يبدو أن المشهد المصري يزداد تعقيدا يوما بعد يوم، ويتجه من سيئ إلى أسوأ، وكل يوم يمر يجعل أيا من الطرفين الإسلاميين المطالبين بشرعيتهم الديمقراطية المستندة إلى الانتخابات الحرة النزيهة، وحقهم بحكم البلاد أربع سنوات، ويرون العسكر غافلهم وانقلب عليهم بقوة السلاح، وهم بما لهم من قاعدة شعبية عريضة يبدون ثباتا على موقفهم، مصرين على المقاومة، سلاحهم التظاهر السلمي كما يعلنون، ومعهم حركة شباب السادس من أبريل وبعض أحزاب الوسط الصغيرة، بتحالف دعم الشرعية، وهم قادرون على الحشد وتعكير المشهد السياسي والاقتصادي والأمني حتى عودة الرئيس مرسي.
ويستند العسكر كما يدعون إلى الشرعية الثورية وتأييد متظاهري حركة تمرد وأنصار الكنيسة والنظام السابق وبقايا القوى الليبرالية والأحزاب القومية والعلمانية بعد أن سحب الكثير منهم تأيده للعسكر ووقف متوجسا من سياستهم والإجراءات والأحداث التي أثارت الشكوك حول مدى مصداقية العسكر والتزاماتهم بالحرية والديمقراطية التي وعدوا بها، فالعسكر يرون أنهم انتظروا حكم الإسلاميين طيلة سنة كاملة. كان أداؤهم فيها سيئا، وهم غير مستعدين للانتظار أكثر، وإن المتظاهرين ممن ذكرنا خولوهم بالتمرد والارتداد على الشرعية الانتخابية إذا لم نقل انقلابا، فاحتجزوا الرئيس وفريقه، وصارت بيدهم السلطة والقوة والقرار، وباستطاعتهم فرض ما يريدون، ويصرون على موقفهم في احتكار السلطة، والتصرف كما يشاؤون بمصير الإخوان ومن يؤيدهم من الإسلاميين وتصفيتهم بأي سبيل كان.
لا مشاحة، فأنا نفسي لم يكن يرضيني أداء الإخوان، وانتظرت وقتا كافيا قبل الحكم على تجربة العسكر وتقييمها، وإن كانت الشكوك ساورتني مسبقا بصدق نواياهم، واتضح لي صدق هواجسي. وسوء الظن من حسن الفطن. فبعد احتجاز الرئيس اختفت الظواهر السلبية التي كانت تكدر صفو الناس بقدرة قادر، وتبين أن حزب الحرية والعدالة لم يكن حاكما فعليا للبلاد، وإنما ركائز الدولة العميقة هي التي تتحكم بمسار الأحداث من الباطن، معصومة بحصانة القضاء المسيس لنظام مبارك، ومن خلفها عساكر وزارة الدفاع ووزارة الداخلية، وإعلام الفلول يزمر لهم، فسمموا الحياة السياسية بمصر كلها، وشوهوا صورة الإسلاميين عربيا وعالميا، ومعروف مثلهم “خذوهم بالصوت لا يغلبوكم”. وهكذا تغدى عسكر مبارك بالثورة قبل أن تتعشى بهم. والحقيقة التي لا يستطيع أحد إنكارها، لا القادة العسكر، ولا الكنيسة، ولا شيخ الأزهر، ولا النائب العام، ولا الرئيس المؤقت ولا رئيس حكومته، كانوا من الثوار على نظام مبارك، فهل يحمي الثورة من لم يكن من أبنائها؟ وهل تولد الحرية والديمقراطية من رحم عقيم؟ إلا إذا كنا نحلب الثور!
مع الأسى والأسف لم تكن وعود العسكر أفضل من وعود الإخوان، ولا يبدو في أفق العسكر ما ينبئ بأنهم أفضل حالا منهم، وكل الشواهد لا تبشر بالخير، ولا يسعنا إلا أن نذكر محبي السيد السيسي والزملاء الإعلاميين الذين يدافعون عن الانقلاب من منطلق كراهيتهم للإخوان، وليس عن قراءة الواقع، وعلمتنا تجارب الماضي وحكمة السابقين وأمثالهم التي تدعونا: “لأخذ فالها من أطفالها”، و”الكتاب يعرف من عنوانه” و”البعر يدل على البعير”، فما حدث للمتظاهرين في مجزرة قصر الاتحادية عند صلاة الفجر يقود إلى ما حدث في مذبحة فك اعتصام رابعة العدوية وميدان النهضة، وجامع الفتح وكوبري رمسيس وتظاهرات الإسكندرية والمنصورة وغيرها من ميادين مصر. ومن لا يحترم الدم البشري لا يحترم القيم الإنسانية.
وإذا اتهم السيد البرادعي رأس جبهة الإنقاذ المعارضة لحكم الإسلاميين التي مهدت للانقلاب ووالته بالخيانة لمجرد أنه احتج على القتل والعنف المفرط ضد المتظاهرين وهو الحامل لجائزة نوبل للسلام، لا نستغرب أن يحاكم الرئيس مرسي وقادة الإخوان ومرشدهم ومئات وآلاف الرافضين للانقلاب بالخيانة العظمى والإرهاب والقتل مادامت التهم جاهزة، ومن شب على شيء يشيب عليه. فهل بعد غياب الشرعية خيار أشد ظلمة من الدكتاتورية لمصر في ظل هيمنة العسكر؟ ولنا في الحلقة القادمة المزيد مما لم يتسع له المقام.