💥التفاهة تغزوا المجتمعات ..
💥بقلم / د. نبيل أحمد الأمير
💥خلاصة الكتاب ..
لقد أصبحت ثقافة التفاهة تسيطر على الحياة اليومية للبشر وتأخذ من جهد عقولهم، فتجد الناس اليوم يقضون أغلب ساعاتهم في جدال ونقاش وخصام، أحيانا حول أجمل قميص وأفضل حذاء رياضي وآخر صيحات الموضة، وأجمل طلة يمكن أن تقدم بها نفسك للناس، وأجمل بقرة في العالم، وأفضل ثور، وما هي أحلى نظرة للماعز، وتقام الحلقات النقاشية والأمسيات الطويلة في الفضائيات حول العالم لمناقشة ذلك، ويجتمع كبار خبراء عيون الماعز للتناظر حول أحلى نظرة، ويصوت الجمهور لاختيار المعزة ذات العيون الجميلة، صاحبة النظرة الحالمة، معبودة الجماهير، ويطاف بها حول العالم، ويكسب من ورائها مالكها ملايين الدولارات، وهذا كله بسبب التفاهة المنتشرة في عالم اليوم.
إن التافهين أصبحوا قدوة للأجيال الحاضرة والقادمة، حتى أصبح العالم مهددا بضرورة تأبيد سلطة التفاهة.
إن نظام الرداءة والتفاهة يسمح لأي إنسان تافه وجاهل بأن يتاجر في الممنوعات ويعمد إلى تبييض أمواله، فيبني مستشفى يُشغّل فيه الأطباء، أو مدرسة أو جامعة تُشغّل عشرات الأساتذة، أو يُنشئ مصنع يُوظف فيه عشرات المهندسين، فيغدو هذا التافه النكرة رمزاً وقدوة في المجتمع، لا بل صاحب رأي ومشورة وسلطة وقول، أمراً ونهياً، بل ويصبح أيضا صاحب السيادة في الدولة، ويوجه ثقافة المجتمع مع زمرة من الإعلاميين التافهين، حتى يحقق التطبيع بين الفساد والمجتمع، لدرجة تصبح فيه الفضيلة خطيئة تستوجب العقاب، والخطيئة فضيلة الفضائل، وتغدو الطيبة حمق والخبث عبقرية وذكاء.
لقد سيطرت التفاهة على العالم حتى أصبح الحديث عن الثقافة ضربا من العبث العقلي في العصر الراهن فالإنسان الحالي لا رغبة له في التأمل والتفكير ولا وقت له لذلك، فلقد حاصره التافهون من كل حدب وصوب بالمشاهد والصور حتى أصبحت الصورة هي الوسيلة الوحيدة للتفكير، وأصبحت كتابة الكلمات غريبة في العصر الراهن، وغدت الكلمات مشردة تبحث لها عن مأوى بين الأنامل فلا تجد، فقد احتلت الصورة كل المواقع.
والسؤال هو .. هل لا يزال للفكر مكان في عصر التفاهة؟
نعتقد أن التفكير اليوم أصبح غريبا في صحراء قاحلة لا ماء فيها ولا هواء، وهو مهدد بالموت جوعا وعطشا، ولا أحد من العابرين حوله يرغب في نجدته، لا أحد يريد أن يزعج نفسه بالتفكير، فالتفكير أصبح يمثل مصدر ازعاج للجميع.
الكل يتجنب التفكير مثلما يتجنوا مرضاً خبيثاً. لقد قرروا وضع التفكير في الحجر الصحي خشية إصابة المجتمع بعدوى التفكير، فالتفكير كالفيلسوف أصبح يمثل تهديدا ليقين المجتمع الذي أسسه التافهون.
ونحن نشاهد الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي، لا نجد متصدرا أمامنا إلا التافهين، كناشطين أو محللين لا يفقهون شيئا في مجال نشاطهم وتحليلهم، ولكن إتقان تفاهة الاعلام والعرض والتقديم تحوله إلى اينشتاين عصره، وتصبح كلماته قولا مقدساً لا يأتيه الخطأ من أي جهة. بل أصبح هؤلاء يتصدرون السلطة، فنجدهم في كل المجالس والندوات والاجتماعات. إنهم مهرجي العصر الراهن، نجوم مجالس الحكم النيابية.
لقد تحولت الفضائيات إلى خيمة سرك كبيرة ينشطها التافهون. إنهم يزحفون كل يوم نحو المزيد من المواقع حتى أصبح الإنسان المفكّر مهدد بالانقراض، إننا بدأنا نعيش عصر انقراض التفكير.
