انتفـــاضــــة…
قصة: نبيـــل عـــودة
(مرفق مراجعة نقدية: بنية الخبر في قصة انتفاضة – بقلم : د. أفنان القاسم)
لا يذكر ختيارية البلد حادثا شبيها مثل ما جرى خلال الأسابيع الأخيرة، الحياة الرتيبة توقفت. التساؤلات كثرت. امتلأت الحارة بالغرباء. سيارات من كل الألوان والأنواع مع صحون كبيرة على سقفها. الكل يتساءل ما الذي حدث؟ هل هي حرب جديدة؟ الأولاد يقولون أن هذه الصحون هي لاقطات تلفزيونية تنقل الصورة فورا من هنا إلى كل التلفزيونات حتى التي في أمريكا. هذا الكلام غير مقنع. أيام العجائب انتهت. الأولاد ليسوا مثل أيامنا. ” أكل ومرعى وقلة عقل “، قال ختيار بألم وأضاف: “كنا في جيلهم نزن نصف وزنهم اليوم، ولكن عقلنا كان أكبر”.
توجس الجميع: “ما هذا الهجوم على الحي؟ هل وجدوا جاسوسا؟ كلها قضية ضد رائحة قاتلة من حظيرة خنازير؟ ”
وصل عشرات الرجال مع كاميرات طويلة وقصيرة، وصبايا يركضن حولهم مع أجهزة مختلفة.
بقالة الحارة، استفادت وباعت في اليوم ما تبيعه عادة في أسبوع وأكثر، ورغم أن البيرة من المحرمات، إلا أن الطلب المتزايد عليها من الغرباء، والتذمر من عدم وجودها في بقالة الحارة، اضطر صاحب البقالة إلى إحضار عدة صناديق من المشروب المكروه، بعد أن استغفر ربه مرات كثيرة، وبيعها بالمفرق لقليلي الدين، بسعر مربح جدا، وكان يذمهم في سره وهو يستلم أثمان المشروب الذي حرمه الله. ورغم مقاطعة بعض الأهالي لدكانه، بسبب وجود محرمات إلى جانب البضاعة الأخرى، إلا أن البيع ازداد أضعافا والربح في الأسبوع الواحد أفضل من سنة كاملة، والمسألة تحل بفتوى من شيخ الحارة بعد انتهاء مشكلة رائحة الخنازير وما جرته القضية من ضجة واهتمام وكثرة الوافدين للبلدة. ولولا أن الرائحة حقا صعبة، خاصة في ساعات الليل، لتمنى بقال الحارة ألا يتغير الوضع. ولكنه يفضل الصمت. ولكن السر الذي يخفيه بقال الحارة أن بعض شباب البلد صاروا يشترون البيرة من بقالته، بدل الذهاب للمدينة القريبة، ويخفونها داخل الأكياس، ليشربوها على أطراف البلد حيث لا رقيب ولا حسيب. ولم يكن من مصلحته أن يكشف الأسرار، وفلسفته تقول أن لكل إنسان حسابا عند ربه، وليس عند البقال.
وصلى صاحب المخبز إلى ربه أن تطول الحكاية لسنة كاملة حتى يسد دينه المتراكم من تجهيزات المخبز الجديدة، وبدأ يحضر كميات أكبر من مناقيش الزعتر ومناقيش الجبنة، بل وساعدته أم الأولاد على خبز بيتسا بالجبنة الصفراء والبندورة، وحمد ربه ألف مرة على الخير الدافق، ولولا الحياء لحمد السلطة التي رخصت مزرعة الخنازير على الأرض المصادرة على أطراف البلد.
وانفردت أسارير صاحب كيوسك الفلافل الذي رفع السعر كما لو كان على الشارع العام، وتمنى في سره أن تظل حظيرة الخنازير حتى يتحسن حسابه البنكي ويزوج ابنه البكر.
حتى صاحب المقهى صار يبيع القهوة للمراسلين والزوار من المؤسسات وجمعيات الرفق بالحيوان بكؤوس بلاستيك صغيرة ب: ” 2 شيكل يا بلاش”.. ثم رفع السعر إلى 3 شيكل، لأنها فرصة لن تعود. ولكنه تساءل ما علاقة الرفق بالحيوان بأهل الحي ورائحة الخنازير، ولم يستطيع أن يجد أي علاقة فاستغفر ربه من طارئ مجهول.
ولكن الحق يقال إن أحدا منهم لم يتخلف عن المشاركة في الاحتجاج على إقامة حظيرة خنازير على ارض البلد المصادرة. وافتاها صاحب البقالة بقولة:” البزنس بزنس ” ولم يفهم علية معظم أبناء البلد القصد من كلمة “البزنس”، فانتشرت التفسيرات المتناقضة، وأعجبها أن البزنس هي دمج بين كلمتين: “بز ونس، أي النهد والنساء”، حيث أن الصبايا الراكضات بين مصوري التلفزيونات، شبه مكشوفات الصدر، ونهودهن المهتزة عبر الفانلات الخفيفة تشد الأنظار ويشربن البيرة مثل الرجال. وهذا من مميزات الحدث الكبير الذي أثار هذا الضجيج حول الشكوى من رائحة الخنازير.
