د حيدر حسين آل طعمة/مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية

 

يشكل المسار المتعرج لأسعار النفط تحدياً خطيرا يواجه معظم البلدان النفطية منذ عقود نظراً لارتباط جهود التنمية الاقتصادية بتدفقات المورد النفطي، والمرتبط اساسا بعوامل خارجية متعددة تحكم اتجاه اسواق النفط الخام. وقد تم الركون الى سياسات اقتصادية متعددة لتصدي لصدمات اسعار النفط في هذه البلدان، الا انها لم تخرج عن اطار ردود الافعال بدلاً من ابتكار سياسات اقتصادية مستدامة معدة للوقاية من الصدمات ومصممة اساساً لاستباق الازمات.

في هذا السياق يوفر الهبوط الحاد والمستمر لأسعار النفط الخام دون المستويات التي اعتادت عليها الاقتصادات النفطية حتى مطلع العام 2014 فرصة ذهبية لإعادة تقييم خطط التنمية الاقتصادية وتصميم اطار جديد قائم على التكيف مع سعر نفط منخفض، مع التركيز على اصلاح الاختلالات الاقتصادية الهيكلية التي تفاقمت بفعل الارتباط المزمن بالمورد النفطي كمحرك وحيد للتنمية والاستقرار الاقتصادي والمالي في اقتصادات الريع النفطي. ولعل من ابرز تلك السياسات ما يلي:

– تنويع القاعدة الانتاجية

لم تفلح جهود التنويع الاقتصادي في معظم البلدان النفطية في فك الارتباط بقطاع النفط الخام رغم تضمين التنويع الاقتصادي كهدف اساس في كافة خطط التنمية الاقتصادية. وعلى الرغم مما شهدته بعض هذه البلدان من نمو في قطاع الخدمات وقطاع التجارة والصناعات البتروكيمياوية والمقاولات، الا ان هبوط اسعار النفط كشف بوضوح عمق ارتباط هذه القطاعات بنشاط القطاع النفطي فيها، حيث ادى انخفاض النفقات الحكومية، والناجم عن تقلص الايرادات النفطية، الى انحسار معظم انشطة القطاعات الاقتصادية غير النفطية الامر الذي زاد من حدة الازمة الاقتصادية في هذه البلدان.

ويمكن الاستفادة من التجربة عبر توجيه الدعم والاسناد لقطاعات اقتصادية لها تشابكات (امامية وخلفية) بالقطاعات غير النفطية لأجل ضمان سلامة ونمو هذه القطاعات حين تنهار اسعار النفط لتكون بمثابة سقالات قادرة على اسناد الاقتصاد الوطني بشكل مستدام عند انهيار اسعار النفط. ومن هذه القطاعات تطوير الصناعات المعدة للتصدير وقطاع السياحة والخدمات المالية لأجل توليد مصادر بديلة للنفط في توفير العملة الاجنبية.

– ضبط ايقاع النفقات

تكاد تشترك معظم البلدان النفطية بظاهرة التضخم المستمر للنفقات الحكومية رغم تواضع الايرادات غير النفطية وانخفاض نسبتها في تمويل الموازنة العامة. حيث تصل هذه النسبة الى 5% في عدد كبير من الاقتصادات النفطية، مما يزيد من مخاطر هبوط اسعار النفط على الاقتصاد الوطني، كون النفقات الحكومية تشكل محرك النمو في هذه البلدان. وتزداد مخاطر اتساع النفقات العامة مع ارتفاع نسبة النفقات الجارية (التشغيلية) من اجمالي النفقات العامة الامر الذي يفوت على هذه البلدان فرصة النهوض بالبنية التحتية والاستثمارات العامة لصالح النفقات الاستهلاكية الحكومية الاخرى.

ونظراً لاضطلاع الحكومات النفطية، ولأسباب سياسية بالعادة، بمهام مؤسسات التوظيف، تولدت طبقة واسعة من شاغلي الوظائف الحكومية خارج الاحتياجات الحقيقية للحكومة وعلى حساب الكفاءة والانتاجية. وشكل ذلك تباعاً قيد على مرونة النفقات العامة في الاستجابة لتحركات اسعار النفط، نظراً لصعوبة خفض النفقات التشغيلية اوقات تقلص الايرادات النفطية بسبب ردود الفعل الاجتماعية، مما فاقم من العجوزات المالية في هذه البلدان.