لم يعد أحد يحلم بالبحث والمعرفة بل لو سألت أي طفل سيجيبك أن حلمه سيارة فاخرة وفتاة جميلة وبيت على البحر وحسابات بنكية فيها أموال لا تنتهي، وليس مهم مصدرها، فالمال مقدّم على كل القيم، والسلطة أيضا، فهي حلم الجميع، ولكن يريدونها سلطة بلا عقل، لكن بها كل المال.
لم تعد السلطة تُطلب لتقدم وازدهار المجتمع، بل لتقدم وازدهار الذات. إن المصلحة الشخصية هي المحرك الحقيقي لطالبي السلطة. أما مصلحة المجتمع فلا تهم أحد إلا بقدر تحقيقها للمصلحة الشخصية.
في النهاية إن التحرر من سيطرة التفاهة مسؤولية الجميع، إذا ما أرادوا انقاذ الإنسان الأخير. فالمسؤولية عن انقاذ الذات هي في النهاية مسؤولية عن انقاذ الكل، فعندما نقول إن الإنسان مسؤول عن نفسه لا نعني أن الإنسان مسؤول عن وجوده الفردي بهذا العالم فحسب، بل هو بالحقيقة مسؤول عن جميع الناس الموحودين معه في هذا العالم.
💥تفاهة الشر”..
وكيف يتم الدفع بالإنسان إلى فعل الشر؟
أي أيدولوجيا هذه التي تدفع بجندي لأن أن يضع رصاصةً في قلب طفل لم يتجاوز العاشرة، أي فلسفة تلك التي تبيح لشخص أن يقتل معلماً، أي فكر شيطاني هذا الذي يحول البشر إلى قتلة ومجرمين، هل نحن كبشر سيئون إلى ذلك الحد ومليئون بالشرور إلى هذه الدرجة؟
الكثير منا قد تغيرت نظرته للبشرية خلال السنوات القليلة الماضية بسبب الكم الهائل من المآسي التي مررنا بها، فقد أصبحنا ننظر لكل رجل باعتباره مشروع طاغية، ونتوجس من كل إنسان وكأنه برميل ممتلئ عن آخره بالشرور والأحقاد التي تنتظر فقط من أحدهم أن يفتح لها الغطاء. هذه الظروف القاسية التي نعيشها من الظلم والطغيان باتت تطرح تساؤلاتٍ عميقة عن موقع الشر في النفس البشرية وعن طبيعة الأيدولوجيا التي تُفلح في هندسة عملية استخراجه من قعر النفوس إلى سطح العالم الخارجي.
الشر لا يستحوذ على المرء إلا بعد أن يعطل فيه كل ملكات التفكير الواعي والمنطقي، لذا فمن النادر جداً أن يُقدم أحدهم على فعل الشر بدوافع عميقة واختيارات واعية، وإنما الدافع في الغالب يكون سطحي وتافه
ان الصراع الفلسفي عن موقع الشر في النفس البشرية ومدى عمقه وتجذره فيها مر بمراحل طويلة بدءاً من الفلسفة المتأثرة باللاهوت المسيحي والتي كانت ترى أن الشر ليس كامناً في البشر فحسب وإنما متجذر في إنسانيتنا منذ الخطيئة الأولى التي اقترفها أبونا آدم، وما تبعها من هبوطه المأساوي إلى الأرض، لكن في نهاية هذا الجدل استقر لأن كلاً من الشر والخير كامنان في النفس البشرية، لكن الإنسان هو القادر بفعل “الحرية” على الاختيار في أي الطريقين يسير، وهو الأمر الذي يكاد يطابق ما قاله الإسلام قبل قرون عديدة .. ((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)).
فالطفل البشري يولد على الفطرة بريئاً من كل خطيئة، ولاحقاً في حياته تأتي الخطايا والشرور، مع اكتمال النمو العقلي، ومعها تأتي مسؤولية اختيار أحد المسارين، لذا فإن الشر ليس جذرياً فينا كما يبدو للوهلة الأولى، فلا أحد يولد طاغية ولا أحد منا يأتي إلى هذا العالم حاملاً معه خطيئة جده أو أباه كما هو الاعتقاد السائد، لكن وبرغم ذلك فإن الدفع بالبشر إلى فعل الشر لا يحتاج إلى أيدولوجيا معقدة أو فكر عميق، فالشر وإن كان موجوداً في النفوس لكنه بطبيعته سطحي وتافه، ولا يحتاج إلى قناعات راسخة، ومن هنا بالذات تأتي خطورته، بعكس الخير الذي يحتاج إلى فهم وإيمان.
