د. حيدر حسين آل طعمة

 

شهدت ديناميكيات اسواق الطاقة العالمية مؤخراً تحولات هيكلية خطيرة زادت من تذبذب مستويات الاسعار، خصوصاً مع صعود النفط غير التقليدية الى صدارة المشهد النفطي العالمي. كانت البداية مع انتعاش انتاج النفط غير التقليدية وبدائل الطاقة بشكل كبير انعكاساً لتحسن اسعار النفط وملامسة عتبة 150 دولار للبرميل قبل اندلاع الازمة المالية العالمية عام 2008.

 الا ان انهيار اسعار النفط نتيجة تدهور مستويات الطلب العالمي على النفط ابطء من وتيرة نمو معدلات انتاج المصادر المنافسة للنفط التقليدي مع انهيار الاسعار لقرابة 30 دولار للبرميل عام 2009. مع ذلك استأنفت اسعار النفط صعودها مع تعافي الاقتصاد العالمي بفعل تسارع وتيرة النمو في الاقتصادات الصاعدة والصين والولايات المتحدة الامريكية، مما ولد زيادات كبيرة في معدلات نمو الطلب على النفط الخام دفعت باتجاه معدلات جديدة للأسعار لامست 115 دولار للبرميل وبقيت كذلك لغاية العام 2014. الطفرة النفطية الجديدة حثت انتاج النفط غير التقليدي صوب الانتعاش مرة اخرى نظراً لارتفاع اسعار النفط الخام وتعديها عتبة التكاليف الحدية للنفط غير التقليدي. 

فقد أسهم ارتفاع سعر برميل النفط لأكثر من 100 دولار الى دخول النفط عالي الكلفة، الى دائرة الجدوى الاقتصادية مما زاد من معدلات انتاجها في الولايات المتحدة وكندا وبلدان اخرى. الا ان تدفق هذه النفط بغزارة أغرق اسواق النفط العالمية بكميات تفوق مستويات الطلب المعتادة الامر الذي انعكس في انهيار اسعار النفط الخام في منتصف العام 2014 وانزلاق الاسعار من 115 دولار للبرميل لقرابة 50 دولار للبرميل.

اوبك والصدمة النفطية

لم تكن استجابة بلدان منظمة اوبك بمستوى الصدمة، فقد واجهت بلدان عدة في اوبك انهيار اسعار النفط الخام بزيادة معدلات التصدير واغراق الاسواق بتخمة اضافية بدلاً من ضبط ايقاع الامدادات الجارية. وكانت المملكة العربية السعودية وعدد من بلدان الخليج (الامارات وقطر والكويت تحديداً) وراء التحول في استراتيجية “أوبك” صوب الدفاع عن الحصص السوقية بدلاً من خفض الإنتاج لدعم الأسعار. وتجاهلت الاستراتيجية الجديدة لأوبك الانحدار الحاد في اسعار النفط لشهور بحجة إمكانية انعكاس انخفاض الأسعار على معدلات الإنتاج العالمية من النفط الخام غير التقليدي، بخاصة في الدول ذات كلف الإنتاج الباهظة، على اعتبار أن كلفة إنتاج النفط غير التقليدية أكثر حساسية للأسعار من إنتاج النفط التقليدي، وبالتالي ستزيح الاسعار المتدنية للنفط جزء كبير من المنتجين، خصوصاً منتجي النفط الصخري. وهكذا فان تحجيم دور النفط الصخري في خريطة الطاقة الدولية لن يعيد زمام المبادرة في تحديد الأسعار العالمية للنفط الى المملكة العربية السعودية فحسب، وإنما سيعمل في المستقبل أيضاً على إحكام هيمنة المملكة مجدداً على امدادات الطاقة الى الولايات المتحدة وغيرها من بلدان العالم.

