قم للمعلم تبجيلا قبل أن يموت بعصر التنك قراط ..ذليلا !!
احمد الحاج
كنت في طريقي الى إحدى الصيدليات العراقية وكثير من أصحابها الحقيقيين ممن ﻻيظهرون في الواجهة هم من ممتهني الحرف الحرة – بقال ، سمكري ، نجار ،قصاب ، ميكانيكي سيارات ( فيترجي ) – يفتح صيدلية أو مختبر تحليلات مرضية أو مذخرا بالقرب من مجمع طبي بإجازة تحمل إسم صيدلي من ضحايا الزهايمر والباركنسون متقاعد ، أو صيدلي شاب واعد مقابل نسبة متفق عليها ﻻ تصرف أدويتها إلا بروشيتة مكتوبة بالخط المسماري أقرب الى الشفرة العسكرية ﻻيفهمها إلا الراسخون في علم الطلاسم والجفر ، لكونها مهنة تدر أرباحا خيالية في بلاد أظن أن فايروسات وطفيليات العالم بأسره تهاجر اليها بغياب المعقمات والمطهرات الاجتماعية واﻷخلاقية للإستيطان هاهنا والى اﻷبد، ﻷن العراق بالنسبة لها بمثابة “جزر هاواي ” للسياح اﻷجانب، وبينما كنت أنتظر دوري لشراء – الجص – المسكن للآلام المسمى في العراق ” باراسيتامول” جزافا إضافة الى – السمنت – المسمى ” تتراسايكلين” فضلا عن – عصير – توسيرام المضاد للسعال ومعظمها مجهولة أو مزورة المنشأ وتأريخ النفاد ما تسبب حسب المعلن – ﻷن الحقيقة هي صراع على تجارة اﻷدوية ومحاولة احتكارها بين الكواسج – بعزل نقيب صيادلة العراق الذي تبين أنه يستورد اﻷدوية التالفة ويقود شبكة الكترونية لتبييض الصورة يشرف عليها مساعد له في بغداد يمتلك 7 صيدليات وآخر في البصرة يمتلك 12 صيدلية ، دخل معلمي وهو يتأبط خمس صحف محلية يشبه بعضها بعضا الى حد التطابق – كونها لطش من الانترنيت -بإستثناء صورة الإمعة الدولي أو الإقليمي صاحب رأس المال التي تتصدر الصفحة اﻷولى والذي أصبح صحفيا وسياسيا بقدرة قادر كما أصبح السباكون في العراق صيادلة والبقالون ساسة ، صحف اقتصرت بعد تسريح محرريها ومصححيها ومنضديها ومراسليها ومندوبيها وموزعيها على مصمم يخرج من صحيفة الى أخرى ليصممها بنفس واحد وبلمسة فنية واحدة ﻻتتغير هي ذاتها التي تعلمها من معلمه اﻷول قبل – أن يركله وينحيه جانبا – ويستولي على مقعده ﻻ حمدا وﻻ شكورا ، اذ ﻻوفاء يذكر في المهن الحرة العراقية إﻻ فيما ندر – ورئيس مجلس الادارة بطبيعة الحال ممن يتبرع بعض الصحفيين – المفلسين – لكتابة الافتتاحية اضافة الى عمود ثابت له ونقش اسمه عليها مع إنه – لافهم ولاعلم – بمساعدة آخر رجال الموهيكانز من محرري الدسك الموالي للمنظومة – التنك قراطية – التي تمول هذه الصحيفة والمجلة أو تلك لضمان فوز – الإمعة – أو من يمثله وينوب عنه في كل دورة انتخابية تسعفهم في ذلك الجناسي المزدوجة و CV النضال الوهمي أطول من العملاق التركي ” سلطان كوزن ” والذي تتشرف الصحف المؤدلجة بإستعراضه بالمانشيت العريض بين الفينة واﻷخرى حسب الطلب الإنتخابي وكما قال اﻷعرابي في أهزوجته التي أصبحت مضربا للأمثال ( قبل صدام واحد ..هسه 1000صدام ، الخير عندنا مكوم والاحزاب تفرهد بيه ، اها اهوو اها “!