إن مفهوم “تفاهة الشر” ابتكرته الفيلسوفة الألمانية حنًّا آرنت، وهي فتاة ألمانية ذات أصول يهودية تعرضت مع عائلتها للتعذيب في معسكرات النازية، لكنها تمكنت من الفرار إلى الولايات المتحدة، درست وتعلمت حتى صارت مفكرة وفيلسوفة مميزة، بعد الحرب العالمية الثانية وتحديداً في العام 1961 حضرت آرنت جلسة محاكمة لأحد قادة النازية الكبار، وتابعت الجلسة، وراقبت الرجل الذي أشرف بنفسه على واحدة من أسوأ عمليات التعذيب آنذاك، وبشكل مفاجئ خلصت آرنت من تلك المحاكمة بأن هذا الرجل كان مجرد موظف ينفذ الأوامر التي توكل إليه دون تفكير واعي ولا أيدولوجيا حقيقية تحركه، فقد كان رغم منصبه الرفيع في الرايخ الثالث مجرد رجل تافه (بحسب حنا آرنت)، وكان على استعداد أن يفعل أي شيء، لكن ليس من أجل الأيدولوجيا أو الفكر النازي، وإنما فقط لأجل الحفاظ على وظيفته في الجيش.
هذا هو شأن معظم المجرمين وسدنة الطغاة على مر التاريخ، فقد كان هامان وزير فرعون، رجل تافه لم يؤمن للحظة بأن الفرعون هو الرب الأعلى، ولكنه ومع ذلك ظل إلى جانبه مفضِّلاً مصالحه التافهة ومنصبه في البلاط. فرد الأمن الذي يمارس القمع والقتل، لا يفعل ذلك لأجل قناعة حقيقية أو إيمان راسخ وإنما من أجل الوظيفة ومن اجل المال الذي يتلقاه آخر الشهر.
ان الشر لا يستحوذ على المرء إلا بعد أن يعطل فيه كل ملكات التفكير الواعي والمنطقي، لذا فمن النادر جداً أن يُقدم أحدهم على فعل الشر بدوافع عميقة واختيارات واعية، وإنما الدافع في الغالب سطحي وتافه، وإن كان هذا لا يعفي صاحبه من المحاسبة، إلا أنه يغيّر نظرتنا للأمر برمته. أما الأيدولوجيات التي يتشدق بها الطغاة والمجرمين فهي في الغالب ليست لإقناع أتباعهم أو حتى أنفسهم، وإنما مجرد شكليات وبروباغاندا تساهم فقط في جعل مظهرهم يبدو لائقاً ومتحضراً أمام الآخر البعيد.
لقد انتشرت في السنوات الأخيرة على مستوى مواقع التواصل الاجتماعي ظواهر اليوتيوب والفيسبوك وتويتر وكلوب هاوس وغيرها من مساحات التحاور والعروض والاعلانات لا سيما في دول العرب، فما هي أسباب هذه الظواهر؟ وكيف نقضي على شهرة الحمقى والتوافه فيها؟
يقول مثل العامي “لا دخان بلا نار” أي لا شيء من دون سبب لذا سأغوص في الأسباب المفترضة التي جعلت من أناس سذج يؤثرون على الجماهير، إن تدني الوعي الفكري في البلدان العربية هو السبب الرئيسي لهذه الظواهر.
والحقيقة إن عدد هائل من العرب يقبلون بشكل كبير على اللهث وراء الفضائح والفيديوهات غير الهادفة التي لا تعدو أن تكون ترفيهية، لكن بشكل مبالغ فيه، فلن يستطيع أولئك المغمورون أن يصيروا نجوما من لا شيء لولا متابعتنا لهم ونشرنا لأعمالهم، فعقولنا لا تتماشى كثيرا مع الفكر والقراءة لكنها تجد ضالتها في إشباع حاجاتها من خلال الإقبال على الاعمال التي توصف بالتافهة مثل متابعة اشخاص اكتسبوا شهرة من خلال فعل جنوني او من خلال فضيحة اقترفوها أو حتى عمل غبي اوصلهم إلى قائمة الأعلى مشاهدة على منصة اليوتيوب إلا أن هناك أسباب كما اشرت وهي عديدة، فكل إنسان يفكر بوعي عليه ألا يضيع وقته وفكره في متابعة فضائح وسخافات وإلا يكون مساهما في تدني المستوى الثقافي.