– تفعيل الايرادات غير النفطية

كشف الهبوط الاخير في اسعار النفط الخام عن مدى ضعف الجهود الحكومية في توفير مصادر مالية غير نفطية لتمويل الموازنة والاقتصاد. فقد اخفقت معظم السياسات الرامية الى تعبئة الموارد المالية في توفير الحدود الدنيا للموازنة العامة، خصوصاً فيما يتعلق بالإيرادات الضريبية. ويعد تشوه النظام الضريبي أحد ابرز ملامح الاقتصاد النفطي، حيث ان الاتكال على النفط ومحاولة الطبقة السياسية ترسيخ قواعد حكم ابدية عبر توفير مقاعد للركوب المجاني حال دون تفعيل النظام الضريبي كأداة للتمويل وتخصيص الموارد وحماية الصناعة الوطنية. وقد ركزت معظم وصفات صندوق النقد الدولي مؤخراً للبلدان النفطية، والخليجية على وجه الخصوص، على ضرورة اصلاح السياسة الضريبية ورفع مستويات الايراد الضريبي في تمويل الموازنة، مع توخي العدالة والتخصيص الامثل للموارد عند رسم السياسات الضريبية الجديدة.

– اسناد القطاع الخاص

بدأت معظم البلدان النفطية في التفكير مجدداً بدور القطاع الخاص كمحرك للنمو ومصدراً حيوياً لتوليد فرص العمل، نتيجة لإخفاق نموذج النمو القائم على الانفاق الحكومي في امتصاص البطالة المتفاقمة او تحقيق نمو اقتصادي مستدام. مع ذلك يجب الاشارة الى ضرورة تطوير قطاع خاص بعيداً عن النشاط النفطي في هذه البلدان. فقد بينت تجربة الخليج خلال العقد الاخير ارتباط قطاع الاعمال فيها، خصوصا قطاع المقاولات، بالنشاط الحكومي وبالمرتبط اساساً بالإيرادات النفطية مما زاد من محنة هذه البلدان. ويتطلب الامر تحسين مناخ الاعمال وتوجيه القطاع الخاص نحو الانشطة القطاعية التصديرية او الخدمية والبعيدة عن القطاع الحكومي، وذلك عبر توفير حزمة من السياسات التشريعية والتمويلية المحفزة للقطاعات الاقتصادية المطلوب تنميتها لتحقيق نمو اقتصادي مستدام بعيد عن تقلبات اسواق النفط الخام.

– الارادة السياسية

الزم واقع اسعار النفط الخام البلدان المنتجة له في البحث عن سياسات مناسبة تمتص زخم التقلبات السعرية التي تشهدها السوق النفطية بين الحين والاخر، وتسهم في بناء اقتصادات وطنية متينة قائمة على التنوع والكفاءة. الا ان الملفت في الامر انحسار مد الاصلاح الاقتصادي حال تعافي اسعار النفط، لتعود هذه البرامج الى صدارة جدول الاعمال من جديد حين تشهد الاسعار انهياراً حاداً. ميز هذا الواقع اقتصادات النفط خلال العقود الاربع الماضية، فقد ارتبطت سياسات الاصلاح، كما الاقتصاد والموازنة العامة، بمسار اسعار النفط. مولداً غموض في الرؤية وضعف في استراتيجية الاصلاح اسهم في اخفاق معظم السياسات الاقتصادية في تحقيق التنمية والاستقرار الاقتصادي المستدام في هذه البلدان.

 وقد افصحت العديد من الدراسات التي تناولت تجربة الاقتصاد النفطي في النمو الاقتصادي عن ضرورة عزل تدفقات المورد النفطي عن استراتيجية التنمية الاقتصادية المنشودة لأجل التركيز على الاصلاح، ولتكون السياسات الاقتصادية اكثر استدامة ونجاعة في تقليص الاختلالات الاقتصادية القائمة.

ويتطلب نجاح جهود التنمية والاصلاح اهمية رسم سياسات وقائية واستباقية لصدمات اسعار النفط بدلاً من سياسات ردود الافعال التي اخفقت في امتصاص الازمة وزادت من مخاطر انزلاق الاقتصادات النفطية صوب الركود الاقتصادي والانهيار المالي كما هو حال الاقتصاد العراقي. ولنجاح خطط التنمية الاقتصادية يتطلب الامر توفر الارادة السياسية في الشروع بعملية الاصلاح الاقتصادي، نظراً لاحتكار القرار الاقتصادي من لدن النخب السياسية في معظم بلدان الريع النفطي.