حين تكون جزائري وتريد أن تكتب عن حضارة تسليم واستلام الكرسي بين رؤساء فرنسا، عليك أن تذكّر القارىء بداية أن آخر مقال لك خلال هذا الأسبوع كان بعنوان “الاستدمار الفرنسي من خلال التعذيب ونزع الملكية”، بمناسبة مجزرة 8 ماي 1945، وترد على الذي اتّهمك بالإعجاب بفرنسا، بقولك ” هذا ليس إعجاب. سلم واستلم الحكم بهدوء، وحضارة، وصدق، وأمانة، وإخلاص، وبياض، وقناعة.. وسأكون أول المعجبين”.
تابعت البارحة مراسيم تسليم واستلام السلطة بين هولاند وماكرون، عبر الفضائية الفرنسية الخامسة، فكانت هذه الملاحظات:
أول ملاحظة تعنيني كجزائري، أن ماكرون لم يذكر مسألة الاعتراف بجرام الاستدمار الفرنسي بالجزائر طيلة 132 سنة في خطابه، ما يدل على أن الاعتراف بجرائم فرنسا لم يصل بعد إلى الرئاسة.
وركوب ماكرون في سيارة عسكرية وهو مالم يفعله أحد من قبله، وهو يزور قوس النصر والجندي المجهول وكأنه في احتفالات 14 جويلية، تدل على أن ماكرون سيركز كثيرا على الجانب العسكري، وأن علاقاته بالمؤسسة العسكرية ستكون المقدمة على كل العلاقات، وما يهمني كجزائري أن المؤسسة العسكرية الفرنسية لا يمكنها أن تعترف بجرائمها تجاه الجزائر، ولا يستطيع بحال أن يعارض ماكرون المؤسسة العسكرية، وهو الذي فضّل السيارة العسكرية على السيارة المدنية، وما قام به في الجزائر لا يعدو كونه حملة إنتخابية تستعطف القلوب قبل العقول. وإذا أضافنا أن أول زيارة لماكرون هي لألمانيا، تبيّن أن الجانب العسكري والمالي مقدم على الاعتراف بجرائم فرنسا تجاه الجزائر.
عائلة ماكرون وزوجته التي تكبره بـ 24 سنة، يدخلون من نفس الباب الذي دخل منه المدعوون، واستقبلته للترحيب به في نفس المكان المخصص للضيوف الذين استقبلوه، دون أن يوضع مكان خاص لعائلة الحاكم الجديد.
رئيس قديم و رئيس جديد، رئيس ذاهب ورئيس قادم، رئيس فعلي ورئيس منتخب، هذه بعض مصطلحات التي نظل ندعو للإشادة بها، واحترامها، والتشبث بها.
إعتمدت مراسيم الاستلام والتسليم على جملة من العادات القديمة الموروثة عن السابقين، كقوس النصر، والقلادة، والحديث الذي يدور بين الرئيسين، وطريقة الاستقبال والتوديع، والسير في الطريق، ومغادرة الرئيس السابق إلى مقر حزبه، وغير ذلك من الرموز. فاحترام الماضي والرموز من شيم المجتمعات المتقدمة.
سمعت وقرأت الكثير عن الإجراءات الأمنية التي وضعتها فرنسا لضمان السير الحسن لمراسيم الاحتفال، لكني لم أر حرسا يحيطون بالرئيس ماكرون وهو يصافح الحضور، ويعانق الشعب عبر أرصفة باريس بحرية، وكان عدد الحراس عادي جدا.
ظلّت وسائل الإعلام الغربية تفتخر بكونها تظهر قصر الرئاسة للعالم أجمع، وتتحدث بإسهاب عن غرفه المختلفة، وأجنحته المتعددة، والأماكن المخصصة للطوارئ في حالة أيّ اعتداء، وحديقته، وغير ذلك حتى أصبح القصر الرئاسي من المعالم السياحية التي يجلب المال والسياح.
من بين الضيوف والوجوه التي زيّنت مراسيم الاحتفال، مختلف العمال البسطاء لقصر الرئاسة، كالطباخين، والبستانيين وغيرهم، وهو اعتراف بعمل العامل البسيط من طرف أعلى عامل في القمة، وهو رئيس الجمهورية.
فرنسا تملك رئيسا يصعد السلم ويقفز 3 و 4 درجات بقوة الشباب، ويتعرض للأمطار، ويفضل المشي على الأقدام، ويرفض أن يستعمل المظلة وقد عرضها عليه المكلف بحمل المظلة.
الكبير يستقبل الصغير، والصغير يودع الكبير، والكبير يهنىء الصغير، والصغير يظل يذكر الكبير.
أثنى ماكرون في خطابه على رؤساء فرنسا، وهم: ديغول، بن بيدو، شيراك، ميتران، ساركوزي، وهولاند، وراح يمتدح كل رئيس بما امتاز به في نظره، ولم يتنكر لأحد ممن سبق، ولم يذكر أحدا منهم بسوء.
يقبّل يدي زوجته التي تكبره بـ 24 سنة، قائلا لها: أحبك. فالوفاء للعرش يبدأ من الوفاء للفرش، ومن كان أمينا محافظا على فرشه كان أمينا محافظا على عرشه.
بعد أن غادر هولاند الرئاسة وقصر الرئاسة، عاد لمقر حزبه الذي جاء منه أول مرة وهو الذي جعل منه رئيسا لدولة نووية وصاحبة حق النقض، واستقبلوه استقبال الأبطال، ووعدهم أنه سيكون الخادم الوفي كما كان وسيظل. فالرئيس يعود لأصله والأصل لا يتنكر لفرعه.
الجريئة مارين لوبان لم تحضر مراسيم الاحتفال وهي آمنة مطمئنة، وستبقى معارضة وهي آمنة مطمئنة، ولن يمسها المعارض السابق والرئيس الحالي بأدنى سوء، وسيظل الاحترام بين ولي الأمر وبين المعارض.