في دائرة الاتهام وليس في قفصه، فمازال ألق الماضي وأمجاد الفطاحل من قضاة مصر تشفع له، وتحول شهرتهم وسمعتهم الطيبة دون التسرع في إصدار حكم مطلق رغم عمق المنحدر الذي هوت إليه أحكام القضاة وسلوكياتهم، ونحن نربأ بمصر عن المزالق ونتمنى بقاء مؤسساتها فوق منزلة الشبهات، ولكن الوقائع بعد ثورة 25 يناير عرت سوءات قضاة نظام مبارك، تلتها ممارسات غامضة غير مألوفة في الفترة الانتقالية ابان رئاسة مرسي وبعد الانقلاب عليه، أمست مؤسسة القضاء كأحد أركان الدولة العميقة التي والت النظام الاستبدادي طيلة جيل كامل! ورأينا كيف أصيب المتنفذون بمؤسسة القضاء بالفزع والسعار وانخرطوا في لعبة السياسة بلا خجل ولا وجل، لاسيما بعد ظهور الإخوان كقوة سياسية تبنت التغيير الذي هدد مصالح الرموز العتيقة الملوثة بجرثومة المولاة للسلطة على حساب حقوق الشعب ومصالحه.
رئيس نادي القضاة ورموزه وأعضاء بالمحكمة الدستورية والاستئناف والنائب العام ونوابه الذين يفترض فيهم الترفع والنزاهة والاستقلالية بحكم مناصبهم تباروا بمهاجمة قيادة تنظيمات سياسية وحشروا أنفسهم بما لا يعنيهم، القضاة سمحوا لمتورطين أجانب بتوزيع الأموال على جمعيات المجتمع المدني بالسفر وهم قيد المحاكمة، وبرأوا المتهمين بمعركة الجمل وواقعة شارع محمد محمود، ومسبيروا وغيرها من جرائم القتل، وهدرت حقوق نحو ألفي ضحية، كأن الذين ارتكبوا القتل هبطوا من السماء وعادوا إليها، وتقاعست النيابة عن تقديم أدلة دامغة تدين مبارك وأنجاله وسوفت المحاكمة وميعتها، وتغاضوا عن محاكمة رموز النظام الفاسدين، ونكاية بالإخوان وكراهية عطل القضاة قرارات الرئيس المنتخب وحلوا مجلس النواب الذي شهد الجميع بنزاهة انتخاباته لأول مرة بتاريخ مصر، في الوقت الذي سكتوا جميعا عن حالات التزوير الفاضح والفساد في عهد مبارك.
القضاة وعلى رأسهم الادعاء العام لم يحققوا في مجزرة المصلين أمام وزارة الدفاع وقصر الاتحادية ولا في هلوكوست ميدان رابعة العدوية، والنهضة، والمنصة، ورمسيس، ولا بحرق مسجد رابعة ومسجد الإيمان بمن فيهما، ولا في خنق السجناء داخل الحافلات، ويصدرون أحكاما انتقامية مستعجلة بالسجن سبعة عشر سنة على طلبة شباب تظاهروا في جامعة الأزهر، كأنهم بذلك يسترضون رجال الكنيسة ليشفوا غليل البطاركة، وهم الذين أطلقوا سراح البلطجية الذين احرقوا مقرات الإخوان وقتلوا الحراس، وبرأ القضاة متظاهرين جاءوا برافعة ميكانيكية لرفع بوابة القصر الجمهوري وقبض عليهم داخل القصر وأطلق سراحهم في أقل من أربع وعشرين ساعة، فهل أطلق الادعاء العام أحدا من المتظاهرين المعارضين للانقلاب بعد شهر أو شهرين من اعتقالهم؟ فكيف تبرر هذه الازدواجية؟.
هل من عدالة في الحكم على طالبات جامعيات سحبن من الشارع بإحدى عشرة سنة والتحفظ على القاصرات؟ وكيف أطلق الاستئناف سراحهن بعد الضغوط المحلية والدولية؟ فهل في ذلك مظهر من مظاهر الموضوعية والمنطقية، أم هي تصرفات مجانية لقضاة فقدوا رصانتهم، وهل ستعيد المحكمة الدستورية دستور العسكر مرة واثنتين كما فعلت مع سابقه أم ستصدقه بلا اعتراض؟ وكيف تغاضى الحقوقيون عن جواز احتجاز المتهم المعتقل بلا محاكمة طول العمر؟ وعدم إطلاق سراح من قضوا مدة أحكامهم وبقوا محتجزين بالزنزانات! ومقاضاة المدنيين أمام محاكم عسكريةّ! وهل تم القبض على قيادة الإخوان بمذكرات قبض أم بمداهمات أمنية؟ ومن ثم رتبت لهم التهم ويجري التحقيق معهم بمراكز التوقيف والسجون، ولماذا تخلى القضاة عن مقاضاة البلتاجي ورفاقه بسبب الحرج؟ وما هو نوع هذا الحرج؟ وهل في محاكمة رئيس الجمهورية بوقوع ضحايا في التظاهرات وإعفاء وزير الداخلية ورجاله وجه حق؟.
لسنا من نقول هذا، فهناك نحو خمس عشرة منظمة حقوقية مصرية وعربية ودولية على رأسها هيومن رايتس ووتش تؤكد انحراف القضاء وتراجع حقوق الإنسان، وباتت سمعة مصر ووجهها يشوهان بفعل قرارات القضاة وأحكامهم المرتجلة، ولا يسعنا إلا التذكير بيوم يأتي يقف فيه قضاة آخر زمن في قفص الاتهام؟ ليعلم الذين ظلموا أنفسهم أي منقلب ينقلبون.