الطبقة الوسطى بالعراق . . تحتضر

د. نبيل احمد الامير

يُعَرِّفْ عالم الاجتماع الالماني ماكس ويبر (1864-1920) الطبقة الوسطى بأنها مجموعة واسعة من المواطنين في مجتمع معاصر تقع بين الطبقة العاملة والطبقة العليا من السلم الاجتماعي والاقتصادي .
وقد شهد مصطلح “الطبقة الوسطى” المزيد من الدقة في التحديد مع مرور الزمن حيث عرفه البريطانيون في مطلع القرن الماضي بأنه مصطلح يطلق على شريحة واسعة من المهنيين أبرز سماتها امتلاك قدر كبير من الرأسمال البشري أو الكفاءة .
وفي سنة 1977 قدمت عالمة الاجتماع الامريكية بربارا وزوجها جون إيرنريخ تعريفا للطبقة الوسطى ، ذهبا فيه إلى القول بأن هذه الطبقة تتميز عن غيرها من الطبقات الاجتماعية بما تمتلكه من تعليم ومهارات تقنية وفي مقدمتها التحصيل الجامعي والأكاديمي والحرفي .

وبمعزل عن التعريفات العديدة لهذه الطبقة وحجمها وحدودها فإن علماء الاجتماع والاقتصاد أجمعوا على أن ما يميّز هذه الطبقة ويجعلها موضع اهتمام كبير هو سلوكها وقيمها .
خصوصاً بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها ، حيث شهدت كل من الدول الغربية والشرقية اتساعا في حجم هذه الطبقة الهامة التي أخذت على عاتقها بناء المجتمع وتحقيق إنجازات اقتصادية واجتماعية وعلمية حتى باتت تحتل حيزا واسعا ومؤثرا في حركة التطور الاجتماعي .
وتختلف التقديرات الرسمية لحجم هذه الطبقة بين دولة وأخرى في الغرب لكنها تجمع على أنها أصبحت على درجة عالية من التأثير حتى بات قياس تقدم المجتمعات يعتمد إلى حد كبير على مدى اتساعها مما دفع بالحكومات في الدول الغربية لأن تحسب لها ألف حساب .
ولعل أبرز دور تضطلع به هذه الطبقة شرقا وغربا هو حفاظها ودفاعها عن القيّم والسلوك ، حيث تتصرف في كثير من الأحيان كما تتصرف كريات الدم البيضاء في الجسم عندما تكتشف خطرا يحاول الفتك به فتطوقه وتحاربه حتى تقضي عليه ، لهذا تحرص دول العالم قاطبة على رعاية هذه الطبقة الاجتماعية وحمايتها بل وإغداق الامتيازات والمغريات عليها لإستقطابها لأنها ليست مجرد مصدر للابداع والتجديد بل المحرك الذي لن يقدر أي بلد من النهوض والازدهار من دونه .

وقد لعبت الطبقة الوسطى في العراق خصوصاً والعالم العربي ، دورا كبيرا في التحولات الاجتماعية للمجتمعات وبرزت منها القيادات السياسية والاجتماعية التي حملت لواء النضال الاجتماعي ، وبُنيت بسواعدها الصرح الاقتصادي لبلادها منذ مطلع القرن الماضي حتى هذا اليوم .
وباتت أغلب الأنظمة العربية أخيراً وعلى اختلاف توجهاتها وخصوصاً بعد ماإجتاح الدول صرعة مايسمى بالربيع العربي ، باتت تتطلع إلى استرضاء هذه الطبقة ودعمها .
وخلال الفترة التي سبقت احتلال العراق تعرضت البلاد إلى حصار اقتصادي وعلمي ونفسي شامل استغرق زهاء ثلاث عشرة سنة ، قاسى خلالها العراقيون شتى صنوف الجوع والألم ، ولن يكون من قبيل المبالغة القول بأن الطبقة الوسطى كانت أكثر المتضررين من ذلك الحصار وخرجت بخسائر باهظة لكنها حافظت على جوهر قيمها النبيلة ، والتي تراكمت فيها على مدى أكثر من ثمانين سنة .
لكن المصيبة الحقيقية التي أصابت هذه الطبقة كانت بعد اجتياح القوات الأجنبية بقيادة أمريكا والأحزاب العراقية المرافقة لها العراق ، حين أدركت تلك القوات والاحزاب ، أن الطبقة الوسطى تمثل العقبة الأولى أمام تحقيق أطماعها فما كان منها إلاّ أن اتخذت قرارا بتصفيتها .
وهكذا شرعت بحل الجهاز الإداري المدني الذي كان قد تأسس منذ بناء الدولة العراقية سنة 1921.
وفي ضوء رفض الغالبية العظمى من المجتمع العراقي فكرة احتلال دولة أجنبية لبلادهم وبالتالي القبول بمن يمثلها من أحزاب ورجال جاءوا على دباباتها ، لتنفيذ أجندات أجنبية ، شرع (بعض) المتنفذون بالحكومات العراقية التي تعاقبت على حكم البلاد بعد احتلاله ، في حملة شعواء ضد الطبقة الوسطى وراحوا بتنفيذ حملة مطاردة وقتل منظمة للعلماء وأساتذة الجامعات والأطباء والمهندسين والمثقفين والأدباء والصحفيين والفنانين والكوادر الوسطية في أغلب مرافق الدولة ، وكان الهدف منها تفريغ العراق من هذه الطبقة المسؤولة عن الخلق والإبداع وعن بناء البلاد ونهضته وإحلال طبقة أخرى فاسدة وجاهلة ومريضة نفسياً وهجينة تضمن بقاء هذا المجتمع متخلفاً وتبقي في الوقت نفسه الباب مشرعا للنفوذ الأجنبي في البلاد بكافة أوجهه .

