تزخر حياتنا العربية بالعديد من الممارسات والمفاهيم المتوارثة منذ أجيال بعيدة معتمدة على الثقافة والتربية التي كانت سائدة تحديدا منذ بداية عصور الاستبداد العربي، التي أعقبت الخلفاء الأربعة الأوائل، بدليل أنّنا نطلق في التاريخ الإسلامي على أولئك الخلفاء فقط صفة ( الخلفاء الراشدين )، مما يعني استنتاجا أنّ التاريخ والموروث العربي لا يعتبر من جاء من بعدهم يستحقون حسب ممارساتهم وأفعالهم صفة (الراشدين). تلك الثقافة والتربية العربية السائدة غالبيتها حتى اليوم ورّثتنا مفاهيم استبدادية متخلفة تمارسها غالبيتنا بلا وعي ولا شعور وكأنّها مقدسات لا يجوز الاقتراب منها أو المسّ بها…فمثلا:

صاحب الجلالة

يعرف الجميع أنّه في غالبية الأقطار العربية ذالت الأنظمة الملكية، يعطون أو يطلقون على شخص الملك أو السلطان صفة (صاحب الجلالة). فهل يجوز ذلك في حين صفة (الجلالة) في التراث الإسلامي من أهم صفات الله تعالى (جلّ جلاله) و (ذو الجلال و الإكرام). فهل شخص الملك أو السلطان أو الأمير مخلوق أعظم من اي مواطن من مواطنيه؟ أم تعين في منصبه أو استولى عليه لخدمة هولاء المواطنين والسهر على رعايتهم؟. لذلك استغلت هذه الصفة بإلصاقها بمن في غالبيتهم لا يستحقونها، أليس مخزيا الافتخار والتوثيق بانّه كان في قصور من يطلق عليه صفة الخليفة العباسي “هارون الرشيد” ما يزيد على 2000 جارية؟. وهناك من يرى أنّه هو بطل “حكايات ألف ليلة وليلة”، و أصلا كانت أمّه (الخيزران) واحدة من هؤلاء الجواري وانسياقا مع ممارسات هؤلاء الخلفاء وانقلاباتهم على إخوانهم وآبائهم وقتلهم لبعض بدون رحمة من أجل الاستيلاء على السلطة والمال والجواري والقصور، قامت “الخيزران” الأم نفسها بقتل إبنها الأكبر “الهادي” لأنّها كانت ترى فيه عقبة وحاجزا أمام طموحاتها الاستبدادية. وتؤكد كتب التراث العربي أنّ موسى بن نصير فاتح المغرب حين عاد إلى المغرب، كان معه ثلاثون ألف جارية، أهدى عددا منها إلى الوليد بن عبد الملك. لذلك يرى الدكتور محمد بن عبد الله الخضيري عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم في هذا الشأن: ” لا شك أن الاقتصاد في المدح والوصف للمخلوقين هو الأوفق والأليق، وعبارات التفخيم والتعظيم حادثة على قاموس الأمة المسلمة، مستجلبة من أعاجم الفرس والروم في تعظيمهم لملوكهم، وبالنسبة للسؤال فإن كان لهذا المخلوق الموصوف جلالة تناسبه فلا يظهر بأس في وصفه بجلالة الملك، أو صاحب الجلالة الملكية، ويكون مقيداً، أما الإطلاق هكذا: صاحب الجلالة وصاحب العظمة، فهذه جلالة وعظمة مطلقة لا يستحقها المخلوق أياً كان، والشريعة تحمي جناب التوحيد، وتسد الذرائع المفضية إلى تعظيم المخلوق المفضي إلى الشرك”. وقد كانت سابقة أنّ العاهل السعودي منذ سنوات رفض هذه الصفة، وأطلق على نفسه صفة أو لقب “خادم الحرمين”. وتقول النكتة المصرية، أنّ الرئيس المخلوع حسني مبارك أصابته الغيرة فطلب من مستشاريه البحث عن صفة له ضمن سياق الصفة التي اختارها العاهل السعودي لنفسه، ففكّر مستشاروه طويلا ثم أبلغوه بانّهم اختاروا له صفقة “هادم الهرمين”!!!.وللعلم فإن كبار ملوك أوربا الذين هم ملوك يملكون ولا يحكمون كملوكنا،وهم فعلا رعاة السقف الاجتماعي والسياسي لكافة فئات وطبقات وديانات مجتمعاتهم بنزاهة عالية، ولا ملك أو ملكة منهم يطلق على نفسه صفة الجلالة هذه، وهم يخضعون للنقد والمحاسبة كاي مسؤول، إذ لا يوجد في تلك الملكيات الدستورية الأوربية ما يسمى قانون ( المسّ بالذات الملكية أو الأميرية) الذي هو قانون أو تقليد لحماية الاستبداد والمستبدين ومصادرتهم للحريات وسرقة ثروات الشعوب.

مناضل..مناضل..مناضل!!!