واستمرت المملكة العربية السعودية ومحورها الخليجي بإغراق السوق النفطية بمزيد من الامدادات النفطية وبحسومات سعرية دون مستويات الاسعار الجارية كسباً لأسواق جديدة. تزامن ذلك مع تعثر واضح في النشاط الاقتصادي العالمي ترجم بهبوط واضح في معدلات نمو الطلب على النفط الخام. افرزت هذه المعطيات موجة هبوط ثانية في اسعار النفط الخام لتلامس عتبة 30 دولار عام 2015 جراء استمرار الزيادة في الانتاج وضعف التنسيق والتوافق بين شيوخ النفط الخام من داخل وخارج اوبك، خصوصاً مع دخول السعودية وروسيا في تنافس على الحصص السوقية افضى الى تعزيز الطاقات التصديرية لكلا البلدين بدلاً من تقليصها. 

مع ذلك، كانت المفارقة المذهلة استمرار تدفق النفط الصخري الى الاسواق، رغم انخفاض انتاجه، عبر تمكن الشركات المنتجة لهذا النوع من النفط في التكييف مع سعر نفط منخفض من خلال تحقيق خفض كبير في تكاليفها عبر رفع كفاءة الانتاج، مما سمح للمنتجين الكبار تجنب الافلاس والاستمرار بالإنتاج رغم تراجع الاسعار. وخاصة مع وجود ما يسمى “مخزون النفط الصخري غير المستغل” أي الحقول التي تم حفرها ولم تبدأ بالإنتاج فعلاً. حيث يمكن ان تضيف هذه الحقول الى تدفقات الانتاج في غضون اسابيع ومن ثم تحدث تغيراً كبيراً في ديناميكية الانتاج مقارنة بالنفط التقليدي الذي يتسم بطول الفترات الفاصلة بين الاستثمار والانتاج. بالإضافة الى ذلك فان نجاح جهود البلدان النفطية من داخل وخارج اوبك في تقليص معدلات الإنتاج بنحو 1.8 مليون برميل يوميا عبر الاتفاق الاخير، للتخلص من فائض في المعروض النفطي، دفع صوب تعافي الاسعار لمعدل 55 دولار للبرميل مما أسهم في تحفيز النفط الصخري للتدفق من جديد الى الاسواق وبكميات تجارية.

ترامب وافاق اسواق الطاقة 

قد تشهد اسعار النفط الخام، خلال الاشهر القليلة القادمة، تراجعاً ملحوظاً إذا ما وضع الرئيس الامريكي دونالد ترامب سياسته النفطية التي وردت في برنامجه الانتخابي موضع التنفيذ، والتي تتضمن الغاء التوقيع الامريكي على اتفاقية المناخ التي اقرها اوباما، والغاء جميع القوانين والتشريعات الفدرالية الخاصة بالحد من التنقيب عن النفط وفتح المياه الامريكية للتنقيب بعد ان منع اوباما الحفر في مساحة مائية تقدر بنحو ٩٨٪‏ من المساحة الامريكية في القطب الشمالي. مع وقف التشريعات الخاصة بمنع استخدام تقنيات التكسير الهيدروليكي في بعض الولايات والغاء اي قوانين تعيق انتاج الوقود الاحفوري. واخيراً تنشيط صناعة الفحم الامريكية عبر فرض ضريبة مقدارها ١٥٥٪‏ على النفط المستورد الى امريكا والتي سيكون لها تأثير مباشر على اسواق النفط العالمية كونها ستحفز على انتاج المزيد من النفط والغاز الصخري مما سيؤدي الى انخفاض الطلب الامريكي على الواردات من النفط الخفيفة بينما سيزداد الطلب الامريكي على النفط الثقيلة، الامر الذي سيولد مصاعب كبيرة امام الدول العربية المنتجة للنفط الخفيف وفي مقدمتها السعودية والعراق والجزائر للبحث عن اسواق جديدة عوضاً عن السوق الامريكية التي ستصل قريباً الى مرحلة الاكتفاء الذاتي من النفط الخفيفة مما سيضغط كثيراً على الاسعار وسيدفعها صوب الانخفاض.