قديما كانت عملية التصوير تتطلب مالا ووقتا واجهزة تصوير خاصة، وتبقى هذه الصور خاصة، لا تُنشر ويحتفظ بها الشخص لنفسه وعائلته، اما اليوم فقد أصبح كل منا يملك هاتف نقّال بكاميرا، وأصبح يصوّر كل شيء، من أتفه شيء لأحسن الاشياء، واصبح كل منا يعتقد انه سيكون مرشحا لأن يصبح نجماً بهذه الصور والفيديوهات، ويكفي أن يقول كلاما مضحكا يستحسنه زوار اليوتيوب للسخرية منه، ويتم نشره على نطاق واسع، لكن هذا لا يعني أن الأمر بريء مطلقا، فقد تعتزم حكومات معينة تغذية المواد التافهة لكي يزداد “الاستحمار” لدى أغلب مكونات شعوبها، بعد افساد الإعلام العمومي في بعض بلدان العالم الثالث عبر زرع الافكار المجنونة والبرامج الترفيهية المبالغ فيها وصرف أموال طائلة في ذلك على حساب برامج غير راقية وغير هادفة.
لمواجهة ظاهرة شهرة الحمقى، علينا كمستخدمين للمواقع الاجتماعية تجاهل هؤلاء لكي لا يزداد حجمهم، فخطورتهم أصبحت في أنهم أصبحوا قدوة للأجيال المقبلة، وكانت أكبر حملة مواجهة للقضاء على الظاهرة في الغرب بإطلاق حملة ” لا تجعلوا من الحمقى مشاهير” لكن لا يمكن أن نحارب ظاهرة تقوم على الجهل دون محاربة الجهل نفسه في بلداننا العربية.
فهل أنتم منتهون يا أولي الألباب؟
هل ننتهي من المساهمة في ارتفاع نسب الهزالة الاجتماعية، ونعرض عن اتباع الفضائح والخوض في تتبع أعراض الغير، فالنفس البشرية مجبولة على حب اتباع هوى الفضائح وحشر الأنف فيما لا ينفعها، فقد افلح من زكاها وكل اهتمام بمحتوى تافه لن يخدم إلا مبايعة شخص غير مفيد لكي يأخذ اهتمام الصحف والمواقع ويصبح نجماً على عرش مستنقع من السخافة تغذيه بعض الصحافة التي لا يهمها سوى ربح المال مع أن دورها الرئيسي هو تثقيف العامة وليس “استبلادها”، فكل إنسان يفكر بوعي عليه ألا يضيع وقته وفكره في متابعة الفضائح والسخافات، وإلا يكون مساهما في تدني المستوى الثقافي، فلا تدع الحمقى مشاهير وقدوات فلا يشرف اطفالك أن يكون شخص مائع هو قدوتهم في الحياة، وأن تبنى شخصياتهم على فعل سخيف دفع صاحبه ليكون قدوة لأطفالنا عوض أن يكون قدوتهم سيد الخلق اجمعين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ان عصر المقالات الطويلة والأفكار المعقدة قد انتهى وولى دون رجعة، لا أحد اليوم على استعداد لأن يفتح كتاباً أو حتى مجلة ليقرأها، لا أحد يفكر في توطين معرفته ليفهم العالم من حوله كما ينبغي، السفسطة ومعرفة الـ take-away هما الشكل الوحيد المقبول في هذا العصر، القشور باتت اليوم تكفي وتغني أصحابها عن التعمق.
لا حاجة إذن لكتب ومقالات طويلة، ولا حاجة للشرح والإسهاب، إذ أن المعرفة لم تعد هدفاً في الأساس، وإنما القشور هي كل مايريده الجمهور، هي ما يطلبه إنسان هذا العصر بتركيبته الجديدة، إنسان هذا العصر الذي يسعى دون خجل وبكل بجاحة نحو تسطيح كل ما هو عميق وتمييع كل ما هو جاد، فالسخرية أصبحت هي أداته الرئيسة المعتمدة لتسويق هذه السفسطة اللعينة، أداة منيعة ومحصنة بإحكام من كل نقد موضوعي قد يصل إليها.
