عندما تسود الحماقة يتهلل وجه الكارثة

ثامر حميد
العراقيون و”الصراع الأمريكي الإيراني” على أرضهم

يسكن بعض العراقين هاجس يؤرقهم اسمه “النفوذ الإيراني في العراق” أو “الصراع الأمريكي الإيراني في العراق” ويعتبرونه أم المشاكل وكأن مصير كل شئ معلق به.. ويفوت هؤلاء حقيقة أن الولايات المتحدة قد حولت العالم كله بما في ذلك الأمم المتحدة إلى ساحة نشاط معاد لإيران يشمل السياسة والاقتصاد والتجارة والتسليح فالشركات العالمية ومنها الغربية مهما كان حقل نشاطها تتعرض للعقوبات إذا ما تعاملت مع إيران حتى لو كان الأمر يتعلق بتزويدها بمعدات طبية كما حصل مؤخرا في ظل جائحة كورونا.

وفي مقابل ما يمكن أن نسميه إيران- فوبيا لدى بعض العراقيين، لا نرى ما يمكن ان نسمية أمريكا- فوبيا ذلك أن أثر الإعلام الناقد لأمريكا أضعف بكثير من الإعلام المشوه لإيران . وأنا لا أرى في ذلك عجبا عند عراقي من عامة الناس ينظر إلى العالم من شباك قناة “الحدث” السعودية أو ما يتداوله الناس على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، وتصبح القضية تستحق النظر عندما يصاب مثقفون ومنهم كتاب بهذا الهاجس-الداء.

شئ من التاريخ قديمه وحديثه.
عندما قامت الثورة الإيرانية في 1979 كان ابرز سمات سياستها الخارجية هي العداء للولايات المتحدة وإسرائيل ولم يكن العراق لا موضوعا ولا ساحة للصراع بينهما. وعداء الثورة الإيرانية للولايات المتحدة وإسرائيل يتعلق بمسالتين أساسيتين: الانقلاب الذي دبرته وكالة المخابرات المركزية والبريطانية ضد حكومة مصدق الوطنية ذات الشعبية الواسعة إثر تأميمها القطاع النفطي في 1953 والتعاون الوثيق بين جهاز محابرات الشاه السافاك والموساد الإسرائيلي في مطاردة معارضي نظام الشاه وتعريضهم لتعذيب شديد. أما عداء الولايات المتحدة للنظام الثوري الجديد في إيران فكان نابعا من فقدان حليف قوي كان يشكل مرتكزا اساسيا لها في منطقة الشرق الأوسط قريب من حدود الاتحاد السوفياتي شرقا ومن الأنظمة العربية التي كانت تمثل مصدر قلق لها غربا. حصل ذلك في زمن لم تكن فيه قادرة، كما هي اليوم، على التواجد العسكري المباشر.

ويمكن القول إن نقطة التحول في العلاقة بين الأطراف الثلاثة العراق والولايات المتحدة وإيران قد بدأت عندما نجحت الولايات المتحدة في استغلال خوف رأس النظام العراقي الحاكم آنذاك من آثار الثورة الإيرانية لتحوله إلى عداء بينهما وصل إلى ذروته باندلاع الحرب العراقية الإيرانية. بمعنى أن الولايات المتحدة نجحت آنذاك في توظيف (اشدد على كلمة “توظيف”) العراق ضد إيران كأداة للصراع بالوكالة وهي بعملها ذلك قد حققت مكاسب لا تقدر بثمن على جبهتين: إضعاف نظامين كانا يتبعان نهجا راديكاليا يتسم بالعداء للولايات المتحدة وإسرائيل.

وبينما نجحت الولايات المتحدة من خلال تلك الحرب في تحييد قوة العراق وتأثيره في محيطه العربي وإدخاله في أزمة اقتصادية حادة قادته إلى احتلال الكويت مما تسبب في تعميق أزمته بسبب العقوبات المدمرة، فإنها لم تنجح في إحداث نفس التأثير على النظام الإيراني عدا إضعاف قدراته الاقتصادية إذ استطاع النظام استخلاص الدرس من تلك الحرب فاختط طريقا لتطوير قدراته الذاتية والاعتماد على نفسه ونجح نجاحا غير قليل في هذا المضمار متجاوزا كل الصعوبات والعقبات وواصل تطوره وحول بلده إلى قوة إقليمية كبرى. و تصدر إيران حاليا ماقيمته 48 ملياردولار سلعا غير نفطية وهي تحت تأثير عقوبات أمريكية شاملة.
وإذا كانت الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) توظيفا أمريكيا مبكرا غير مباشر للعراق ضد إيران فإن احتلالها للعراق في 2003 يمثل نقطة البداية لمحاولة التوظيف المباشر للعراق ضد إيران غير أنها لم تسجل نجاحا ذا قيمة على المستوى الرسمي. ويحرم الدستو العراقي في أحد مواده استخدام أراضي العراق للقيام بأعمال عدائية ضد دول الجوار وهو ما لا تعيره الولايات المتحدة اهتماما. أما على المستوى الشعبي فقد حققت بعض النجاح عند مستويات معينة بعضها شعبي والآخر نخبوي بفضل التوظيف الإعلامي المكثف واستخدام المال الخليجي فغسلت عقولا وعمرت جيوبا.