كبار السن قالوا أن ما يجري من أحداث، وتدفق العديد من الشخصيات وذوي المناصب والصحفيين ورجال الجمعيات، والالتصاق بأجهزة الراديو، لعدم تفويت نشرات الأخبار، يذكرهم بالانقلابات العسكرية العربية التي كانت تتوقف الإذاعات ليقرأ أحد الضباط البيان العسكري الأول باسم مجلس الثورة، ولا يمضي شهر آخر وإذا الإذاعة تصدح ببيان عسكري أول جديد عن انقلاب عسكري جديد ومجلس ثورة جديد. وصار العربي كلما حدث خلل، أو صمت لبضع ثوان في الراديو، يتوهم أن البث توقف للإعلان عن انقلاب عسكري جديد، فيقرب أذنه لسماعة الراديو حتى لا يفوته خبر الانقلاب العسكري الجديد وتفاصيله وأسماء الجنرالات الجدد، ولكن المميز الوحيد الباقي في الذاكرة من الانقلابات العسكرية العربية، أن ما كان يتغير من لغة البيان، فقط أسماء الجنرالات الذي شكلوا مجلس الثورة الجديد، بدل الجنرالات الخونة السابقين. وكان والدي، رحمه الله، يقول بسخرية:” ما أكثر الجنرالات عند العرب. كلما ازداد عددهم ازداد ضياعنا. كثرة بياناتهم العسكرية توهم السامع أنهم مشغولين بالحروب ضد أعداء الوطن، ويبدو أن المواطن صار يفهم تكتيكات الحرب، أفضل من أكبر جنرال.” واليوم عندما استعيد أقواله، وأستعرض هزائم العرب في الميادين العسكرية والاجتماعية والسياسية والعلمية والأخلاقية، أعرف تماما ما كان يقصد، أو الأصح ما كان يحس به!!
الانقلابات لم تجلب للعرب إلا رؤساء مؤبدين في الرئاسة، زادوا فقر الشعب وطوروا بجدارة أجهزة الأمن والقمع إلى جانب الأغاني الوطنية التي تشدو بإنجازاتهم غير المعروفة إلا للمغني وكاتب الكلمات والملحن، لدرجة أن البعض يظن أن المغنيات ساحرات الجمال، وظهورهن شبه العاري المثير لحماسة الشباب، هو الانجاز العبقري للانقلابات العسكرية في مجال تطوير الفن وعروض الصبايا الجميلات!!
أما ذلك الحدث في البلدة فكان انقلابا من نوع آخر، لا عساكر فيه ولا جنرالات إلا إذا اعتبرنا قادة الأحزاب المتدفقين على البلدة التي كانت شبه منسية، جنرالات سياسيين.
أجل كان انقلابا أشغل البلد والدنيا كلها.. وامتلأت الصحافة بالأخبار والتقارير، وتسابق المراسلون الصحفيون من التلفزيونات، وشبكات الراديو ومراسلي الصحف العربية والعبرية والأجنبية لتغطية الحدث، رغم أن الحديث عن بضعة من عرب البلاد، في بلدة شبه منسية، في بلاد كان اسمها فلسطين وصارت إسرائيل، لم يعد باستطاعتهم تحمل رائحة الخنازير المنبعثة بقوة من حظيرة الخنازير المحاذية للبلدة والمقامة على أراضي السكان المصادرة…
هل لأننا عرب حقنا مغموط دائما؟
هذا السؤال ملأ فضاء القرية، وكالعادة أنكرت السلطة أي علاقة قومية بموضوع إنشاء حظيرة خنازير على أراضي القرية التي صودرت من أجل الصالح العام. وقال ناطق حكومي انه “لا علاقة بين اقتراح قانون منع العرب من القيام بفعاليات بذكرى النكبة، وحقهم بالاحتجاج على رائحة تعمل الحكومة بكل طواقمها المختصة 24 ساعة يوميا لإيجاد حل للمشكلةّ. وانه حتى لو أقرت الكنيست إسقاط مكانة اللغة العربية كلغة ثانية، حسب مشروع القانون المقدم للكنيست، فمن حق السكان أن يرفعوا شعارات بالعربية، وهذا لن يعاقب عليه القانون لأن إسرائيل دولة ديمقراطية”.
هذا التصريح الخطير تناقلته كل وسائل الإعلام، وأثار غضب المستوطنين اليمينيين، إذ انه أثبت أن الحكومة تهتم بمطالب العرب أكثر من اهتمامها بمطالبهم، بتوسيع البناء في المستوطنات.
الراديو المحلي أرسل مراسلا مقيما ليرصد الحدث غير العادي. ونشر تقارير وتعقيبات كل ساعة تقريبا، عن مخاطر الروائح، وضرورة نقل السكان إلى مكان آمن، حتى لا يتأذوا من الرائحة. وان تفرض قيود تحدد عدد الخنازير المسموح تربيتها في الحظيرة، بحيث تجري السيطرة على نسبة الروائح المنبعثة من الحظيرة حتى لا تتجاوز المقاييس البيئية التي تتحملها صحة البشر، حسب معايير وزارة البيئة، وتساءل أحد قادة الاحتجاج في البلدة إذا كانت معايير الوزارة متشابهة بين مختلف البشر المواطنين في الدولة؟ وهل اصطلاح البشر يخص العرب في هذه الحالة؟ مما يعتبر تقدما عن وصف قاله زعيم سابق بأنهم: “حيوانات تدب على اثنين “. أو يكون الحل بنقل المواطنين العرب إلى بلدة أخرى، وتوسيع الحظيرة التي يزداد الطلب على لحوم خنازيرها، خاصة بعد الهجرة الروسية التي جلبت مليون إنسان جديد، وصارت مزارع الخنازير تشكل مصدرا هاما لميزانية الدولة، لا يمكن الاستهتار به.