شاعت صفة (مناضل) هذه تحديدا بعد انطلاق ما سمّي الثورة الفلسطينية عام 1965 ، ثم روّج لها اليسارجيون والقومجيون والعروبجيون العرب، فأصبحت صفة تعطي صاحبها حصانة تصل حدّ القداسة، لا يخجل بعض هؤلاء المناضلين من التباهي بانّه (مناضل عتيق) أو (مناضل يأبى التقاعد) أو (مناضل من المهد إلى اللحد). وحسب الممارسات فغالبية هؤلاء المناضلين يمارسون ممارسات لا تليق بقطاع الطرق، وسأضرب أمثلة دون ذكر أسماء أصحابها كي لا يقال أنّني أقصد الإساءة لهذه الشخوص، وأساسا أنا يهمني دراسة وتوثيق الحالة سواء عرف القراء من هم هؤلاء الشخوص أم لا. فمثلا من قام في الضفة الغربية بتوريد الإسمنت من مصر لدولة الاحتلال لبناء الجدار الفاصل يحمل صفة مناضل. ومن قامت شركات البناء والباطون المملوكة له ببناء غالبية مستوطنة أبو غنيم في الضفة وجوار القدس يحمل صفة مناضل. ومن يحملون صفة أو لقب (الأمين العام) في غالبية الفسائل الفلسطينية (ورود حرف السين بدلا من حرف الصاد مقصود وليس خطأ كتابيا)، مسيطرون على هذه الفسائل منذ 42 عاما على الأقل، فبماذا يختلف هؤلاء المناضلون عن الطغاة والمستبدين العرب الذين أطاحت بهم شعوبهم في الأعوام الثلاثة الماضية؟ بينما عناصرهم وأعضاء فسائلهم ما زالوا يصفقون لهؤلاء المناضلين بالدم والروح، وهم وفسائلهم لم يحرروا شبرا من فلسطين منذ بداية نضالهم المزعوم منذ ما يزيد على 48 عاما، بينما غالبيتهم أصبحوا أصحاب ملايين من الدولارات مسروقة ومنهوبة باسم النضال والصمود والتحرير. ويكفي مثالا مخزيا لدرجة العار ما نشره “موقع المستقبل العربي”بتاريخ التاسع عشر من ديسمبر لعام 2010 عن واحد من هؤلاء المناضلين الذي يتربع على ظهر وبطن فسيله النضالي الفلسطيني منذ 43 عاما، ومسنودا لنائبه (ف. س) تجرأ هذا النائب وطالبه بإعادة مبلغ تسعة ملايين دولار فقط ما زالت في حسابه الشخصي، وهو قد تسلمها نقدا للفسيل أو التنظيم كالتالي: ثلاثة ملايين دولار من الرئيس العراقي جلال الطالباني، وستة ملايين دولار من هوجو شافيز رئيس فنزويلا. وهذا المناضل هو الذي خطّط وصادق في العشرين من يناير عام 1976 (أثناء الحرب الأهلية في لبنان) وأرسل مجموعة من لصوصه (المناضلين) إلى البنك البريطاني للشرق الأوسط في بيروت، حيث تمّ تكسير ونسف أبوابه، وسرقة غالبية محتوياته التي قدّرتها بعض المصادر الغربية ب 250 مليون باوند من الذهب والمجوهرات والعملات المختلفة، بينما تقدّرها مصادر صحفية غربية كما ذكر موقع (المستقبل العربي) ب 450 مليونا. وكانت مجموعة اللصوص المناضلة هذه قد نسفت جدار البنك المشترك مع الكنيسة الكاثوليكية المجاورة له، ودخلوا القبو الخاص بتخزين الأموال والمجوهرات، واستمروا في نقل المسروقات طوال يومين كاملين، مما يجعل هذا السطو المسلح من أكبر عمليات السطو التي عرفها التاريخ المعاصر، إذ تضعها بعض المصادر الغربية تحت رقم 6 ضمن أشهر عشرة عمليات السطو في التاريخ المعاصر. وقد استخدم فيها هذا المناضل اللص حسب بعض المصادر صانعي أقفال متخصصين من جزيرة (كورسيكيا) لتدمير أقفال ألأبواب والنفق، ومن المعروف أيضا أنّه كانت من ضمن المسروقات قوائم وسندات أسهم، تمّ إعادة بيعها لأصحابها الأصليين في لبنان لتصبح السرقة مزدوجة ومضاعفة. ولمعرفة المزيد من التفاصيل والأسماء الحقيقية يمكن الرجوع لمقالتي الموثقة المنشورة بتاريخ الثالث والعشرون من يناير 2011 بعنوان (اليسار الفلسطيني ليس اقلّ فسادا من اليمين).

وأتوقف عند هذا الحد كي لا أذكر مزيدا من هذه اللقطات العربية المخيفة رحمة بأعصاب القارىء، وبعد أيام عند التأكد من عودة الضغط عند القراء لطبيعته، سأعود لذكر لقطات أخرى، تفسّر تخلفنا واعتمادنا في كافة شؤون حياتنا على الخارج، هذا الخارج الذي ليل نهار نصفه بأنّهم (أحفاد القردة والخنازير) داعين عليهم بالموت والهلاك والدمار، دون أن نسأل أنفسنا: كيف وعلى صناعة ومنتجات من سوف تستمر حياتنا إن تحقق دعاؤنا هذا؟.