قلت : كل عام وانت بخير معلمي الفاضل بمناسبة عيدكم اﻷغر في اﻷول من آذار، المتزامن مع اليوم العالمي للدفاع المدني !
قال بصوت مبحوح وهو يحدق بي من خلف زجاج نظارته السميكة : من أنت ؟
قلت : أحد طلبتك القدامى !
قال :من فضلك إشحذ ذاكرتي المتعبة بحادثة أو إثنتين كي أستعيد شريط الذكريات، كككح آتشووو ، طووووط !
قلت : هل تذكر التظاهرات الطلابية الحاشدة المناوئة لإتفاقية “كامب ديفيد” والمطالبة بمقاطعة مصر العروبة آنذاك كونها تورطت في عهد السادات بإتفاقية الذل والعار والتي تسابق اليها العرب لاحقا طوعا أوكرها بقيادة مصر الكنانة ذاتها .. لقد كنت أحد المتظاهرين يوم مزقنا كتب التأريخ والجغرافية بينما كنا نضرب عليها بأكفنا بقوة غضبا واحتجاجا معلين سقف مطالبنا لاستعادة الاسكندرونة وجزر طنب الكبرى والصغرى وابو موسى اضافة الى فلسطين كاملة من النهر الى البحر ..فخرجنا وبلادنا من تأريخ العالم وجغرافيته واصبحنا خارج نطاق التغطية وبتنا نوقع اتفاقات ليست مع الكيان الصهيوني كما فعل السادات فحسب بل ومع اميركا التي إحتلتنا – ونعلت سلفه سلفانا – طيلة 28 عاما ايضا !!
قال : مازلت لا أذكرك ، هات المزيد من المآسي وجحيمها ﻷسخن بها الجمجمة !
قلت : أتذكر الرفيق ( زوزو نفاق ) الذي تسبب بإعتقال نصف معلمي مدرستنا من اليساريين والاسلاميين ليصبح رئيس احدى النقابات العمالية مكافأة له على – كسر الرقاب – زاعما انه فعل ذلك حفاظا على كرامة اﻷمة ووحدتها أرضا وشعبا وتحرير فلسطين من الصهاينة المعتدين ، لتضيع برغم تقاريره واكاذيبه الوطنية المخابراتية الدموية كل اﻷمة العربية وتمزق إربا إربا بين الفرس والروم ممن سبق لها قهرهما وتمريغ انفيهما في التراب ولكن من غير ..زوزو نفاق وبقية الرفاق ؟!
قال بالعامية : شوية بعد ذكريات ..واريد منك أن تزيد من الملح و البهارات و تلح بالزلاطة !