أحد المستمعين تساءل عبر الهاتف لماذا لا تنقل الحظيرة إلى مكان غير مأهول بدل هذا التشاطر في إيجاد حلول لا تنهي المشكلة؟ وهل نقل السكان العرب جائز ونقل الخنازير غير جائز؟ أم لأننا عرب حقنا مغموط دائما في هذه الدولة، حتى الخنازير لهم أهمية أكثر منا… رحلوا الخنازير…
و.. انقطع البث ووضعت بدلا منه أغنية وطنية للفنانة الوطنية الكبيرة هيفاء وهبي:
” ليك الواوا بوس الواوا خلى الواوا يصح
لما بوستو الواوا شيلتو صار الواوا بح ”
وذلك تعبيرا عن الواقع الأليم في الحي من رائحة الخنازير القاتلة التي تصلهم مع نسمات الهواء. ولم يسمح لذلك المواطن بالتعبير عن رأيه كاملا، إذ صدر أمر من مدير الراديو بقطع البث منعا لهذا التطاول الترانسفيري على الخنازير، ولم يسمح لذلك المواطن بالتعبير عن رأيه كاملا، وأضاف مدير الراديو توجيها يقول أن الأحاديث حول هذا الموضوع السياسي الخطير، يجب أن تخضع للرقابة قبل بثها حتى لا تقع أزمة في العلاقات مع السلطة، لأن أصحاب المزارع يهود، وقد يفهم الكلام بأنه طلب لتهجير أصحاب المزارع اليهود من المنطقة وليس الخنازير. ونقل الحظيرة لمكان آخر خال من الناس سيفهم رفضا للنظام الديمقراطي الذي يضمن حرية كل شخص في اختيار مهنته، بغض النظر عن قوميته أو دينه. والويل لنا من هذا الموقف العنصري إذ سيقال أن العرب يرفضون مجاورة اليهود…وسيكون ذلك تبريرا لرفض الحاخامات تأجير بيوت للعرب في صفد والقدس وحيفا وطبريا والناصرة العليا وكرمئيل ومختلف المدن في إسرائيل.
مواقع الانترنت نصبت كاميراتها ترصدا لما سيحدث. كان التوتر شديدا.
وأصل الحكاية….
بدأت الحكاية من شكوى للمحكمة باسم أكثر من مائة صاحب منزل، ضد صاحب مزرعة خنازير أقيمت على أطراف البلد، على أراضي صودرت بحجة إقامة مشاريع حيوية للمواطنين. ولكن السلطة أجرت الأرض لمستثمرين يهود لإقامة حظائر خنازير بعيدا عن المدن والبلدات اليهودية، بدل أن تقام مدرسة حسب المشروع الأصلي الذي أعدته السلطة المحلية قبل مصادرة الأرض. وصار الهواء يحمل إليهم رائحة قاتلة تجبرهم على إغلاق شبابيك منازلهم ليلا ونهارا، والتشظي في حم الصيف القاتل. والمشكلة أن الحظيرة رخصت من وزارة الداخلية التي يديرها يهودي متدين يرى بتربية الخنازير وأكل لحومها تجاوزا لتعاليم التوراة، وتلويت الأرض المقدسة بما يغضب الرب ويوقف المطر، ويسبب الحرائق في البلاد، ويزيد من انتشار الأمراض القاتلة، ويزيد من الكوارث الطبيعية غير العادية، بل ويجعل النساء يلدن إناثا بدل الذكور، كما يقول بمعرفة وثقة طويلي اللحى والسوالف من الحاخامات الذين لا يرفض الرب طلباتهم، وهم مصدر موثوق للكثير من المواطنين.. ولكن القانون ليس ملك أيمانهم، وبما أن الحظائر أقيمت على أراضي الدولة التي استعيدت من الأغيار الدخلاء، أو “الصراصير المسممين” كما وصفهم رئيس أركان سابق للجيش. إذن لا مضرة من إقامة حظائر للخنازير، في المناطق التي يسكنها الصراصير، بدل أن تبقى في أيديهم، مما يشكل كارثة أعظم بعدم استعادة ارض الميعاد كاملة كما كانت مشيئة الرب. الأهم أن لحوم الخنازير صارت الأكثر طلبا في الأسواق اليهودية أيضا، خاصة بعد الهجرة الروسية الكبيرة، والمعروف أن ذلك يضمن لهم توفر الهبات والميزانيات الضخمة والخاصة، حتى لا تثير أحزابهم أزمة وزارية، مع حكومة العلمانيين ويواصلوا بالتالي دعم بقائها.
