ملاحظة أولى : هذا من ضمن المقالات القليلة التي كنت أبكي وأنا أنسج خيوطها !

مازالت تعلق في ذاكرتي وتحفر في روحي أخدودا عميقا يمتد لمسافة بعيدة ،هي رواية ( الجذور) لكاتب فاز بها ولم أعد أذكر إسمه ،ولاأهتم بذلك ، فمأساة الطفل الذي أختطف حين كان نائما جوار أبيه الزنجي تحت ظل شجرة عندما كانا متوجهين لزيارة أقرباء لهم في مكان من أفريقيا تحزنني وتشبعني ضربا بأعواد وأسلاك وسياط وحجارة وسلاسل ممتدة ، أتألم كثيرا حين أتذكر الأم توصي صغيرها أن يهتم بنفسه ، ولايبتعد عن والده ، ولايشاكس في الطريق ، ولم تنس تزويدهما بمايكفي من طعام لرحلة الأحراش التي ملئت عقل الصغير بأحلام لاتنتهي ، ولم يكن يدرك إن بداية قيام أمريكا تتطلب شحن عشرات آلاف الزنوج من أنحاء من القارة السوداء ليوصموا بالعبيد وتقوم على أكتافهم مستعمرات حديثة في  الحقول والجبال والصحاري الشاسعة ، وليتم إعلان أمريكا سيدة العالم .

حين أفاق الرجل لم يجد ولده الى جواره ،وعاد يسأل عنه ،وينظر في عيني زوجته الدامعتين حتى مات جميع أفراد الأسرة بعد عمر طويل حافل بإنتظار من لايأتي أبدا ، بينما وصل هو مع الآلاف الى سواحل العالم الجديد ،ورمي ومجموعة من الزنوج الى بعض البيض ليحكموهم بالسياط ، لكن الصغير كبر وترعرع في العبودية خادما لسيد أبيض ربما كان رحيما به في أحيان وقاسيا في كثير منها ، كبر ووجه شقيقته الصغرى لم يكبر في ذاكرته فهو يحتفظ بوجهها الطفولي تلعب معه ،ولم يعد يستطيع تخيل إنها كبرت وصارت زوجة وربما ماتت ، أو خطفت ، وقد تكون في مزرعة مجاورة للمزرعة التي يعيش فيها رقا ذليلا ، ولايعرف ولن يعرف حتى يموت أين هم أهله ،وظل يغالب الدموع الى أن (كبر وكبر وكبر وتزوج وأنجب وشاخ وهرم ومرض ومات ودفن) !!

يقول صديقي الذي يعيش في كندا ، إن مسؤولا جاء بجماعة من جامايكا وسكنوا مقاطعة مجاورة ،وهم يحكمون .. يتحدث عن فخر الشابات الشقراوات وهن يصطحبن شبانا زنوجا يتفاخرن أنهم يضاجعوهن ، ولايكلفهم ذلك شيئا ، وتتباهى الشابة الشقراء بين صديقاتها، فهي أفضل حالا منهن لأن صديقها زنجي من جذور أفريقية ، وفي أمريكا صار السود يحكمون ، وصار شبيهي أوباما سيد البيت الأبيض رغم سواد وجهه ، ولانعلم ما سيكون عليه حال العالم مستقبل بوجود السود وحضورهم المميز وتفوقهم في رياضات وعلوم شتى .هم لم يسكتوا بالطبع فقد ثاروا وطالبوا بحقوقهم وقدموا الضحايا وسالت دماؤهم في شوارع المدن الأمريكية حتى صار الشعب الأمريكي الأبيض يتوسل لرؤية وجه أوبرا وينفري الأسود ، ووجه أوباما وأبطال كرة السلة والطائرة والملاكمين العظام ومغني الروك أندرول وعازفي الجاز ونجوم السينما اللامعين ، هولاء كلهم سود الوجوه تجري خلفهم أمريكا ببياضها وسمارها وشقراواتها الجميلات .

العالم كله يقف اليوم إجلالا لرجل إسمه مانديلا ، الذي تصرف كنبي وسامح جلاديه .

في العراق ،وإذا أساء لنا شخص وبالغ في الإساءة نقول له ، سوّد الله وجهك ، أرى أن نعيد التفكير في هذا الإطلاق من الكلمات ، فإذا أحببنا فعل شخص منا وأراحنا فلنقل له، سوّد الله وجهك.