ان العالم برأسماليته ورؤيته التسليعية الجديدة يجبرني على عدم الإطالة، لأنه لن يتبقى أحد ليقرأ، المهارة الوحيدة التي يمكن أن تنجينا معشر الكُتَّاب هي أن نحاول إيصال الفكرة بأقل قدر من الكلمات مع تغليفها بالكثير من السخرية.
فلا داعي لأن نلقي اللوم كما نفعل دائماً في كل مرة على مواقع التواصل الاجتماعي ونحملها وزر ما وصلنا إليه من تفاهة وبؤس معرفي، فهي وحتى في أسوأ الفروض ليست أكثر من تجلي محض لهذا البؤس الكامن فينا من الأساس. لم تفعل شيئاً هذه المواقع لنلقي عليها اللوم، إنما الشعب هو من يريد التفاهة وهذه التكنولوجيا فقط تستجيب، هكذا ببساطة لا دور كبير لهذه الأدوات فيما بلغناه من حال، وإنما هي انعكاس لواقع هذا الحال المزري، ومؤشر شديد الدقة لدرجة التفاهة التي بلغتها البشرية.
أدباء كثر على مر التاريخ ومفكرين عباقرة كانوا قد تحدثوا بهلع محذرين من غزو التفاهة لهذا الكوكب، منهم على سبيل المثال غوستاف فلوبير الذي حاول عبثاً مجابهة التفاهة مستخدماً ذات أدواتها، فألف كتابه الساخر “قاموس الأفكار الجاهزة” . ففي كتابه حاول فلوبير وبأسلوب ساخر تعرية قشور الأقنعة المعرفية المُدَّعية التي كانت سائدة آنذاك، وذلك من خلال جمعه للعبارات الجاهزة التي كان يستخدمها العامة ليبدو أكثر ثقافة ومعرفة في عيون الآخر.
بعده حاول ميلان كونديرا مجابهة التفاهة بعقلانية أكثر وبسخرية أقل واصفاً إياها “إنها لا تعني الجهل، وإنما اللا فكر الذي تنطوي عليه الأفكار الجاهزة”. إلى وصلنا إلى العام 2017 حينما استيقظ الفيلسوف الكندي المعاصر آلان دوبون ليصدم العالم بأن التفاهة بوصفها تسطيحاً هي من تحكم الأرض، ألف الرجل كتابه المثير والمخيف في آن واحد “نظام التفاهة” وقالها بملء فمه في وجه العالم أن التافهيين هم من يتسيدون مقاليد الأمور في هذا الكوكب، أشار الرجل إلى أن: “انخفاض المعايير وتغييب منظومات المبادئ الرفيعة والمفاهيم العليا قد أدى إلى تسهيل صعود البسطاء فكرياً وأخلاقياً لمفاصل القرار في الحكومات والإدارة والتجارة والأكاديميا في سابقة لم تشهدها أي حقبة حضارية من قبل”.
أنتج الرجل عملاً ضخماً لخص فيها مأساة الكوكب بحرفية وجمالية يصعب اختصارها في مقال. يبدو أن النعاس قد بدأ يصيبك عزيزي القارئ، أنت الذي تعودت على تغريدات تويتر ذات المائة وأربعين حرفاً، ومنشورات العالم الأزرق ذات الأسطر القليلة، لا ألومك.
💥حكم التفاهة … الميد يو قراطية!!
منذ أواسط القرن الماضى، وخاصة بعد أن حطت الحرب العالمية الثانية أوزارها، صارت الأجادة فى كل شىء هى المعيار والمقياس وتفضيل الأشياء على بعضها، والأشخاص كذلك، وتطورت حركة المجتمعات تطوراُ خطيرا وصار البحث العلمى يدرك كل الظواهر، فصارت الفضائيات وثورة الأتصالات وبدى النت هو المحرك كل النواحى الآن، وماكان ذلك ليحدث لولا أن هناك حكومات جادة وشخصيات على قمة أجهزة اتخاذ القرار( وجدت من زمن ) فى دول العالم من الموضوعية بمكان حتى فى بلاد العالم الفقير الذى كان يئن تحت براثن الأستعمار، غدت الثورات ورياح التغير تأتى برجال أشاوس جادين صارمين لأجل حكم موضوعى لايرى فى مواقع العمل والفعل اِلا شخصيات تدرك بجديتها اتخاذ القرار الصائب من اجل الصعود وحتى لو كان هناك من يرى فى الحكومات أنها فى سبيل الديكاتورية وتثبيت حكمها، كانت تروض المروضين وتأتى بمن هم يروجون للحكام، اِلا أنهم فى جميع الأحوال كانت لهم مقومات تبرهن على قدرتهم على الأقناع والتشخيص ولاتتدنى الى تافه ما يحدث الآن من أصنام يضعها الحكام لاتفقه للعقل عنوان وانما هى على التفاهة بمكان .