ما قيمة التأثير الإعلامي على شرائح معينة والمالي على أخرى إذا لم يتوج ذك كله بتسخير طاقة العراق للعمل ضد إيران كما فعلت في 1980 بجهد قليل؟ لقد وصفت الجهد بأنه “قليل” لأنه لم يتطلب سوى مهارة التأثير الذي كان يمتلكها الراحل الملك حسين على صدام حسين وتعهد خليجي بتحمل تكلفة الحرب.

إن عجز الولايات عن توظيف العراق مجددا ليكون عامل استنزاف وتهديد لإيران قد جعل من وجودها العسكري والاستخباراتي على الأرض العراقية ضروريا لها من أجل إشغال إيران وإقلاقها. وإذ تواجه بعض المصاعب في جعل وجودها شرعيا في وسط وجنوب العراق فقد أمنت لنفسها وجودا مطمئنا في شمال العراق والذي يمنحها، إلى جانب وجودها على أرض الكويت، رقابة قريبة ودائمة على إيران هذا عدى تواجدها على أراضي جميع دول الخليج باستثناء عمان.

من الناحية النظرية (المثالية) تكمن مصلحة العراق في عدم وجود نفوذ وتأثير مهيمن لا للإيراني و لا للأمريكي ولكن ذلك يصبح ممكنا عندما يكون لدى العراقيين طبقة سياسية تتفق على رؤية مشتركة واضحة لما هو مصلحة وطنية عليا. وبينما نجد قيادات تعتبر أن العلاقة الوثيقة مع إيران ضرورية لمعادلة مساعي الهيمنة الأمريكية تجد أخرى أن النفوذ الأمريكي ضروري لمعادلة النفوذ الإيراني. وقد يبدو ذلك مقبولا كامر واقع غير أن إيغال أدوات الولايات المتحدة من دول الخليج بالدم العراقي وصرفها أموالاهائلة لهذا الغرض ولشراء الذمم تحقيقا لأهدافها يضعنا أمام معادلة غير عادلة. لم تسفك إيران دم العراقيين ولم ترشو أحدا لبلوغ أهدافها في بسط النفوذ بل من فعل ذلك هو الولايات المتحدة من خلال حلفاءها الخليجيين. إن إيران هي التي منعت الكارثة عن العراقين عندما تدخلت بقوة ضد غزوة داعش وبطلب رسمي من حكومة العراق بينما رفضت الولايات المتحدة طلب نفس الحكومة باستخدام طيرانها الحربي لصد زحف داعش لحظة دخولها للأراضي العراقية قادمة من سوريا رغم أن اتفاقية التعاون الاستراتيجي التي وقعتها معها تلك الحكومة تنص على بند يقضي بتقديم الدعم للعراق في حال تعرضه لهجوم خارجي.
فهل يتساوى من قتل نفسا مع من أحياها؟

وإذا نظرنا إلى العلاقة الإيرانية العراقية بل العربية عموما من منظار التاريخ نجد ان هذه العلاقة موضوعية تمليها عوامل الجغرافية والثقافة والتاريخ المشترك غير أن اساليب التجهيل بالتاريخ والتحريض الإعلامي تحقق بعض المكاسب في جيل لم يعد يقرأ وكان قرأ الرواية التاريخية من وجهة نظر حزب حاكم يحكمه مزاج الزعيم.

يقول المختصون أن علماء السومريات قد استطاعوا فك رموز الحروف المسمارية بفضل نص لملحمة كلكامش وجدوه في غرب إيران كتب بالخط العيلامي كما وأن شريعة حمورابي المنقوشة على الحجر قد وجدت في مدينة سوسة في غرب إيران و لا شك ان هناك آثار رافدية أخرى في هذه المنطقة. ما الذي يدل على ذلك غير أن العلاقة الثقافية بين أرض النهرين وأرض فارس تعود لأكثر من ألفي سنة قبل الإسلام؟ و ما الذي يدل عليه وجود سلمان الفارسي في مكة قبل الإسلام و كان من أوائل من اعتنق الإسلام وعد من الصحابة (مرقده موجود في العراق) إن لم يدل على وجود صلة بين بلاد فارس والجزيرة العربية؟ وكان سلمان الفارسي هو الذي أشار للرسول ببناء خندق حول المدينة عندما حاصرتها جيوش قريش.
وقد كان للفرس وجودا في اليمن قبل الإسلام وهو ما لا أستطيع التفصيل به لعدم إلمامي الكافي.

