع المجالات ، فصارت بذلك عرفا ضروريا لا يمكن الاستغناء عنه ولا مخالفته، وبغض النظر عن إمكانية وجود الجور والتعسف في بعض هذه العادات والتقاليد أو ما نسميه” عرفا” فإنها بقيت ولمدة طويلة تلعب دور السلطان أو الحاكم لأنها لم تكن قابلة للطعن أو النقد أو مجرد التفكير في مخالفتها، إذ كان ذلك يؤدي إلى إيقاع أشد العقوبات على مرتكبها ، فصارت حينئذ دينا يعتنق وقانونا يتبع وكأنه منزل من عند رب حكيم. غير أن عقلاء الأرض كثيرا ما كانوا يثورون على مثل هذا “التعسف” في الرأي إقصاء للعقل والتفكير حتى صار أغلبهم “كبش فداء” لهذه الثورة التي ولدت نورا من “النقد البناء” وقد رسم معالم خط واضح يفصل بين ما يصلح من هذه العادات والتقاليد وهو قابل للتطبيق ب”عدالة ” على أرض الواقع ، وبين ما يمثل “جورا وظلما” في حق ” الإنسان” ولا يمت للمنطق والتعقل بصلة.
ومن هنا بدأت تنمو الزهور الأولى لفكر “التحرر” الذي ينشأ بعفوية ملزمة عن فكر”الثورة”، وكما هو معلوم فالثورة تعني الثوران على كل ما هو غير مرغوب لدى العقلاء والشعوب بسبب ما فيه من “أحادية الرأي” ( القطبية) خاصة إذا كان يمثل خطأ بعينه يتلخص في حرمان المرء من حقوقه الطبيعية ومحاولة إخضاعه “عنوة” لما ينفر منه أو يرى أن غيره هو أصلح له منه ، والمعنى في هذا يتسع كثيرا فيشمل الزواج والعمل وغيرهما.
والتحرر يعني محاولة إزالة قيود ما تثقل كاهل الإرادة البشرية وعنها ينجم مفهوم الحرية، وكم أريقت من دماء في سبيل هذه “المعشوقة الجميلة” التي تضمن للمرء العيش بكرامة في إرادته وعلى أرضه، وتكرس من جانب آخر معنى “العدالة” وتكافؤ الفرص لكل أبناء البشر، كما تعتبر زهرة تلمع ببريق الاطمئنان في النفس البشرية لما تبعثه فيها من ارتياح سيحرك مواهبها التي تكتسح قصورا للطموح بنتها في فكرها و ستمكنها هذه “الجوهرة السحرية ” من تحقيقها، إذ لا قيود تعوقها عن ذلك.
غير أنه باتساع مجال هذه “المعشوقة الجميلة” صارت تلبس أشكالا أخرى هي أقرب إلى “التمرد” حين جعلت هذه الأجيال من الشباب منها ذريعة للتحرر من كل شيء، فتحرروا من العادات ومن التقاليد وتمردوا على المبادئ والأخلاق وبذلك صارت نقمة على البشرية بعد أن كانت جوهرة ثمينة يلوح بريقها من بعيد، وكما يقال: “إذا زاد الشيء عن حده انقلب إلى ضده”، ففي الحقيقة لا توجد “حرية مطلقة” إذ لابد من تقييدها بالقوانين الإلهية التي تؤطر السلوك البشري وهي تحميه في نفس الوقت من زيغانه وضلاله، فالله سبحانه وتعالى هو الذي خلقنا وهو أدرى بما يصلح لنا، وإذا كنا قد انتقدنا بعض العادات والتقاليد التي فيها جور وتعد على حقوق الإنسان ، فإننا سننتقد بالمقابل حرية تجرد صاحبها مما فطره الله عليه من العقل والحس الفطري الإيجابي نحو الفضائل والنفور الفطري من الرذائل ، والأمر الوسط بينهما هو إعطاء كل ذي حق حقه دون زيادة أو نقصان، فقد خلق الله كل “شيء بقدر”، وإذا كانت العادات والتقاليد تعني الهوية بغض النظر عن سلبياتها، فإن الحرية تعني التحرر من كل ما تنفر منه النفس البشرية من الظلم والتعسف والتجرد من المبادئ والأخلاق