وتشير أحدث التقارير الاحصائية الصادرة عن المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة إلى أن عدد اللاجئين والنازحين والمهجرين العراقيين في الخارج والداخل قد تجاوز الأربعة ملايين بكثير ، وكل هذه الأرقام هي من عراقيي الطبقة الوسطى ، الذين فرّوا بأرواحهم خوفاً من تصفيتهم أو إبتزازهم أو تلويث سمعتهم .
فيما يؤكد المراقبون أن قوات الاحتلال والحكومات المحلية التي نُصّبَتْ على البلاد بإداراتها وأعضائها الفاسدين ، ولحقتها داعش الإرهابية ، قد نجحت في تنفيذ أكبر عملية هجرة شهدها العالم عقب احتلال فلسطين ، وتهجير ونزوح أهلها .
شكلت الطبقة الوسطى في العراق الغالبية العظمى من أعداد النازحين والمهاجرين ، وفي مقدمتهم الحرفيين المهرة وحملة الشهادات الأولية والعليا ، واكتظت مخيمات النازحين ومقاهي عواصم عربية قريبة وبعيدة بخيرة الخبراء العراقيين العاطلين عن العمل ، والتي غالبا ما تصفهم كتب الاقتصاد والاجتماع بأنهم “زبدة المجتمع”.
وفي ضوء أكبر عملية تزوير ، لم يشهد لها التاريخ مثيلا إنتقل أكثر من فاشل (عراقي) كان يعمل في مقاهي وحانات أوروبا وأمريكا إلى العراق وحمل معه شهاداته المزورة ليحتل مناصب رفيعة في الوزارات والجامعات والمحافظات وسواها من مؤسسات الدولة .
ونتيجة لهذه الخطة المحكمة بات العراق يحتل سنويا مرتبة أكثر بلدان العالم فسادا وراحت الصحف العالمية تتحدث عن حجم الفساد غير المسبوق حيث قام (الجزء السيئ) من النخبة الحاكمة في البلاد (الشيعية والسنية) ، بشراء القصور والعقارات في أرقى عواصم العالم . وامتلأت شوارع بغداد والبصرة التي تغنى بها الشعراء ، بأكداس الأزبال وعمّ الخراب وساد الجهل وحلت الفوضى والمحسوبية بدل النظام في ظل غياب الطبقة التي كانت تذود عن البلاد شر الفساد والانحراف .
وتحول العراق الذي تقول الاحصاءات بأنه تلقى خلال سنوات بعد سقوط نظام الطاغية أكثر من ألف مليار دولار إلى أفقر بلد في العالم ، حيث قدرت أحدى المنظمات الأجنبية غير الحكومية عدد الفقراء ممن يعيشون تحت خط الفقر في العراق بأكثر من نصف الشعب .
ونتيجة لهذا الانهيار المفجع عاد العراق إلى الوراء حيث رجع بعض العراقيين إلى تعريف أنفسهم بصفات متخلّفة كان جيلنا قد قرأ عنها في كتب الباحث العراقي الكبير علي الوردي بعد أن كنا نعتقد بأن الزمن قد عفا عليها وولت لالسبب سوى لحماية أنفسهم وأملاكهم وأعراضهم ، فبات البعض يعرّف نفسه بانتمائه إلى طائفة دينية أو حزب صاحب نفوذ وقوة عسكرية ، وراح آخر يعرّف نفسه بالانتماء إلى عشيرة أو غيرها من العناوين المُفرقة ، ولا يوجد بالمجتمع من يعرّف نفسه او يعرفه الناس بعلمه وعمله .
وبين مفاهيم طائفية وأخرى عشائرية مغرقة في الجهل والتخلف ووسط غياب الطبقة الوسطى التي كانت بمثابة صمام أمان المجتمع العراقي الكبير الثري بتنوعه ازدهرت ثقافة الخرافة ، وسادت تقاليد الجاهلية وأصبحت السرقة مظهرا من مظاهر البطولة ، واغتيلت الطبقة الوسطى فعمّ الخراب في النفوس !!
وماتت الطبقة الوسطى بالعراق سريرياً ، وأصبحت تحتضر وبأوامر عليا .

لك الله ياوطن . .
لك الله ياعراق .

والله من وراء القصد .