و لا شك ان علاقة بلاد فارس بالعراق قبل الإسلام أوسع مما ذكرت ويجهل من يعتبر الوجود الفارسي على أرض العراق في ذلك الزمن “احتلالا” إذ لم يكن في ذلك الوقت شئ إسمه دول مستقله بحدود معترف بها دوليا مع ما يتبعه من مفاهيم السيادة ووحدة الأراضي وغيرها من المفاهيم ذات العلاقة بما يسمى بالدولة القومية. وبينما كانت بلاد فارس في ذلك الزمن تحت حكم امبراطورية عظمي لا توازيها قوة غير الإمبراطورية الرومانية كانت المنطقة تحكمها ما يسمى دويلات المدن بما يشبه الإقطاعيات الأوربية في القرون الوسطى وهذه الدويلات دائما ماكانت تطلب حماية القوى العظمى.

وعند ظهور الإسلام كانت بلاد فارس من أوائل الأقاليم الدي دخلتها الجيوش العربية لنشر الإسلام بعد العراق وهذا يعني أن العرب هم من أدخلوا إلى بلاد فارس أفكار الإسلام حول الخلق والنبوة والبعث وغيرها من المعتقدات الإسلامية والتي أصبحت جزءا مكونا واصيلا من الثقافة الفارسية كما هي عندنا. بعد ذلك تلاقحت الثقافة الفارسية الأصيلة بالمفاهيم الإيمانية المطورة في العصر العباسي لتنتج واحدة من أعظم الثقافات العالمية والتي يطلق عليها الثقافة العربية الإسلامية والتي هي عربية باللغة التي كتبت بها وتدولت وإسلامية شاملة في مفاهيمها الإيمانية. إن عدد العلماء والفقهاء واللغويين والشعراء المسلمين من أصول فارسية ومن آسيا الوسطى في العصر العباسي يغني عن الكثير من الكلام. يقول مؤرخ أوربي أن البرامكة هم من أدخلوا مظاهر الأبهة التي كانت شائعة في بلاطات اباطرة الفرس إلى بلاط هارون الرشيد وقبل ذلك كان الخليفة عمر بن الخطاب قد نظم الجيوش الإسلامية على أساس التقسيم الذي كان سائدا في الجيش الفارسي.

وما انتشار المذهب الشيعي في بلاد فارس والذي اصبح رسميا في فترة متأخرة إلا انعكاسا للصراع السياسي والفكري الذي نبتت بذرته في أرض الإسلام في الشام أولا ثم ليتطور ويأخذ شكله الذي عرفناه في العراق ولم يكن ابتداعا فارسيا لشق وحدة المسلمين كما يدعي الإعلام السعودي. ويبدو لي أن انتماء الإمام علي لعائلة الرسول وميزاته الشخصية كرجل شجاع وعادل ومدافع عن نقاوة الإيمان كانت عوامل جعلت منه مقدسا لدى الفئات الشعبية داخل بلاد فارس (حصل ذلك في مناطق أخرى من العالم الإسلامي) قبل أن يطور أنصاره مذهبا فقهيا خاصا بزمن طويل لذلك لم يجابه تبني السلطان الصفوي المذهب الشيعي كمذهب رسمي في القرن السادس عشر برفض أو مقاومة.

وقد خدمت بلاد فارس الإسلامية كنقطة انطلاق لنشر الإسلام في أصقاع آسيا وقراءة متأنية لتاريخ الانتشار الإسلامي تبين أن ثروات بلاد فارس كانت عنصرا مهما جدا في تمويل وتزويد الجيوش الإسلامية بالعدة والعتاد.

هذا هو فهمي للتاريخ كقارئ وليس كدارس للعلاقة التاريخية بين بلاد فارس والعرب قبل وبعد الإسلام. فأي علاقة تجمعنا بالولايات المتحدة كدولة للمهاجرين الأوربيين تاسست في القرن الثامن عشر من زاوية التاريخ أو الجغرافية أو الثقافة؟إنها بيننا بالقوة و لا تتمتع بأية جاذبية فكرية أو ثقافية عدى ما تستطيع إيهام الشباب به من دعاوى الحرية والفرص قبل أن يكتشفوا كم هي محدودة هذه الحرية وهذه الفرص للفقراء واتساعها دون حدود للأغنياء.

