حين إندلعت أحداث أكتوبر 1988، كنت يومها طالبا في معهد العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالجزائر العاصمة.

كان الطقس يومها أقرب إلى الحرارة، بدليل كنا مازلنا بالقميص. وهذه ملاحظة يذكرها من عاشها، لأن الطقس في الجزائر والشلف خاصة، تغير إلى الحرارة بعد زلزال أكتوبر 1980، ويبقى أهل الاختصاص يفندون أو يؤكدون ماعاشه التلميذ ولمسه بسذاجته وبراءته.

كانت العاصمة يومها تعج بالدبابات والجنود في مكان، وانتشار كثيف عبر المواقع الحساسة ، إقتصادية منها كالمصارف أو سياسية كالبرلمان.

لأول مرة في حياتي أرى جنود النخبة، المعروفون باسم الكوموندوس، انتشروا عبر حي الأبيار ومركز البريد، وأنا متجه إلى غرفتي بحي بن عكنون، والطريق المؤدي بينهما، وأكيد مواقع لم نصل إليها ولم نزرها.

يمتازجنود النخبة بطول القامة، وجسد عريض مستقيم، وانضباط ملفت للنظر، وطاعة للقائد يلمسها الماشي، وصرامة يلميها الرائي، ومعاقبة كل من يتهاون في أبسط قواعد الجندية. وقد رأيت يومها قائدا عسكريا، كيف يشبع جنديه تأنيبا وتوبيخا بلهجة شاوية، وصوت مرتفع وغضب شديد، لأنه لم يحسن حمل السلاح، فوجهه للمارة المسالمين عوض أن يوجهه للسماء أو الأرض كما تقتضي أبسط قواعد التعليم، والسبب في ذلك حسب مارأيت وأنا غير المؤهل، أن التعب والإرهاق لحق بجندي النخبة فأفقده توازنه، والتي يعرفها القائد جيدا، ولم يتسامح حولها.

وقلت يومها في نفسي وأنا الطالب، الحمد لله أن الجزائر تملك نخبة بهذه الصرامة والانضباط، والتي تشعره بالأمان والاستقرار والدفء. وأنا الآن أب لأربعة، مازلت أردد نفس الكلام، وأنقله بفخر عبر الأسماع، وأكتبه وأكتب عنه باعتزاز.

حين نذكر أحداث أكتوبر، يذكر كل جزائر معها الرئيس الشاذلي بن جديد رحمة الله عليه، وقد خاطب يومها الجزائريين بصدق وعفوية وبراءة، ما جعله ينال رضا المجتمع.

واشتمل خطابه على جملة من الوعود، حققها بامتياز وسعى لتحقيقها،. ويبقى السؤال هل الذين ثاروا على الوضع، طالبوا بالزيت والسكر والحليب والخبز؟. أم ثاروا لأجل حرية التعبير وكرامة الجزائري؟.

هذه الأسئلة لايملك الطالب الساذج إجابة عنها، لأن لكل طرف أسبابه ودوافعه. لكن المؤكد، وبعد مرور 27 سنة على أحداث أكتوبر 1988، أن الشاذلي بن جديد رحمة الله عليه، لبى مطالب الطرفين، أي الذين ثاروا لأجل البطن ولقمة العيش ومن حقهم ذلك، والذين ثاروا لأجل كرامة الجزائري، والسمو به وتمتعه بالحرية، وهم محقون في ذلك.

ماتعيشه الجزائر الآن من تعدد في وسائط وسائل الإعلام، وحرية في التعبير، وإقبال على الفكر، ورخاء في العيش، مرده أحداث أكتوبر 1988..

لأنها أيقظت المسؤول الجزائري من سباته، ونبهته إلى غفلته إلى أن هناك جزائريين لم يجدوا مايطعمون به أبناءهم ، وهم يعيشون في بحر من النفط والغازوالمال.

وكذلك نبهت النظام السياسي الأوحد يومها، إلى ضرورة فتح الحوار والنزول للشارع والاستماع لمطالبه، وتوفير الحرية في التعامل والتقاضي.

قد يقول قائل، أن هناك من استغل أحداث أكتوبر 1988، ووجها الوجهة غير التي مات لأجلها شباب الجزائر وزهرة الجزائر، وهذا شأن كل الحركات العالمية، يأتي دائما من بعيد، من يقطف الثمرة لصالحه، وربما كان الموج لغير صالحه.

المؤكد، أن أبناء الجزائرلم يشعلوا النار في الجزائر، ولم يحرقوا الجزائر، إنما شباب وفي حالة غضب ألحق أضرارا برموز كان يعتقد خطأ أنها ليست له، وهي في الحقيقة له ولأجله، كوسائل النقل مثلا. وبعد مرور 27 سنة من الأحداث، يظل المرء يحمد ربه على أن الجزائر لم يحدث لها ما يحدث الآن لبعض المجتمعات العربية..

من انهيار دولة، وتفتيت جيش، وطامع على الأبواب، وإبن يبيع خيرات البلد بأبخس الأثمان لكل غازي ناهب، واستقواء بالعدو على الأخ والجار، حتى أمسى عدد اللاجئين يساوي عدد السكان، والقتلى والجرحى والمعاقين يفوق الحساب.

وفي الأخير، نترحم على جميع الجزائريين ،الذين ماتوا في أحداث أكتوبر 1988، داعين لهم الرحمة والغفران، ومتمنين لعائلاتهم الصبر والثبات، وراجين الشفاء لكل جريح، والعافية لكل معاق.