يشتكون من توافد مجموعات بشرية على العاصمة بغداد من مدن وقرى غرب وجنوب العراق مع ما تحمل من موروثات ثقافية ودينية وسلوكيات وتقاليد يرون إنها لا تلتقي والتقاليد البغدادية العريقة والثوابت في السلوك والتفكير والعيش النخبوي، وصار العامة مثلما المثقفين يتهمون أبناء المحافظات من الوافدين أنهم شوهوا بغداد حين حصلوا على مناصب عليا في الدولة أو حين قطنت مجموعات منهم أطراف العاصمة ثم زحفوا الى وسطها ثم تملّكوا القلب منها إثر تحولات سياسية غير مسبوقة ثم فرضوا نمط عيش مختلف وعادات وتقاليد صادمة غيّرت من شكل بغداد حتى أمسى البعض يفكر في الرحيل عدا عن الذين رحلوا بمجرد إستشعار خطر ذلك التغيير.
ولو سلمنا جدلاً برأي ورؤية هؤلاء فهل يلغي ذلك أهمية التساؤل عن الأسباب التي تقف وراء ذلك الغزو الثقافي والديني والعشائري والسلوكي للعاصمة؟
لا شك إن التنمية الإقتصادية والإجتماعية والثقافية تسهم الى حد بعيد في تطور ونهوض المجتمعات ومن الضرورة بمكان أن تهتم الحكومات بالمدن المكونة للدولة إهتمامها بالعاصمة فلا تهمل شروط النهضة وتركز على العاصمة.. وما حصل خلال قرون متطاولة أن بغداد هي المدينة والحاضرة وهي السلطة والنفوذ والرفعة والعز والمستقبل والوظيفة والنخبوية حيث يطمح أبناء القرى البعيدة والمدن القصية بالنزوح إليها بحثاً عن فرصة فيضيع أبناؤها الأصليون في زحمة الوافدين من عامل الشاي حتى رئيس الجمهورية.
في مصر لا يختلف الحال كثيرا فالعاصمة القاهرة تسمى مصر ويقول الذاهب من مدينته أو قريته الى القاهرة إنه ذاهب الى (مصر) نافياً وجود مدن وحواضر أخرى في بلده، وبرغم أن محافظات الجمهورية يزيد  على العشرين فليس من مدينة سوى القاهرة التي تحولت الى دولة لا إلى مدينة كبقية المدن ثم أن كل مقدرات الدولة وخدماتها تركز عليها في الوقت الذي تهمل فيه غيرها من المدن .  دفع ذلك بالمواطنين لينتابهم الشعور بالدونية ومعها يحاولون تغيير أنماط عيشهم وسلوكهم ولهجتهم ولباسهم.
نجد أن كبار المستثمرين والصناعيين في ألمانيا يتوجهون الى ميونخ ،ولا أحد يفكر في بون أو برلين، وقليل من الأتراك يحترم العاصمة أنقرة ويرون في إسطنبول عاصمة الدولة .  أنظر الى مدن أخرى حول العالم ليست بعواصم لكنها تجاوزت العاصمة بكثير (ولايات أمريكا) مونتريال ، ميلان، مانشستر، برشلونة، شنغهاي، بومباي، كراتشي .. وعدد آخر يفوق الحصر من المدن والحواضر الصناعية التي تجذب رؤوس الأموال والعمالة والنخب الفكرية والإقتصادية إليها فلا يعود أحد يفكر في أن الحياة موجودة في العاصمة فقط!
الحل يكمن في التنمية ،وفي قطاعات عدة تجعل من مواطني البلد لا يشعرون بوجود الدولة في العاصمة وحسب بل إن الدولة موجودة في كل أنحائها وفي كل مدنها وجهاتها. عندها سيكون هناك أمل في مستقبل أفضل ولا تعود بغداد كمومس خرساء.

هادي جلو مرعي