قلت : أتذكر حين كنا نجبر على مغادرة المقاعد والقاعات الدراسية بين يوم وآخر لنحتفل مع معلماتنا ومعلمينا بمناسبة وطنية – مخترعة- بحسب روزنامة الثوارت والانقلابات، تارة بإسقاط الملكية وسحل الملك فيصل الثاني وخاله الوصي عبد الاله ورئيس الوزراء نوري باشا السعيد والتمثيل بجثثهم وتعليق أمعائهم الدقيقة والغليظة من قبل تلاميذ المدارس على أعمدة الكهرباء واقتحام قصر الزهور الملكي وسرقة محتوياته – جمهوريا – في عملية اعلنت إنطلاق مدرسة ” الفرهدة النموذجية ” العراقية التي انجبت الحوسمة من بعدها ومن ثم اللطلطة حاليا ، اعدام الزعيم عبد الكريم قاسم بمبنى الاذاعة ورمي جثته في نهر دجلة بعد محاكمة – صورية وطيارية – تشبه محاكمة تشاوسيسكو وزوجته وتشبه اعدام القذافي بدون محاكمة وكل زعيم تحرص قوى الاستكبار العالمي على عدم محاكمته علنا لإخفاء اﻷسرار التي بجعبته والى اﻷبد ،اغتيال الرئيس عبد السلام عارف بحادث سقوط طائرة مفتعل ، عزل الرئيس عبد الرحمن عارف بالدبابات ، تأميم النفط قبل أن نعاود بيعه الى الشركات الاحتكارية ” شلع قلع ” ضمن جولة – العصاعيص او التراخيص – لعشرين عاما مقبلة وبأبخس اﻷثمان ،عزل الرئيس احمد حسن البكر بمسرحية تسليم القيادة ، إجهاض ما يسمى بمؤامرة 1979 وإعدام رفاق البكر فردا فردا بتهمة الخيانة العظمى والتنسيق مع بائع الجولان ، حافظ اﻷسد ، والد ابو طويلة بشار “برميل” ، عيد ميلاد الرئيس ، ذكرى العدوان الثلاثيني – عطل وأعياد ﻻحصر لها بعيدا عن الدراسة والإنتاج والاستثمار والبناء والاعمار تحولت فيما بعد الى مناسبات يرتدى فيها السواد بدلا من الزيتوني ، وتقودها العمائم بدلا من البيريات وقاسمها المشترك ( بالروح بالدم نفديك يافلان ) ، مناسبات انفعالية تقام طوال العام لصرف أنظار الجماهير بعيدا عن واقعها المزري مع إغلاق ذات الشوارع الفرعية والرئيسية والجامعات والمصانع والمؤسسات الحكومية كما كان يحدث سابقا حذو النعل بالنعل مع اللافتات والصور وبعض المقبلات لزوم التغيير !
قال – ايييه اﻵن بدأت أتذكر ..والمدارس التي تحمل اسماء سياسيين مغدورين أو معدومين بدلا من العلماء والمخترعين ، ورفعة العلم ، واطلاق الرصاص في الهواء داخل المدرسة ، وارغام التلاميذ ومعلميهم على ارتداء الملابس العسكرية والبساطيل ، والحصار الغاشم ، يوم كنت انا وبقية زملائي نتقاضى 7 الاف دينار شهريا لنشتري بها دواء وخبزا فضلا عن تكاليف الغصة – عفوا – الحصة التموينية ، وندخر ماتبقى لشراء ملابس من البالات – اللنكات -واحذية مستعملة من سوق الهرج ، ما دفع بعض المعلمين وﻷول مرة في العراق – وهو المطلوب من الحصار – الى بيع الاسئلة الامتحانية اضطرارا للطلبة المتمكنين من ابناء التجار والمقاولين ووووالمناضلين ..إلقاء الدروس الخصوصية ، انجاح الطلبة الكسالى مقابل هدايا مادية ومعنوية ، فيما باع البقية الباقية من الشرفاء كتبهم بعد بيع أثاثهم على قارعة الطرق ليأكلوا بثمنها وانا واحد منهم ، كنت انكب على كتابي العزيز ﻷعيد قراءته ثانية من الغلاف الى الغلاف أثناء فترة الانتظار وانا جالس فوق – تنكة دهن الراعي – ، قبل أن يأتي من يشتريه مني بربع ثمنه ﻷنني أعلم يقينا بأن ليس بمقدوري أن اشتريه ثانية وخير جليس في الزمان كتاب مع ان كل أحلام المعلمين والمعلمات في بلاد الحروب سراب ، يوم قتل استاذ سعيد في حرب الخليج الاولى 1980- 1988 ،يوم سقط صاروخ سكود ايراني على مدرسة “بلاط الشهداء” في تشرين الاول من عام 1987 ما أسفر عن مقتل 34 طفلا وجرح العشرات ، وسقوط صاروخ مماثل على مدرسة بمنطقة العيواضية وسط بغداد ومقتل عدد من طلابها عام 1988، استشهاد استاذ ماجد في حرب الخليج الثانية 1991، واستاذ رائد في حرب الخليج الثالثة 2003 ، واستاذ فرقد في الحرب الطائفية حيث القتل على الهوية 2006 – 2007 ، ليلقى بقية الاساتذة تباعا ذات المصير في الموصل وصلاح الدين والانبار وديالى وبغداد والبصرة ، هذا بعبوة لاصقة وذاك برصاصة قناص وثالث بسيارة مفخخة ، ورابع بتفجير انتحاري ، وخامس بقصف هاونات عشوائي ، وسادس بصاروخ كاتيوشا ، وسابع بسكين داعشي ، وثامن بقامة ميليشياوي ، وتاسع بنزاع عشائري ،وعاشر بوفاة موميائية تسمى في العراق ” طبيعية ” من جراء النقص الحاد في الادوية والتجهيزات الطبية وتراكم اﻷمراض في الاجساد النحيلة التي أثقلت كواهلها المصائب حتى قضى ثلث المعلمين نحبهم ومنهم من ينتظر ومابدلوا تبديلا …وعاش الضغط وتصلب الشرايين والروماتيزم والسكري ، يا يعيش ، يا يعيش ، يا يعيش ..تصفيق !