فظواهر الأمور وبواطنها أيضا تدلل كلها على أن الوضع الحالى والآنى فى كل مناحى الحياة السياسيةوالأجتماعية والأقتصادية والفكريه تحركها شخصيات جُبِلت على التفاهة فصارت هذه الصفة قرين القيادة وبدت سيطرة التافهين على مقاليد الحكم فى كثير من المجتمعات، واِن بدت أشد وضوحا فى عالمنا العربى صارت سيطرة التافهين سمة العصر الحاضر فتجلى حكم التفاهة .
فَحين يستعين النظام براقصة من نوع ( الغوازى)لتبرير سياسته فى رفع الأسعار، ومن دواعى المسخرة أن الغازية تحصلت على الأم المثالية، وهى والأمومة لا يتقابلان، وعلى التضاد يسيران، أذن فنحن فى نظام يتخذ من التفاهة عنوان .
وحين يستدعى النظام من أطلق عليه الشعب ” العكش” وينتشله من تحقيقات بالتزوير والتعامل مع سفير العدو الصهيونى، لينجيه من أحكام بالسجن بفعل من بيده القرار ليقود حملة لصالح مافيا الرأسمالية، والهجوم على زعيم عربي كان نصير الفقراء، وقد ثبت بلا جدال ان العكش هذا وقد أدعى الحصول على الدكتوراه بالتزوير، ليخاطب الجماهير من خلال قنوات تليفزيونية ويكون ذلك بأمر وتقدير جهات رسمية فى الدولة، فنحن أمام نظام من التفاهة بعنوان .
وحين يتخذ من أثير الفضائيات منابر لبث سخافات الأقوال، وتهديد أعراض الأسر وفضح المستور، والسب بأقذع العبارات من جانب رئيس احد أكبر الأندية الرياضية، ويتم التغاضى عن تلك الجرائم فى حق الرأى العام، فذلك تأكيد على سيطرة التافهين والمندسين لتشويه أفكار الشعب السوية وتحويلها الى تفاهة وتسلية.
وحين يتضارب مذيع البرامج مع آخر ويقذفه بالأكواب وبأقذع العبارات ليضع شابورة فتغيم الصورة , ورغم أن ما آتى به يشكل جريمة يعاقب عليها القانون بالحبس، فقد كافأه تليفزيون الدولة الرسمى وصعد به الى مقدم برامج رياضية لتدنى الرياضة كمعيار لأخلاق الأمم الى معيار لأنحدار أخلاق وقيم البلد، وهذا يُعد دليل على أن مافيا التافهين يعظمون كل تفاهة وأنحدار ويأتوا بصاحبها الى صندوق الفضائيات لعلها تطير عقول الراشدين فتنحدر الى التفاهة والجنون وتغرس فى الوحل وتصارع الظنون .
وعلى مستوى الحكومات، فهنا الوزارة وكيف تمتثل للعبارة، والعبارة صريحة حيث يمتنع العلماء وأصحاب الفكر وكل من يدرك التقدم والأنتصار للشعب ومن يمتثل لمافيا رجال الأعمال وشروط الصندوق والبنك الدوليين، هو أثير المنصب الوزارى، وحين يتدنى الوزراء وأصحاب المناصب العليا الى الفساد، فالرد جاهز ومن أين سنأتى بأصحاب الكفآت والمحترمون، أنهم يمتنعون وبالتالى فليس أمامنا بديل اِلا الموجود من التافهين وصناع الفساد .
وعلى ذلك تشكلت حكومات الأوطان، ممن يُسيرون الأمور لمافيا رجال الأعمال عملاء المافيا العالمية والأستعمار، وقِس على ذلك كل المناصب السيادية، وحتى فى المواقع التى تشكل وجدان الشعب فقد سارت المافيا تدفع بالتافهين من الكُتاب وأدعياء الفن والأخراج والموسيقى والغناء، وبدى التمثيل تمثيل على الشعوب، فسادت الفوضى فى كل النقابات، وبدت النقابات الفنية والفكرية ناهيك عن المهنية يتولى أمرها شخوص من التوافه التى أتت على الوجدان، فصار عديم الوجود، فأنتهكت الأنسانية وتصارعت الأشخاص كمصارعة الثيران بديلا عن الصراع الفكرى الذى يثرى الحياة والوجدان، فصارت التفاهة أبداع .