أحد أبناء البلدة المنكوبة برائحة الحظيرة، ادعى في المحكمة انه فقد من وزنة 10 كيلوغرامات كاملة خلال شهر واحد بسبب الرائحة القذرة وان الكشف الصحي يظهر فقرا بالدم. وهو متأكد أن السبب تلك الرائحة الرهيبة من مزرعة الخنازير. وان سائر سكان البلدة يعانون من مشاكل صحية مختلفة بسبب الروائح القذرة التي يتنفسها مع الهواء ليلا ونهارا سكان البلدة.
احدهم ادعى أن خطيبته أرجعت له خاتم الخطوبة وأساور الذهب وكل هداياه لأنها ترفض السكن في المنزل الذي بناه في البلدة المنكوبة برائحة الحظيرة، وان على صاحب الحظيرة تعويضه عن مصروفه من أيام الخطوبة، حيث تكلف مصاريف مطاعم وجولات في الطبيعة مع خطيبته، وأجرة مرات عديدة فنادق لنصف يوم، لنومة قيلولة الظهر، التي كان يضطر لها بعد الطعام الدسم في المطاعم..
امرأة من الحي المنكوب ادعت أن زوجها صار يبيت في حيفا عند عشيقة يهودية تعرف عليها، وهو صايع في شوارع حيفا هربا من الرائحة التي ابتلوا فيها، وأنها تطالب صاحب الحظيرة بتعويضها عن زوجها نقدا ومصاريف إيجاد زوج وزواج آخر.
وشهدت جلسات المحكمة صراعا كاد يتطور إلى الضرب بالأيدي لولا تدخل الشرطة لفرض النظام، واتُهم بعض العرب بالتحريض العنصري وجرى اعتقالهم تمهيدا لمحاكمتهم. وسببت أعمال الاحتجاج لسكان البلدة، مقاطعة يهودية، فكسد العمل في مطاعم الحمص والفول وكيوسكات الفلافل والشوارما. وبسبب منع التصوير داخل قاعة المحاكم، حسب القانون، فات المشاهدين عرض مصور قد يصلح للحصول على جائزة الأوسكار للفلم الوثائقي، أو يكتفي بسعفة “مهرجان كان” الذهبية.
الضجة التي رافقت هذا النزاع هي أمر لا يصدق. وكان الكثيرون يرددون أن الخوف الأكبر أن تتجدد أنفلونزا الخنازير في العالم، من هذه المنطقة بالذات، بعد أن خبا جنون الخوف من هذا المرض ألخنزيري في العالم. وسيكون أهل الحي أول ضحايا تجدد هذا المرض الفتاك.
وأصبحت أغنية شعبولا عن إعدام الخنازير نشيدا قوميا لأهل الحي يذاع من مسجلات البيوت ليلا ونهارا:
” كوارثنا زادت كارثة
والوضع شكله خطير
قال يعنى كانت ناقصة
أنفلونزا الخنازير”.
الصحافة المطبوعة تخلفت كالعادة في نشر تفاصيل الأحداث المثيرة عن سير القضية أمام القضاء، ومن تفاصيل شخصية أرفقها المشتكون ضد صاحب الحظيرة المستهتر بصحتهم. وما نشرته كان معروفا، وزهق الناس من تبادل الأحاديث حوله في السهرات.
موقع “العلقة” المشهور سبق الجميع بنشر مئات الصور لأهل الحي ولصاحب الحظيرة، بل ونقلوا صورا للخنازير وكيف يجري شطفها يوميا منعا للرائحة المؤذية، وسجل لقاء مصورا مع صاحب الحظيرة اعترف فيه أن المشكلة في خنزير واحد تضخم كثيرا، وازداد شراسة ووحشية، وصار الاقتراب منه يشكل خطرا على العمال، مما سبب هذا الإزعاج المؤقت لبعض السكان. وان رافعي الدعوى ضده وضد حظيرته جانبهم الصواب، لأن القضية تتعلق بوزارة البيئة، التي ترفض تخصيص ميزانية لإخلاء الخنزير الشرس إلى المسلخ. وأن عليهم استبدال الدعوى ضده بالدعوى ضد الخنزير الذي سبب هذا الإشكال، وضد الوزارة التي لا تقلق كثيرا على البيئة في الوسط العربي، مما يشكل تمييزا عنصريا واضحا للعيان، وانه هو كيهودي صاحب مزرعة في منطقة عربية، ورجل مناضل من أجل السلام، يؤكد على وجود التمييز في هذا المجال فقط.
في تعليقات القراء التي تملأ عادة موقع “العلقة” اهتم المعلقون من جمهور المراهقين والمراهقات، كما يظهر من تعليقاتهم، بالحديث عن الصبايا والمغنيات ساحرات الجمال، وتبادل كلمات الغزل والتلميحات عن أماكن التواجد في أوقات معينة، بلغة تشبه لغة التشفير العسكرية. وهذا الأمر أقلق أجهزة الأمن من مخاطر تسرب أسرار الدولة إلى الأعداء في الخارج بلغة الشفرة التي طورها المراهقين وبعض التعقيبات كانت مثلا السؤال: هل سترتدي ميرا التنورة التفتا القصيرة التي تسلب العقل؟ أو السؤال عن نوع البكيني الذي ستتجلى به الصبية منيرة على شاطئ البحر، وهل ستكون لوحدها، أم مع رقابة عسكرية من أمها وخالاتها وعماتها؟؟. وهل جدتك يا أم الشعر الأسود، حادة النظر أم نستطيع الاختلاء وراء التينة في حاكورة الجارة؟
وشاب سأل البنت التي اسمها يبدأ بحرف أل “ف ” إذا تلقت صورته الجميلة على الفيسبوك، ولماذا قطعت الاتصال به فجأة؟
وواحد ولهان قال ل “قمر الزمان” أن حمالة الصدر تشوه صورتها الجميلة، ورجاء حار أن ترسل له صورة جديدة بدون هذه الخرقة السخيفة على الصدر.