يومها كانت التربية مقترنة بالتعليم وكان المعلم والمعلمة ينهران الطالب حرصا عليه وعلى مستقبله ويضربانه ضربا خفيفا بالمسطرة كونهما اﻷب الثاني واﻷم الثانية لتقويمه وحثه على الدراسة والتحلي بالخلق الرفيع ، اما اليوم فأصبح التلميذ وذووه هم من يعتدون على المعلم بالضرب المبرح واشهرها الاعتداء على معاونة مدير مدرسة “عقيل المالكي” الابتدائية للبنات في البصرة ، الاعتداء على مديرة مدرسة “رقية” الابتدائية في مدينة الصدر شمالي الناصرية، الاعتداء على مديرة مدرسة “الجامعة” الابتدائية غربي بغداد، اﻷعتداء على معلمة في مدرسة شرقي بغداد وكسر ذراعها ، ومثلها العشرات ، بالمقابل فقد سجلت وبرغم تحذير وزارة التربية حالات تعنيف مماثلة بثت على مواقع التواصل بحق تلاميذ من قبل معلميهم خارج نطاق المألوف مايؤشر الى تخلخل المنظومة الاجتماعية والتربوية ككل !
تنحنح قليلا معلمي ..أطرق رأسه مليا ..سحب نفسا عميقا ، سعل ، عطس ، تثاءب ، تجشأ ثم قال ” لو كنت مسؤولا لخصصت للمعلمين والمعلمات من المتقاعدين باجات خاصة يعالجون بموجبها في المستشفيات الاهلية والحكومية مجانا ، وﻷصدرت لهم هويات مماثلة لصرف اﻷدوية مجانا ،واخرى لركوب وسائط النقل العامة مجانا ، لخصصت للشباب منهم مقاعد سنوية للدراسات العليا والزمالات والبعثات والدورات التطويرية داخل العراق وخارجه ، لرفعت من مرتباتهم التقاعدية وحسنت مستوياتهم المعيشية ، لطبعت كتبهم ومؤلفاتهم ان وجدت مجانا ، لمنحتهم مقاعد سنوية مجانية في الحج والعمرة كجزء يسير من الوفاء لهم ولعطائهم الكبير الذي خرج أجيالا تلو أجيال …ومازال ، واﻷهم لرفعت الاسماء والصور السياسية والطائفية من جميع المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية واستبدلتها بأسماء المخترعين والمكتشفين والمبدعين فقط !
وعذرا ﻷمير الشعراء أحمد شوقي ، فأنا مضطر لبعض التحريف في الشطر الثاني من بيته الشهير ” قُـمْ للمعلّمِ وَفِّـهِ التبجيـلا ” ، ﻷكمله بـ”صار المعلم بعصر التنك قراط ذليلا ” . اودعناكم اغاتي