ليلةُ القدر خيرٌ من ألف شهر، فيها تنزل القرآن، وفيها أنعم الله على أمتنا بالإسلام والإيمان، إنها ليلةٌ مباركة ينتظرها المسلمون في شهر رمضان من كل عام، يحيون ليلها، ويصومون نهارها، ويسألون الله فضلها، ويجهدون أنفسهم في التماس رضى الرحمن، ومغفرة رب العباد.
فيها يرفع المسلمون أكفهم متضرعين إلى الله عز وجل، يسألونه الرحمة والمغفرة والعفو والعتق من النار، ويتمنون في هذه الليلة التي اختصها بفضله أن يحقق لهم الأماني، وأن يستجيب لدعواتهم، وأن ينالهم فضلها، وأن يكرمهم بخيرها، وأن يظللهم بفيئها، وأن يلبي أمنياتهم وأحلامهم، صحةً وعافيةً وولداً ورزقاً حسناً، ونجاحاً وفلاحاً وعودة للغائب، وشفاءً للمريض، وغنىً للفقير، ونجاحاً للدارسين، ورزقاً للبنين، وسداداً للمدينين، ونصراً على الأعداء الظالمين.
أما الفلسطينيون في ليلة القدر فإنهم يسألون الله أشياء أخرى، ويرفعون إليه أكف الضراعة بأدعيةٍ إضافية، ويلحون في الدعاء، ويصرون عليه سبحانه أن يستجيب لهم، فهم فقراء إليه وفي حاجةٍ إلى رحمته وعنايته ورعايته، وهم ضعفاء يستنصرونه، ومظلومين يستصرخونه، ومعذبين يرجونه، وقد ضاقت بهم الدنيا بما رحبت، وعضهم البؤس بنابه، ونال منهم الجهد والبلاء، وأصابهم الحرمان والتشتت والضياع، وتكالبت عليهم الدول، وتآمر عليهم الأصدقاء، وهم أبناء شعبٍ اختلف أبناؤه، وتشتت أهله، وتمزقت أرضه، ونهبت خيراته، وديست مقدساته، وغيبت الشهادة خيرة أبنائه، وفقدوا الأعزة، وخسروا الأحبة، وتطلعت عيونهم إلى عودةٍ عزيزة، وتلهفت قلوبهم إلى نصرٍ موعود، ووحدة محمودة، وألفةٍ مطلوبة، ومودةٍ مفقودة.
الفلسطينيون وهم يحيون ليلة القدر في مساجد غزة التي دمرها العدوان، يصلون بين الأعمدة المتساقطة، والسقوف المنهارة، وأسياخ الحديد البارزة، وقد أضناهم الجوع، وأرهقهم الحرمان، يسألون الله العلي القدير أن ينظر إلى حالهم، وأن ينقذهم مما هم فيه من ألمٍ ومعاناة، وأن يعجل في رفع الحصار عنهم، فبيوتهم مهدمة، ومنازلهم بلا سقوفٍ ولا أبواب ولا نوافذ، ولا شئ يستر عورة منامهم، ولا ساعات قيلولتهم.
الفلسطينيون في هذه الليلة المباركة يسألون الله قيادةً رشيدة، تأخذ بأيديهم إلى سبيل الرشاد، وتخرجهم مما هم فيه من شتاتٍ وخلافٍ وتيهٍ وضياع، تكون قيادة حكيمة واعية، تحرص على الوطن، وتحافظ على الشعب، فلا تفرط ولا تخون، وتكون صادقةً صريحة، تظهر ما تبطن، وتبطن ما تظهر، وتعيش مع الشعب همومه وأحزانه، تفرح لفرحه، وتحزن لحزنه، وتقتات من قوته، وتأكل من طعامه، وتنام على حصيره، وتوالي أهله، وتعادي أعداءه، وتبطش بالمتآمرين على الوطن، والمتعاونين مع العدو، وتضرب على يد الظالم، وتأخذ الحق للمظلوم، وتنشر العدل، وتحارب الضيم، وتحرص على الفقير حرصها على الغني، وتسهر على حاجة الناس، وتنافح عن حقوقهم، وتدافع عن قيمهم، ويتساوى لديها المواطنون، فقراء وأغنياء، حكاماً ومحكومين، مواطنين وغائبين، وتحرص على بطانة الخير، التي تحضهم على الخير، وتعينهم عليه، وتذكرهم إذا نسوا، وتمنعهم إن أخطأوا، وتقصي من صفوفها أصحاب أفكار التغريب والتهويد، ممن صادقوا الأعداء، وعادوا الأصدقاء.