وقد بلغت التعليقات على الموضوع المقلق أكثر من ثمانين تعليقا، ولكن لم يذكر أحد من المعلقين مشكلة الحي مع رائحة الخنازير. إلا معلقان اثنان، الأول استغفر الله العلي القدير، وطالب بتصفية عرقية للخنازير مثلما جرى في مصر، وقال المعلق الثاني بلغة عربية ركيكة أن الذي يقول هذا الكلام، عن تصفية عرقية للخنازير جبان، ولو ذكر اسمه الصريح في التعليق لتورط في محاكمة دولية لحقوق الإنسان في لاهاي، لأنه في الحقيقة يتحجج بالخنازير ليغلف كراهيته لليهود ورغبته بتصفيتهم!!
وكتب صحفي غاضب في مقاله الأسبوعي يقول انه أرسل أكثر من تعليق جاد على الخبر والصور لموقع “العلقة”، إلا أن الموقع لا ينشر إلا التعليقات غير الجادة والتي لا علاقة لها بالموضوع المثير والمقلق لكل أهل البلد.
نترك العشاق يعلقون على مشكلة الخنازير، ونذكر أن ما قاله صاحب المزرعة بأن المشكلة هي من خنزير واحد، قد لفتت انتباه وسائل الإعلام المحلية والعالمية وتساءلوا لماذا لا يتم التخلص من الخنزير بمساعدة حكومية؟ وهل من ضرورة لكل هذه الضجة بسبب خنزير واحد شرس ذو رائحة مؤذية، يسبب مكارة بيئية للسكان، كما يدعي صاحب المزرعة؟ والأهم يثير ضجة عربية بحيث تبدو ديمقراطية الدولة مشكوك فيها، أو ديمقراطية تمييزية حصة اليهود فيها كبيرة وللعرب برارتها؟
واقترح أحد المواطنين العرب بحماس، أن تحل المشكلة برصاصة في رأس الخنزير!
مقترح إطلاق رصاصة على رأس الخنزير كاد يتورط بقضية قضائية، إذ هددوا بتقديمه للمحاكمة بتهمة التحريض على القتل واللسان السيئ ضد الخنازير، وربما يتحايل بذلك على قتل صاحب الحظيرة أيضا، مما يعتبر إخلالا امنيا، وعملا إرهابيا قوميا يعرض أمن الدولة للخطر، فسارع بنشر اعتذار رسمي في ثلاث صحف وعلى مساحة صفحة كاملة، دفع مقابلها من جيبه أجرة عمل شهر ونصف كاملين، معلنا انه لا يملك السلاح أصلا، وان اقتراحه كان غباء مطلقا منه، ويعتذر من الخنزير الضخم ومن سائر أبناء جنسه و”خاصة أعضاء جمعيات الرفق بالحيوان”، كما جاء في الاعتذار المصاغ بشكل خاطئ ومضحك، ومن حسن حظه أنهم لم يفهموا الجملة كما صيغت خطأ باللغة العربية. ويطمئن أصحاب المزارع اليهود، وجمعيات الرفق بالحيوان، انه لا ينتمي لأي منظمة إرهابية، أو معادية للسامية، وانه إنسان مسالم بل ومستعد أن يتبرع أيضا بيوم عمل تطوعي كامل في تنظيف الحظيرة تعبيرا عن ندمه وتراجعه عما تفوه به في لحظة فقدان للتفكير السليم. ولكن بعض نشطاء الأحزاب اعتبروا استعداده للتطوع نوعا من الخدمة العسكرية لدولة الاحتلال. فاعتذر أيضا لهم، وأعلن انه ضد كل أشكال التطوع، وقاتل الله التطوع والمتطوعين.
وهناك معلومات لم تتأكد بعد تقول أن المخابرات تفحص إذا كانت للمحرضين على قتل الخنزير برصاصة، أو بطرق أخرى، علاقات مع حزب الله وحماس أو مع حركات متطرفة أخرى.
صاحب المزرعة، تمشيا مع أوامر وتوجيهات جمعيات الرفق بالحيوان، التي ترفض استعمال العنف مع هذه المخلوقات الوديعة وغير العاقلة، والتي تعتبر موردا اقتصاديا للمجتمع ولإطعام أكثرية أبناء المجتمع، قرر اقتراح جائزة كبيرة للشخص الذي ينجح بإقناع الخنزير الضخم والشرس، بطرق إنسانية لا غبار عليها ولا عنف فيها، بمغادرة الحظيرة بإرادته الحرة، ليجري تنظيف رائحته القاتلة.