في مقابلات مع جنود أمريكيين كانوا يحاربون بالعراق قال عديد منهم أن سبب وجودهم في الجيش هو لكسب المال الكافي لإكمال دراستهم الجامعية وآخرون، وهم من المهاجرين، للحصول على الجنسية الأمريكية. في كثير من البلدان الفقيرة في العالم ومنهم العراق يحصل الطلبة على فرص متكافئة لإكمال دراستهم الجامعية دون أن يدفعوا فلسا واحدا بينما يعرض الطالب الأمريكي نفسه لخطر الموت في حرب ظالمة من أجل أن يحصل على فرصة لإكمال دراسته. أين هو المثال الأخلاقي في ذلك وأية حرية وأية فرصة تلك التي تعرض على شاب إمكانية الحصول على زمالة دراسية مقابل تعريض حياته لخطر الموت وإن لم يمت فيكون قد قتل أناسا أبرياء لم يمسوه بسوء ويبعدون عن بلده آلاف الكيلومترات؟

هذا الجندي الأمريكي الغريب على العراقي ثقافة وجغرافية و لا يجمعه به أي تاريخ والذي ربي على كراهية “أعداء أمريكا” كما يحددهم رؤساءه والممنوح تفويضا مفتوحا بالقتل هو برأي البعض مثله مثل الجندي الإيراني القابع وراء حدود بلده. ويتساوى بنظرهم المسؤولون العسكريون الأمريكيون الذين يدخلون العراق ويخرجون منه متى شاءوا دون علم الحكومة العراقية مع المسؤولين العسكريين الإيرانين الذين لا يدخلون العراق دون إذن أو رغبة من الجانب العراقي. ويتساوى ترامب الذي يحتقر العرب مع الرئيس الإيراني الذي يرى في العرب أقرب الناس إليه عقيدة وتاريخا ثقافة..

وليست إيران هي التي تفرض على العراقيين أن يعادوا الولايات المتحدة ولم تبد اي اعتراض أو نقد للاتفاق الاستراتيجي الذي وقعه العراق مع هذه الأخيرة. بالمقابل تعمل الولايات المتحدة دون كلل، ملمحة بالعقوبات، لجر العراق للعداء لإيران. الولايات المتحدة هي التي تقول للعراقيين كما تقول لغيرهم: “أنا من يقرر من يكون عدوكم ومن صديقكم”. هي من تقول لهم: “إن لم تختر صداقتي فأنت عدوي” وهذا يذكرنا بتاريخنا القريب يوم كان من لم يكن بعثيا فهو بالضرورة معارض و لا يوجد شئ اسمه “مستقل”.

وقد حاول جميع رؤساء الوزارات العراقية السابقين في حديثهم مع الأمريكيين ومع السعوديين بشكل خاص إفهامهم بأنهم لا يريدون عداوات. وبالطبع فإن العقل الأمريكي رغم غطرسته هو أكثر تفهما من العقل الخليجي لمقتضيات الجغرافية والثقافة المشتركة مع إيران ولكن لا يتوقع منه أن يتفهم مقتضيات التاريخ المشترك و ما يهم بالنسبة له هو ما تستطيع أن تفرضه القوة على الأرض والقادرة على أن تجعل من الموروث التاريخي واقعا منسيا. هكذا كان حال السكان الأصليين في أمريكا واستراليا ونيوزيلاندا وأمريكا اللاتينية وحيث حل الرجل الأوربي. ولولا عمق الترابط الثقافي والروحي للمنطقة العربية، والإسلام ركن اساسي فيه، وصلابة الشعب الفلسطيني لكان هذا حال شعب فلسطين، واقعا تاريخيا منسيا.

وبالطبع، وكنهج غربي اعتدنا عليه، تستثنى إسرائيل من ذلك فهي الوحيدة التي تستطيع، باسم تاريخ لم يستطع إثباته حتى علماؤها، أن تهدم واقعا تاريخيا معاشا لتشيد عليه تاريخا آخر من ابتداعها.

في زمن ليس ببعيد عندما كان هناك اتحاد سوفييتي ومنظومة اشتراكية واحزاب شيوعية عربية كان لبعضها صوت مسموع لدى جزء من شعوبها كان الكثيرون خاصة من الطبقة الوسطى ومن المثقفين يعتبرون أن الشيوعية تمثل المستقبل. وعندما تهاوى حلم المستقبل هذا بعد ما جرى للمنظومة الاشتراكية انقلب أكثرهم إلى ليبراليين.