الفلسطينيون في هذه الليلة المباركة يسألون الله سبحانه وتعالى فرجاً عاجلاً، ونصراً قريباً، وتحريراً للسجناء والمعتقلين من سجون الأشقاء قبل سجون الأعداء، ليعودوا إلى بيوتهم، ويلتفوا حول أطفالهم، ويكونوا قريبين من أسرهم.
فكم من طفلٍ صغير شب دون أن يرى أباه، وكم من والدٍ دفن تحت الثرى دون أن يقبل ولده، وكم من أمٍ تقضي الساعات الطوال وهي تتأمل صور ولدها، وتنتظر بشغف ساعة عودته، فتدعو الله أن تكتحل عيناها برؤياه قبل أن ينطفئ بريقهما، وتذرف الدمع على سجادة صلاتها تتضرع إلى الله أن يفرج عن ولدها.
وكم من زوجةٍ أضناها طول السهر، تهدهد أطفالها وهي تنتظر عودة زوجها، ووالد أبنائها، فتجأر في ليلة القدر إلى الله بصوتٍ أضعفه البكاء، وأضناه النحيب، وغصت به الدموع، اللهم فرج كربنا، وفك أسرانا، وعجل في عودتهم.
الفلسطينيون في ليلة القدر يستذكرون شهداءهم، ويسألون الله العظيم أن يغفر لهم، وأن يتقبلهم شهداء عنده، وأن يجمعهم مع الأنبياء والصديقين ومن سبقهم من الشهداء، وأن يجعلهم من أهل الفردوس الأعلى، وأن يشفعهم في أهلهم وذويهم، وأن يحقن بدمائهم دماء شعبهم، وأن يجعل من أرواحهم الطاهرة درءاً لهم من كل فتنةٍ ومصيبة، ويدعونه سبحانه أن يشفي جرحاهم، وأن يخفف عنهم آلامهم وأمراضهم، وأن يجعل ما وجدوا من ألمٍ ومعاناةٍ كفارةً لهم عن معاصيهم.
الفلسطينيون في ليلة القدر يسألون الله العلي القدير أن يوحد صفهم، وأن يجمع كلمتهم، وأن يرقق قلوبهم على بعضهم، وأن يجعلهم قوةً في مواجهة عدوهم، وأن يقوي شوكتهم، ويصلب إرادتهم، وألا يجعل بأسهم بينهم شديداً، وأن يؤلف بين شعوب أمتهم العربية والإسلامية، وأن يوحد صفوفهم، ليكونوا يداً واحدة في مواجهة العدو الصهيوني، وأن يقذف الله في صدورهم الرحمة والمحبة والرأفة، فيخففوا الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني، وينقبوا الجدار، ويخترقوا الحصار، ويحملوا إلى الأهل المؤن والغذاء والدواء، ويكونوا أنصاراً للفلسطينيين وعوناً لهم.
يتطلع الفلسطينيون في سجودهم أن يحفظ الله لهم مسجدهم الأقصى ومدينة القدس، وأن يحميها من دنس اليهود، ومن محاولاتهم تهويدها وشطب معالمها العربية والإسلامية، ويسألون سبحانه وتعالى أن يحفظ مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كيد اليهود، الذين يخططون لهدمه وبناء هيكلهم المزعوم مكانه.
للفلسطينيين في ليلة القدر طقوسٌ خاصة، وأدعية مختلفة، ومفرداتٌ لا يدرك معناها ولا يعرف صياغتها إلا الذين يشعرون بالمعاناة، ويكتوون بنار الظلم، ولكن الفلسطينيين في كل مساجد الوطن التي تغص بهم صغاراً وكباراً، نساءً ورجالاً، في سجودهم للخالق في ليلة القدر، يستشعرون العزة كلما ركعوا لله عز وجل، ويعيشون القوة والاستعلاء ما سجدوا لله الواحد القهار، ولا يخشون على أنفسهم ما تغبرت جباههم على أرض الوطن، ولا ينال منهم الضعف ولا العجز ما بكت عيونهم خشيةً من الله، فهم على الله يتوكلون، وبه يؤمنون، وله يسجدون، ولوعده مصدقون ” كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قويٌ عزيز ” .