وهمس مواطن عربي في أذن صديق له وهو يتلفت قلقا حوله خوفا من الآذان التي ترصد كل ما يتفوه به العرب :”لا يعنيهم الأمر، خاصة عندما تكون المشكلة بإطلاق الرصاص على العرب، أو هدم بيت عربي، إما التخلص من خنزير واحد أو حظيرة كاملة قتلتنا برائحتها فقد صارت مسألة أمنية ودولية، لأن صاحب الحظيرة يهودي والمتضررين عرب”.
الجائزة التي اقترحها صاحب المزرعة لا تتعدى ثمن ذبيحة واحدة من حظيرته الضخمة بعشرات آلاف الرؤوس، وقد صارت حديث المجتمع، ووصلت للبحث في البرلمان، وقام النواب العرب بالصراخ والمقاطعة، ووصفوا ترخيص الحظيرة بجوار البلدة العربية بالعنصرية والتمييز الفاضح، وهاجموا المتحدث باسم الحكومة بسبب تبريراته المضحكة بان الحظيرة توفر أماكن عمل للعمال العرب. وقالوا له تعال حضرتك وقف لساعة واحدة في شوارع البلدة المنكوبة، هل ستتحمل الرائحة القذرة؟ وجد لنا عاملا يهوديا واحدا يقبل هذا العمل الشاق والمؤذي صحيا. وسأله أحد النواب:” كيف تفسر تفضيل حكومتك العنصرية إقامة مزرعة خنازير بدل مدرسة، البلدة بحاجة ماسة لها؟ والأرض أصلا كانت مخصصة لهذا المشروع التربوي؟” مما اعتبره المتحدث تحريضا ضد اليهود أصحاب مزارع الخنازير. فاخرج النواب العرب من الجلسة، واسقط البحث بأكثرية أصوات الائتلاف ودعم المعارضة للموقف الوطني أيضا.
واحتلت مشكلة الرائحة الخنزيرية رأس نشرات الأخبار سابقة حتى الأخبار عن فضائح زعماء الدولة المالية والجنسية. مما خفف من كشف ما هو أكثر فساد. وسبقت حكاية الخنزير الأخبار عن مفاوضات السلام الفلسطينية الإسرائيلية وتعثرها، وإمكانية إعلان دولة فلسطينية من طرف واحد. وتقدمت على أخبار الخطر النووي الإيراني، والجهود العالمية لمنع إيران من أنتاج السلاح النووي. بل وكادت البلدة تنسى ما يجري في سوريا من مذابح يرتكبها النظام ضد المواطنين، وأُغرق قائد أحد الأحزاب بالبصاق لأنه تجاوز الحدود حين قال أن ما يجري في سوريا مؤامرة صهيونية امبريالية لا تختلف عن مؤامرة إقامة الحظيرة قرب البلدة، وطرد شر طردة. وقال معلق القناة التلفزيونية الرابعة والنصف في إسرائيل أن مشكلة الخنزير وأهل الحي المشتكين من رائحته، تشبه حال العرب مقابل إيران فيما لو امتلكت الأخيرة السلاح الذري. وأن الضغط الإسرائيلي السري للقيام بعملية عسكرية تبيد المنشئات النووية الإيرانية هو لمصلحة العرب أولا، وعليهم أن يأخذوا نموذجا حيا من المشكلة البيئية القاتلة التي سببها خنزير واحد تضخم وعفن، وصار مشكلة لأهل بلدة عربية كاملة. وقال تصوروا أن النووي الإيراني هو خنزير ضخم جدا تقتل رائحته مواطني العالم العربي بسبب قربهم من الحدود الإيرانية.
وتناقلت وكالات الأنباء الخبر عن المشكلة التي سببها الخنزير الضخم والشرس، ووزعته مع تعقيبات القناة الرابعة والنصف، وأثار الأمر موجة من التساؤلات، وحضرت طواقم تلفزيونية دولية لتسجيل التفاصيل والاستفادة من الخبرة الإسرائيلية المهنية في التعامل مع الخنازير وتربيتها وعلاقتها بالخطط ضد النووي الإيراني، وضد حزب الله وحماس. وطلب السكرتير العام للأمم المتحدة تزويده بالتطورات الجديدة التي ترد تباعا من الشرق الأوسط، وسأل مستشاريه إذا كانت من ضرورة لعقد جلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي. وعقد مشاورات مع السفراء الممثلين للدول الخمسة الكبرى. وبرز بينهم السفير الروسي الذي ضحك بشدة من خلق مشكلة دولية بسبب خنزير واحد، معلنا استعداد روسيا لرفع الخنزير ونقله إلى المسلخ في موسكو، وإعداد وجبة ممتازة من لحمه يدعى لها قادة العالم، مع أفضل أنواع الفودكا الروسية. وقُدم الاقتراح لحكومة إسرائيل التي رفضت العرض الروسي، وردت بالشكر والاعتذار رافضة ألاقتراح الروسي، لأن الروس في إسرائيل أولى بالمعروف وأحق بلحم الخنزير، ولا تنقص السوق المحلية أجود أنواع الفودكا، ومنها فودكا تصنع في أمريكا.