وقد وصل الأمر الى حد أن شرعنت التفاهة، لذا صُنِعت برلمانات التفاهة التى تكونت من شخصيات تافهة، أتت عن طريق المال السياسى، وموّلت حملاتها الأنتخابية مافيا رجال الأعمال ممن مصوا دماء الأبرياء، فغدت كل القوانين الصادره عنها تبرر غسيل الأموال وجرائم الأعتداء على مال الشعب وتجرم الأبداع وحب الوطن، وغدت التشريعات الصادرة عنها تبيح المحظورات وتغذى التفاهة، فصار القانون بمعناه الحقيقى أنه مجموع القواعد التى تقيم نظام المجتمع، فتحكم سلوك الأفراد وعلاقاتهم منه فى أجازة، وغدى القضاء الى تطبيق تشريعات تبتعد بسلطة القضاء الى غير ذلك مما يجدر بالقضاء تطبيقه، فسيطر التافهين وبدى حكم التفاهة .
وبحثاً عن الأسباب التي جعلت التافهين يمسكون بمواقع القرار في العالم، سياسياً، واقتصادياً، وفى كل المناحي كلمات رائعة قيلت في كتاب الفيلسوف الكندي (ألان دونو )عنوانه: «Mediocratie»، أو نظام التفاهة وعنه، تستحق أن يقال أكثر منها عن عالمنا العربى .
يقول ألان دونو :السياسة نصيحة فجّة لأناس هذا العصر ويقول : «لا لزوم لهذه الكتب المعقدة، لا تكن فخوراً ولا روحانياً، فهذا يظهرك متكبراً، لا تقدم أي فكرة جيدة، فستكون عرضة للنقد، لا تحمل نظرة ثاقبة، وسع مقلتيك، أرخ شفتيك، فكر بميوعة وكن كذلك، عليك أن تكون قابلاً للتعليب، لقد تغير الزمن، فالتافهون قد أمسكوا بالسلطة»!
وحين يسأل عن أسباب هذا التحول، يعيد ذلك إلى عاملين اثنين، في السوسيولوجيا والاقتصاد، كما في السياسة والشأن العام الدولي
السبب الأول يعزوه دونو إلى تطور مفهوم العمل في المجتمعات، يقول إن «المهنة» صارت «وظيفة». صار شاغلها يتعامل معها كوسيلة للبقاء لا غير، يمكن أن تعمل عشر ساعات يومياً على وضع قطعة في سيارة، وأنت لا تجيد إصلاح عطل بسيط في سيارتك، يمكن أن تنتج غذاء لا تقدر على شرائه، أو تبيع كتباً ومجلات وأنت لا تقرأ منها سطراً.
فقد انحدر مفهوم العمل إلى «المتوسط»، وصار أشخاصه «متوسطين»، بالمعنى السلبي للكلمة، وصار العمل مجرد أنماط، شيء ما من رؤية شابلن في «الأزمنة الحديثة» أو فريتز لانغ في رائعة «متروبوليس».
السبب الثاني مرتبط وفق دونو بعالم السياسة ومجال الدولة والشأن العام، فهنا بدأت سيطرة التافهين حيث يقول، ولدت جذور حكم التفاهة مع عهد مارغريت تاتشر، ويقول في يومها جاء التكنوقراط إلى الحكم، واستبدلوا السياسة بمفهوم «الحوكمة»، واستبدلوا الإرادة الشعبية بمفهوم «المقبولية المجتمعية»، والمواطن بمقولة «الشريك»، وفي النهاية صار الشأن العام تقنية «إدارة»، لا منظومة قيم ومثل ومبادئ ومفاهيم عليا، وصارت الدولة مجرد شركة خاصة، وصارت المصلحة العامة مفهوماً مغلوطاً لمجموع المصالح الخاصة للأفراد، وصار السياسي تلك الصورة السخيفة لمجرد الناشط اللوبي لمصلحة «زمرته».