وقد انخفضت أسعار النفط، نهاية الشهر الجاري، لتتخلى عن المكاسب التي حققتها مؤخراً بسبب استئناف تقليص معدلات الانتاج من داخل وخارج اوبك. فقد حولت اسواق النفط تركيزها صوب زيادات الإنتاج في الولايات المتحدة، بعيداً عن جهود منظمة أوبك وغيرها من المنتجين لتعزيز الأسعار عبر خفض الإمدادات. كما تضرر النفط من صعود الدولار إلى أعلى مستوى له في 14 عاما أمام سلة من العملات الرئيسة بعد بيانات أظهرت نمواً فاق التوقعات لنشاط قطاع التصنيع في الولايات المتحدة في شهر نوفمبر. وكما هو معروف يؤدي ارتفاع الدولار إلى ضغوط على الطلب النفطي المقوم بالدولار وهو ما يجعله أكثر تكلفة على حائزي العملات الأخرى.

وقد نشرت شركة “بيكر هيوز” لخدمات الطاقة بيانات أشارت إلى زيادة عدد منصات الحفر في الولايات المتحدة مما أثار مخاوف المستثمرين بشأن مدى تأثير دعم أوبك والمنتجين المستقلين للأسعار من خلال خفض الإنتاج. حيث افصحت هذه البيانات عن زيادة في عدد المنصات النفطية بمقدار 15 منصة في الأسبوع ليرتفع إجمالي عدد منصات الحفر إلى 566 منصة -وهو أكبر عدد منذ نوفمبر تشرين الثاني 2015.

في سياق متصل صرح المدير التنفيذي لوكالة الطاقة الدولية فاتح بيرول مؤخراً بان نمو الطلب على النفط قد ينخفض أكثر إذا ظلت الاسعار ترتفع، والقى بيرول ايضاً بظلال من الشك على مدى فاعلية الخفض المزمع للإنتاج من لدن منظمة اوبك لدعم الاسعار، إذا قد يخلف ذلك إطلاق انتاج جديد في مكان اخر مما يقوض عودة التوازن لأسواق النفط الخام. واضاف بيرول ” إذا ارتفعت الاسعار نتيجة لهذا التدخل (بقيادة اوبك) فإننا قد نشهد استجابة ايضاً من ذوي الانتاج الاعلى تكلفة” مضيفاً انه عند السعر 60 دولار للبرميل قد يجري استئناف مشروعات النفط الصخري الامريكي ومشروعات النفط البحرية في امريكا اللاتينية. وتتوقع وكالة الطاقة الدولية ان ينمو اجمالي انتاج النفط الامريكي لقرابة 320 ألف برميل يومياً في العام الجاري ليصل الى نحو 12.8 مليون برميل يومياً في المتوسط.

وتولد تلك الحقائق لدى الاسواق شعوراً بأن الجهود التي تقودها منظمة أوبك لخفض الإنتاج بنحو 1.8 مليون برميل يوميا بهدف امتصاص فائض الإنتاج غير كافية، نظراً لما سيولده تعافي الاسعار من زيادة في أنشطة الحفر بالولايات المتحدة وغيرها من البلدان. ويشكل الارتباط بين اسعار النفط التقليدي ومعدلات انتاج النفط الصخري مأزقاً جديداً يؤرق صناع القرار في البلدان النفطية، فقد اخفقت الدبلوماسية النفطية في تحقيق التوازن المطلوب في سوق الطاقة العالمي عبر امتصاص تخمة المعروض النفطي والوصول الى سعر عادل للنفط الخام. حيث مكن التعافي في مستويات الاسعار آبار النفط غير التقليدية الى الدخول لدائرة الجدوى الاقتصادية وإضافة كميات نفط جديدة الى التخمة الحالية. ولن تجدي السياسات التقليدية في وقف تدفق النفط الصخري الى الاسواق نظراً لارتباطه المحكم بتحسن مستويات الاسعار مما يفرض على البلدان النفطية التكييف مع سعر نفط منخفض والتوجه صوب تنويع اقتصاداتها املاً في تصحيح الاختلالات الهيكلية التي خلفها ربط الاقتصاد والموازنة بالمورد النفطي.