مقابل الحصول على الجائزة، توافد الكثيرون من خبراء تربية الخنازير في العالم وإسرائيل معلنين استعدادهم لإخراج هذا الحيوان من حظيرته وقيادته إلى المسلخ، وإعادة التفاهم اليهودي العربي بين المواطنين، والذي تضرر وسبب مقاطعة يهودية لمطاعم الحمص والفول بعد مطالبة سكان البلدة بإنقاذهم من رائحة الخنازير بإبعاد الحظيرة من حدود بلدتهم إلى مكان نائي لا يسكنه أحد.
وقف الخبراء بالدور لتجربة حظهم في تحريك الخنزير للخروج… ولكن سبعة منهم فشلوا وهربوا بعد لحظات من ألاقتراب من الخنزير، بسبب رائحته التي تسطل وكأن الإنسان حقن بمخدر شديد المفعول.
هذا الأمر جعل الكثيرين يتراجعون. رفعت قيمة الجائزة إلى ثمن خمس ذبائح. تقدم عدد من الأشخاص، لم يفلحوا بالصمود أمام الخنزير، بل وواحد حاول سحبه فكاد يموت بأسنان هذا الحيوان الضخم والشرس،ونقل بطائرة عمودية على وجه السرعة إلى مستشفى “رمبام” في حيفا بسبب إصاباته الصعبة.
قال وزير القضاء أن وزارته فتحت ملفا للتحقيق في الوسائل غير المشروعة التي تقترح وتمارس لإخراج الخنزير من حظيرته.
وزير البيئة عبر عن خوفه من أن يتوسع الحي العربي في اتجاه المزرعة ببناء غير قانوني بعد نقل الخنزير للمسلخ، وهل سيلحق ذلك الضرر بالوضع الديموغرافي في المنطقة؟
أهل البلدة العرب عقدوا مهرجانا خطابيا، تحدث فيه زعماء الأحزاب مطالبين، بترحيل الخنازير، ورفعوا شعار “ترانسفير للخنازير فورا”، مقابل شعار ” ترانسفير للعرب” لأحد الأحزاب اليهودية. زعيم أحد الأحزاب العربية القومية طالب بإعدام الخنازير، ثم اضطر لمغادرة وطنه قسرا حتى لا يحاكم على ملايين الدولارات التي تلقاها من الخارج وأخفاها.. وألقيت في النهاية الأشعار وعقدت دبكة شارك فيها الأهالي والزعماء، ونحرت الخراف والعجول على شرف الزعماء.والمعركة تتواصل كما تصرخ عناوين الصحف، رغم أن أهل البلدة نحروا معظم قطيعهم لتكريم الزعماء الأفاضل، وتكريم بعض زعماء الدولة والأحزاب اليهودية على أمل إنصافهم وإيجاد حل لمشكلة الحظيرة وروائحها القاتلة، وذلك طبقا للسياسة العربية التي تقول:”اطعم الفم تختشي العين”. وقال زعيم حزب يميني متطرف إن الرائحة رائعة، فلماذا يحتج العرب؟ متجاهلا أنها رائحة الشواء الشهية التي أسالت لعابه.
والسؤال بعد نحر كل القطيع بمهرجانات الترحيب والخطابة، هل سيزور الزعماء البلدة لسماع شكاوي سكانها من مصادرة ما تبقى من أرضهم وتوسيع مزرعة الخنازير، في كل الاتجاهات رغم أنها تشكل آفة بيئية، وتسبب في وقف نمو البلدة الطبيعي، بل وحرمانها من أرض لبناء مدرسة جديدة باتت ملحة جدا؟
وحدثت مفاجئة غير متوقعة.. حتى الأجهزة الأمنية المختلفة فشلت في توقع الحدث الخطير..
في الواقع لا احد يعرف كيف انفجر الموقف.. يقال أن صداما حدث في فجر أحد الأيام بين أولاد توجهوا وهم يهتفون بشعار “الخنازير بره بره الأرض العربية حرة”” نحو الحظيرة. جاءت الشرطة لتفرقهم بالغاز المسيل للدموع، فإذا البلدة كلها تدخل المعركة دفاعا عن أبنائها وعن حقهم في التعبير عن ألمهم ومصيبتهم من الحظيرة وخنازيرها وروائحها القاتلة. واتسعت المواجهات العنيفة لتشمل البلدات المجاورة التي تدعي أن الروائح تزحف إليها وان أراضيها أيضا صودرت وربما لإقامة حظائر جديدة تشدد الحصار على بلداتهم وتذيقهم الأمرين من الروائح القاتلة…. والأهم حرمانها من تنفيذ مشاريع تطوير لبلداتها.. مما يشعرها بالاختناق غير المحمول.
المعارك بين المواطنين وقوات الشرطة لم تهدا، واستؤنفت في اليوم التالي رغم اعتقال العشرات،
وصدرت الصحف على أثر المصادمات تغطي صورة ضخمة كل صفحتها الأولى عن المواجهات العنيفة بين الأهالي مع الشرطة، وعنوانا صارخا على امتداد الصفحة: انتفاضـــــة!!