من هذين المنطلقين، تنميط العمل وتسليعه وتشييئه، وتفريغ السياسة والشأن العام، صارت التفاهة نظاماً كاملاً على مستوى العالم، وصارت قاعدة النجاح فيها أن «تلعب اللعبة» حتى المفردة معبرة جداً وذات دلالة، ولم يعد الأمر شأناً إنسانياً ولا مسألة بشرية، هي مجرد «لعبة»، حتى أن العبارة نفسها راجت في كل لغات عالم التفاهة: «أن تلعب اللعبة». وهي قاعدة غير مكتوبة ولا نص لها، لكن يعرفها الجميع انتماء أعمى إلى جسم ما، يقوم على شكليات السهرات والغداءات والانتقامات، بعدها يصير الجسم فاسداً بشكل بنيوي قاطع، حتى أنه ينسى علة وجوده ومبادئ تأسيسه ولماذا كان أصلاً ولأية أهداف أفضل تجسيد لنظام التفاهة.
يقول دونو، صورة «الخبير». هو ممثل «السلطة»، المستعد لبيع عقله لها في مقابل «المثقف»، الذي يحمل الالتزام تجاه القيم والمُثل.
فجامعات اليوم التي تموّلها الشركات، صارت مصنعاً للخبراء، لا للمثقفين! حتى أن رئيس جامعة كبرى قال مرة ان «على العقول أن تتناسب مع حاجات الشركات»، فلا مكان للعقل النقدي ولا لحسه. أو كما قال رئيس إحدى الشبكات الإعلامية الغربية الضخمة، من أن وظيفته هي أن يبيع للمعلن الجزء المتوفر من عقول مشاهديه المستهلكين.
هكذا يرى دونو أنه تم خلق نظام حكم التافهين. نظام يضع ثمانين في المئة من أنظمة الأرض البيئية عرضة لأخطار نظام استهلاكهم، ويسمح لخمسين في المئة من خيرات كوكبنا بأن تكون حكراً على واحد في المئة من أثريائه.
كل ذلك وفق نهج نزع السياسة عن الشأن العام وعن التزام الإنسان.
سأل دونو نفسه .. كيف يمكن مواجهة حكم التافهين هذا؟
فأجاب : ما من وصفة سحرية، الحرب على الإرهاب أدت خدمة لنظام التافهين، جعلت الشعوب تستسلم لإرادات مجموعات، أو حتى لأشخاص، كأنهم يملكون عناية فوقية بدل أن تكون تلك الحرب فرصة لتستعيد الشعوب قرارها.
إنه خطر «ثورة تخديرية» جديدة، غرضها تركيز حكم التفاهة. المطلوب أن نقاوم التجربة والإغراء وكل ما لا يشدنا إلى فوق. وان ألا نترك لغة الإدارة الفارغة تقودنا، بل المفاهيم الكبرى. وأن نعيد معاني الكلمات إلى مفاهيم مثل المواطنة، الشعب، النزاع، الجدال، الحقوق الجمعية، الخدمة العامة والقطاع العام والخير العام، وأن نعيد التلازم بين أن نفكر وأن نعمل، فلا فصل بينهما، فالأساس أن نقاوم.
يقول الكاتب والفيلسوف الكندي إن الأمر يتعلق بـ”ثورة تخديرية”،تدعونا أن نكون دائما في الوسط، أن نفكر برخاوة، أن نضع قناعاتنا في جيوبنا، أن نكون كائنات قابلة للمبادلة وسهلة الترتيب في الأدراج ، أن لا نحرك شيئا وخاصة أن لا نخترع شيئا يمكن أن يؤثر على النظام الاقتصادي والاجتماعي.
ويرى آلان أن التافهين قد حسموا المعركة، من دون اجتياح الباستيل (إشارة إلى الثورة الفرنسية) ولا حريق الرايخشتاغ (إشارة إلى صعود هتلر في ألمانيا)، ولا رصاصة واحدة من معركة “الفجر” (إشارة إلى المعركة الأسطورية بين بونتا وبراكمار)، فقد ربح التافهون الحرب وسيطروا على عالمنا وباتوا يحكمونه.
لن أطيل عليك أكثر، فالعالم برأسماليته ورؤيته التسليعية الجديدة يجبرني على عدم الإطالة، لأنه لن يتبقى أحد ليقرأ، المهارة الوحيدة التي يمكن أن تنجينا معشر الكُتَّاب هي أن نحاول إيصال الفكرة بأقل قدر من الكلمات مع تغليفها بالكثير من السخرية وإلا سينتهي بنا الحال إلى الرفوف المحاطة بخيوط العناكب والكثير من الأتربة، إلى جوار الكتب والمجلدات التي لم يعد يقرأها أحد، لا لشيء سوى أنها كبيرة، وما فيها سوى سوالف فاضية كما يعتقدون .