في مقابل الحلم الشيوعي الذي بيع بالمزاد هل هناك حلم أمريكي معروض للبيع؟ وإذا كان موجوا، ما هي البلدان التي اشترته فحولته إلى واقع؟ ليس هناك حلم أمريكي معروض أمام بلد متخلف بل خضوع لأمريكا.. وإذا سلمنا أن صراع الولايات المتحدة مع الصين ومع روسيا تبغي من وراءه عرقلة تطور هاتين الدولتين ومنع تحولهما إلى قوة منافسة في الحالة الروسية ومتقدمة على الولايات المتحدة في الحالة الصينية فأية فرصة امام بلد كالعراق ليصبح بلدا متطورا تحت مظلة أمريكا؟ لم تبن الشركات الأمريكية مصنعا أو مدرسة أو مجمعا سكنيا واحدا منذ 2003 وتبذل جهودا كبيرة لإفشال الاتفاق الصيني العراقي لتطوير البنية التحتية وتفشل كل محاولات الشركات الغربية وأولها سايمنز الألمانية لحل مشكلة الطاقة الكهربائية التي اصبحت مزمنة.
لذلك، إذا كان حلم الشيوعية هو حلم الانعتاق المادي والروحي أليس الحلم الأمريكي غير حلم العبودية المادية والروحية كما راينا في كل مكان حلت به أمريكا؟

ويتحدث البعض عن “توافق إيراني أمريكي في العراق” ليوحي أن التدخل الأمريكي في العراق يوازي التدخل الإيراني. غير أن إيران تعتبر، وهي محقة، أن أمنها مهدد من الوجود الأمريكي وهي محاطة بأربعين قاعدة عسكرية أمريكية موزعة بين العراق وتركيا ودول الخليج وأفغانستان ودول آسيا الوسطى، فأي تهديد للأمن الوطني والإقليمي الأمريكي تشكل إيران التي تبعد عن أمريكا أكثرمن 10 آلاف كم؟ وإذا قيل أن إيران تهدد حلفاء أمريكا الخليجيين فهل إيران هي التي اختارت العداوة مع هذه الدول؟ وهل توقفت يوما عن دعوتها لهم للتفاهم والتعاون على حفظ أمن المنطقة؟

ورغم أن تاريخ العلاقة الأمريكية الإيرانية الحديث منذ اندلاع الثورة الإيرانية ملئ بالكذب والخداع الإعلامي الغربي والخليجي لا زلنا نجد من يتجاهل الواقع الحقيقي لهذه العلاقة بل لا يريد أن يعرف عن سابق إصرار. ذات مرة تحدثت عن قضية مستعينا بما ذكرته فضائية “الميادين” فقال زميلي الذي كنت أتحدث إليه وهو مثقف: “أنا لا اشاهد “الميادين” لأنها إيرانية”. (توقفت القناة عن البث منذ بضعة ايام ربما بسبب تقديمها برنامجا حول السعودية).

نحن هنا أمام حالة يفضل بها مثقف أن يسمع ويصدق ما تنقله القنوات الخليجية و”الحرة” الأمريكية على أن يستمع لقناة لا تتبع دولة بعينها تناصر قضايا التحرر في فلسطين وفنزويلا والعراق وإيران ولبنان وسوريا واليمن. فأي تصورعن العالم وحقيقة ما يجري به يمكن للمرء أن ينسجه من خلال القنوات الخليجية والأمريكية؟

وآخر ما يفيد قوله هو الإشارة إلى تقرير مقررة حقوق الانسان والتحقيق في جرائم القتل خارج القانون التابعة للأمم المتحدة أنييس كالامار والتي تولت التحقيق في قتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني من قبل الولايات المتحدة وهو يقوم بزيارة رسمية للعراق.جاء التقرير ليدين السلوك الأمريكي الذي لا يلتزم بأية معايير قانونية او أخلاقية ويعري ماكنة الكذب الغربية-الخليجية التي لم تأت على ذكر للتقرير. أما المصابون بداء العداء لإيران فهم لا يريدون أن يسمعوا به اصلا.

وأهم ما خلص إليه التقرير من حقائق :

أولا: أن الولايات المتحدة لم تقدم أي دليل على أن سليماني كان يشكل خطرا على أمنها..
ثانيا: أن العملية الأمريكية هي قتل تعسفي..

ثالثا (وهو إقرار يكتسي أهمية خاصة): أن سليماني قد قضى السنوات الأخيرة من حياته وهو يقاتل الإرهاب…
فإذا كان من يجهل الماضي عنده ما يعتذر به فأي عذر له بجهل الحاضر؟