*********
بنية الخبر في قصة “انتفاضة” لنبيل عودة
بقلم: د. أفنان القاسم
أستعمل مصطلح “قصة” تجاوزًا، فانتفاضة ليست قصة، انتفاضة في بنيتها ضد-القصة، ضد-السرد، وهي ضد-الشعر، لا تخضع للتقسيم الأرسطوطالي، ولا تخضع للتمثيل الحداثي، خطابها عبارة عن جملة من الأخبار تم استثمارها بشكل يكون الخبر فيه ضد-الحدث، لهذا كان العرض، أو النطق –كما يقول علماء الألسنية – أقرب إلى الهذيان، وبالتالي طغت سلطة العابر على النص، الوقتي، وفَتَحَ الوقتي الباب واسعًا للاتفاقي، للصدفوي.
من هنا جاءت ردود الفعل المتفاوتة لسكان القرية العربية التي اجتاحتها الرائحة الكريهة لحظيرة خنازير أقيمت على قطعة أرض مصادرة من أراضيها –مصادرة تحت إشارات واضحة سياسيًا – وما كانت الرائحة الكريهة –كريهة ولخنازير تحت إشارات واضحة سياقيًا- إلا ذريعة لردود الفعل هذه، ومن ناحية البنية كان كل رد فعل، كل خبر، عبارة عن وحدة من وحدات الخطاب، وكل وحدة من وحدات الخطاب عبارة عن رسالة يرمي قائل الخبر (المؤلف) إلى إيصالها.
لكن وحدة الخبر لا تقوم إلا بوحدات أصغر منها، نطلق عليها الوحدة الجملة، كما يقول بارت، فالفقرة الأولى من القصة، الوحدة الأولى، تقدِّم، كما يقول النص، “لقضية ضد رائحة الخنازير القاتلة” –لنلاحظ المصطلح “ضد” فيما يخص المضمون البنيوي بعد أن حددناه فيما يخص الشكل البنيوي- فالنفي سمة جوهرية “للاقصة” لدى نبيل عودة. هذه الوحدات الجمل، أو الوحيدات يجري نطقها كالتالي:
1- “الحياة الرتيبة توقفت.”
2- “امتلأت الحارة بالغرباء.”
3- “سيارات من كل الألوان والأنواع مع صحون كبيرة على سقفها.”
وهي تطرح مبدأ الكشف على مستويين، زمنيين، حاضر: “الأولاد يقولون إن هذه الصحون هي لاقطات تلفزيونية تنقل الصورة فورًا من هنا إلى كل محطات التلفزيونات حتى التي تقع في أمريكا.” وماض: “هذا الكلام غير مقنع. أيام العجائب انتهت. الأولاد ليسوا مثل أيامنا، “أكل ومرعى وقلة عقل”، قال ختيار بألم وأضاف: “كنا في جيلهم نزن نصف وزنهم اليوم، ولكن عقلنا كان أكبر”.” وفي فقرة تالية، تطرح الوحيدات مبدأ الكشف على مستويين، سلوكيين، قبل: “كانت البيرة من المحرمات، إلا أن الطلب المتزايد عليها من الغرباء والتذمر من عدم وجودها في بقالة الحارة، اضطرا صاحب البقالة إلى إحضار عدة صناديق من المشروب المكروه بعد أن استغفر ربه مرات عدة، وباعها بالمفرق لقليلي الدين بسعر مربح جدًا.” وبعد: “وكان يذمهم في سره وهو يستلم أثمان المشروب الذي حرمه الله.” وقس على ذلك كل الوحدات الخبرية، عربيًا ويهوديًا وعالميًا، بعد أن تغدو القرية العربية المنعزلة محورًا علائقيًا لبنية “الضد”، الفضح في أكمل صوره: كيف كنا وأصبحنا (شيوخ وفتيان القرية)، كيف كنتُ وأصبحتُ (البقال قبل بيع البيرة وبعدها)، كيف كانوا وأصبحوا (الحاخامي صاحب حظيرة الخنازير المحرم أكلها ثم المحلل أكلها)، وقس على ذلك كل الشخصيات التي يدور حولها الخبر كالخباز وبائع الفلافل وصاحب المقهى و… و… و… وفي الناحية المقابلة كل رموز السلطة المتمثلة بأعضاء الكنيست وموظفي الوزارات وسكان المستوطنات وأفراد الجيش والمخابرات و… و… و…
وكما يرى بارت الخطاب كجملة كبيرة والجملة كخطاب صغير، نرى الخطاب لدى نبيل عودة كخبر كبير والخبر كخطاب صغير: هذا التبادل ليس سببه سياسيًا كما يوحي النص به، فالسياسة الفلسطينية-الإسرائيلية إناسية، يزلق في خرجها كل شيء يبحث في أصل الجنس البشري وتطوره وأعرافه وعاداته ومعتقداته، وهي عبارة عن أنظمة لغوية أولاً وقبل كل شيء، ومن هذه الناحية، للنص الخبري أهميته في الكشف عنها، وردها إلى طبيعتها الإنسانية، إي إنقاذها من ضدها، عن طريق الضد، فما تتنبأ به القصة بانتفاضة في الخط الأخضر، يعود إلى قوة الفعل اللغوي بعيدًا عن الأثر السياسي فيه، فالفعل اللغوي، أو الكلام، كما يقول بارت، لا يتوقف عن مرافقة الخطاب، وذلك بمده إليه مرآة بنيته.
باريس