إن المجتمعات التي تمرُّ بحقب سوداء ومظلمة تحت سلطة الحكام الدكتاتوريين، تتعرض لشتى أنواع البلاء من حروب ونقص في الأموال والأنفس والثمرات، مما يؤدي إلى انهيار البنية التحتية لثقافة وقيم ذلك المجتمع، ويشيع فيه الجهل والفقر والعنف والسلوكيات الأخلاقية المبتذلة، فإذا ما حصل تغيير في نظام الحكم فيتوجب على الواعين في المجتمع أن يقوموا بحملة استثنائية لغرض ترميم ما هشَّمه الوضع السابق، وبالتأكيد سيكون الدور الأكبر يقع على عاتق من يمتلك الإمكانات المادية والعلمية والثقافية وهو ما ينطبق على الحكومة والمؤسسات الدينية والثقافية .
إن المجتمع العراقي مرَّ بأعتى الدكتاتوريات التي شهدها التأريخ والمتمثلة بعصابة حزب البعث و”قائده الملهم” صدام ، فهؤلاء لم يدعوا شيئاً في المجتمع إلا وأتت عليه آلتهم الجاهلية الرعناء وأضفت عليه من جهلها وبداوتها ، فالتعليم والأدب والفن والسياسة والرياضة والعسكر كلها أمور يحتل فيها القائد الضرورة المرتبة الأولى وبدون منافس، إذ مورست سياسة التجهيل وأُعدمت الكوادر المثقفة، أما من نجا من قبضة الحزب، فقد هاجر إلى البلدان الديمقراطية ليمارس من هناك نشاطه بحرية وآمان، أما من بقي في الداخل فهو في سجن مرعب لا يستطيع فيه التفوه ببنت شفة، وبعد عدة عقود من هذا الوضع المزري نشأ جيل جديد ألقت مصائب الدهر وطوارقه بظلالها عليه، فهو جيل لم تُفتَح عيناه إلا على مناظر “الزيتوني وصور من المعركة” وأذناه لم تطرب لأشعار أبي الطيب المتنبي وأبي العلاء المعري، بل اخترقتها أصوات المدافع والقنابل وأشعار” رعد بندر وعباس جيجان” ، ولم يعتد شبابه ارتياد المنتديات الأدبية أو المكوث في المكتبات العامة بل اعتاد لبس البزة العسكرية و”التطوع” في الجيش الشعبي أو الدخول في معسكرات ما كان يُسمَّى بيوم النخوة وجيش القدس، فماذا نتوقع من هكذا جيل ؟! بالطبع سيتصف هذا الجيل بعدة سمات منها : الفقر والأمية والجهل وانحسار دور المثقفين وتفشي سلوكيات بدائية قبيحة كالعنف وانعدام ثقافة الحوار وسماع رأي الآخر، وبروز النعرات الطائفية والعشائرية إلى السطح وانعدام روح المواطنة، وهذا ما بدا واضحاً على المجتمع العراقي بعد التغيير الذي حصل في نيسان 2003 .
وعلى الرغم من وجود أكثر من عامل أسهم في كبح بعض الآثار التي خلفتها تلك الحقبة السوداء إلا أن الطابع العام هو ما ذكرته من نتائج طبيعية لمجتمع عاش في ظل نظام استبدادي بدوي جاهل يحكم بالحديد والنار .
في الحقيقة إن ما سبق ذكره هو مضمون مقالة نشرتها سابقاً، والذي حدا بي أن أعرج عليها هو نقاش دار بيني وبين صديق لي ينتمي للنخب الثقافية التي من المفترض أن تتصدر المشهد وأن تكون المحرك الرئيس للمجتمع أو أحد العوامل الفاعلة في تحريكه نحو عملية التغيير الاجتماعي والثقافي ومن ثم السياسي، ألا وهو الأستاذ(سلمان النقاش) بيد أنه صدمني عندما بدأ يسرد لي السبب تلو السبب في جمود المجتمع واستحالة تغييره، وراح يشرح لي الأسس التي ينبغي توافرها في المجتمع؛ كي ينحو صوب عملية التغيير، وأخذ يطنب في مواضيع منها(الصراع الطبقي، ووسائل إنتاج، والمادية التأريخية، والديالكتيك والأطروحة ونقيضها ونقيض النقيض ..وهلم جراً) وبدا في طرحه مؤمناً إيماناً كاملاً بالحتمية التأريخية التي تكون بمعزل عن الفعل الإنساني أو الأسباب التي هي خارج نطاق وسائل الإنتاج، وعندما أشرح له مسؤولية مثقفينا في هذه المرحلة الخطيرة، وأن هذا أوان نزولهم من أبراجهم العاجية، وأن عليهم أن يعوا المسؤولية التأريخية والأخلاقية الملقاة على عاتقهم ، وأن لا يغردوا في سماء لندن أو ستوكهولم ولا حتى شارع المتنبي!! فأزقة بغداد والمحافظات العراقية هي الشجرة التي يجب أن يعزفوا من فوق أغصانها نشيد الثقافة والحضارة وإلا سيطالهم الخزي والعار، وأستطرد لاجترَّ التأريخ اجتراراً والعوامل التي ساهمت في الثورات الأوربية وعلى رأسها الثورة الفرنسية ومنها الدور الفكري لــ”فولتير وجان جاك روسو ومنتسيكو” وغيرهم في ذلك، وأعرج على ثورات ما سمي بالربيع العربي ويعود هو أيضاً لتطور وسائل الإنتاج في نهايات حقبة العصور الوسطى فيما يخص الثورة الفرنسية، وبداية نشوء الطبقة الوسطى في مصر وتونس وأنها كانت حاضنة الثورة، لكنه يعيى جواباً عندما أضرب مثلاً بالثورة اليمنية والبحرينية والليبية التي ليس فيها ما ذكر من نشوء لطبقة أصحاب رؤوس الأموال من التجار وأصحاب المصانع وغيرهم، وأنه من الممكن أن تكون هناك عوامل “إنسانية” غير ما ذكره تساهم في إيقاد جذوة التغيير، عــلَّـه يستفيق من غفوة النخب التي غرقت في آمال العقد الستيني وأحلام السبعينات لكن ــ يا للأسف ــ دون جدوى.
أتمنى على مثقفينا أن يعوا بحق هذه اللحظة التأريخية التي يمر بها العراق والمنطقة وأن يستثمروها أيما استثمار في سبيل التغيير، وأن يضربوا صفحاً عن أفكار وأيديولوجيات بشرية صاغتها عقول أناس كانوا هم أنفسهم ينتمون إلى طبقات معينة وربما ألقى انتماؤهم الطبقي الكثير من ظلاله على أفكارهم، وليت شعري أو يعقل ونحن في القرن الواحد والعشرين أن توجد نخب ثقافية تؤمن بالقدر وتجميد الإرادة الإنسانية وهي في الوقت نفسه تصف الدين بــ”أفيون الشعوب” وهذا القرآن الكريم يصرح بمدخلية الإرادة الإنسانية في التغيير:(وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) وقوله:(وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) وقوله (اذهب إلى فرعون إنه طغى) وقوله(استبقوا الخيرات) و(إن الله لا يغبر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)و(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) وأكتفي بذلك، راجياً أن يتغير الواقع بفعل الحركة الثقافية والسياسية وأن تتضافر الجهود لبلوغ تلك الأمنية، وكما قال الشاعر
على المرء أن يسعى بمقدار جهده وليس عليه أن يكون موفقا

بقلم: علي محمد البهادلي