د. سليم كاطع علي
شكل انهيار الاتحاد السوفيتي وتفككه رسمياً في 25 كانون الأول عام 1991 كونه أحد أقطاب التوازن الدولي بعد الحرب العالمية الثانية إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية، حدثاً مهماً على صعيد النظام السياسي الدولي، وهو ما أدى إلى حدوث اختلال كبير في البنية الهيكلية للنظام الدولي عبر عنه فيما بعد بسلسلة من التداعيات التي اتسمت بها السياسة الدولية نظراً لشمولية التغيير الذي حصل مطلع تسعينيات القرن الماضي.
إذ أن انهيار الاتحاد السوفيتي رتب مجموعة نتائج أسهمت في تكوين ملامح الفترة التي يتسم بها النظام الدولي في الوقت الراهن، ومن ابرز تلك النتائج: انتهاء الصراع العقائدي بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، لم يؤد إلى اختفاء دور الآيديولوجية بوصفها عاملاً محركاً في العلاقات الدولية، إنما انتقل الصراع الدولي إلى مناطق فرعية تشهد صراعات وأزمات عديدة تُعد إحدى نتائج انتهاء الحرب الباردة، وأسباب هذه الصراعات قد تعود إلى المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والاختلافات بين الأنظمة السياسية، فضلاً عن الأحقاد التأريخية والنزاعات الحدودية. وإلى مدى ابعد من ذلك فإذا كانت الحدود بين الدول هي المسرح الرئيس للحروب السابقة، فإن الحروب القادمة ستكون بين المجموعات العرقية والآيديولوجيات المختلفة على صعيد البلد الواحد.
فضلاً عن ذلك، فإن انهيار الاتحاد السوفيتي عُد من قبل الولايات المتحدة الأمريكية التي تتربع على قمة النظام الرأسمالي، بما تملكه من قدرات عسكرية وإقتصادية وتكنولوجية بمثابة انتصار للنموذج الرأسمالي الأمريكي. وهو ما أدى إلى احتكارها لأدوات القوة والتأثير ووسائل مد النفوذ، ومن ثم انفراد هذا الفاعل على الصعيد الدولي الذي لا يتوقع منه أن يلعب وفقاً لأحكام اللعبة وإنما وفقاً للإتجاهات التي تخدم استمرار مركزه الدولي وقوة تأثيره.
ومما ساعد الولايات المتحدة الأمريكية على ترتيب وضمان مصالحها العالمية، انه على الرغم من وجود قوى دولية كبرى إلى جانبها تمتلك إمكانية الظهور كأقطاب دولية مستقبلاً، كما هو الحال مع الصين وروسيا والاتحاد الأوربي، إلا إنها لا تزال تعاني من معوقات عديدة لاسيما على الصعيد الداخلي، الأمر الذي جعل الولايات المتحدة القوة الوحيدة على هرم النظام الدولي دون منازع.
إلا انه وبالاستناد إلى بعض المؤشرات الموضوعية حول قدرات الولايات المتحدة الأمريكية، ولاسيما فيما يتعلق بالإختلالات والأزمات الداخلية، فضلاً عن بروز قوى دولية جديدة أخذت تتطلع إلى مشاركة الولايات المتحدة في إدارة التفاعلات السياسية الدولية، يمكن القول بان الهيكلية السياسية التي يتسم بها النظام الدولي في الوقت الراهن، والتي تتجسد بحالة التفرد الأمريكي بالشؤون العالمية، لا تُعد هيكلية دائمة بقدر ما هي مرحلة انتقالية، سوف تستمر ثم تبدأ بالتحول نحو الهيكلية المستقبلية للنظام الدولي التي ترجح أن تكون قائمة على التعددية القطبية.
وقد يكون من السابق لأوانه تحديد الشكل النهائي لنمط التفاعلات بين الدول الفاعلة في النظام الدولي المتعدد الأقطاب وذلك لان حداثة النظام غير مواتية لإستقرار نمط التفاعلات الدولية بشكلها النهائي والمستقر، إلا أن هذا لا يمنع من رصد بعض هذه الأنماط.
ففي ظل نظام متعدد الأقطاب اقتصادياً تدين قواه الفاعلة لمذهبية اقتصادية متماثلة، فان إمكانية الصراع الآيديولوجي وبنفس القياسات التي كانت تحكم عمليات المواجهة والصراع في ظل القطبية الثنائية سوف تتراجع لحساب التنافس الاقتصادي العالمي.
وفي هذا التنافس سوف تسعى كل دولة لتحقيق أقصى الفوائد الممكنة أو ربما قد تلجأ لبعض الإجراءات السلبية مثل وضع قيود على التجارة أو إبقاء قيمة عملتها اقل من قيمتها الحقيقية، أو تضع حواجز كمركية على وارداتها من نوع أو آخر، المهم إن جوهر النزاعات في هذه الحالة سوف تكون اقتصادية، ومن ثم فان التعامل معها سيكون بصورة تدرجية وبوسائل اقتصادية، ولكنها في كل الأحوال لن ينظر إليها على أنها تهدد القيم الأساسية للدولة أو مكانتها القومية أو كرامتها أو تشكل أي تهديد لحياة أفرادها.
من ناحية أخرى فان طبيعة العلاقات التنافسية بين القوى الفاعلة في النظام الدولي المتعدد الأقطاب سوف يدفع بهذه القوى إلى تمتين إمكاناتها وقدراتها التنافسية ولاسيما الاقتصادية منها من ناحية، ومن ناحية أخرى، فان هذه العلاقة التنافسية بين القوى الكبرى سوف تنعكس بالضرورة على علاقاتها مع دول الجنوب، إذ سيزداد تنافسها تجاه هذه الدول بهدف الحصول على الموارد الاقتصادية والثروات الطبيعية، فضلاً عن إنها تمثل سوقاً لتصريف منتجاتها الصناعية.
بعبارة أخرى، إن توازن المصالح بين القوى القطبية سيكون هو الأرجح في ظل النظام المتعدد الأقطاب، إذ سيخلو من التناقضات الآيديولوجية وهو بذلك عكس التوازن الذي ساد في ظل القطبية الثنائية الذي اتصف بالجمود القائم على قاعدة التناقضات الآيديولوجية الحادة، وهي تناقضات كانت تؤدي بطبيعتها نحو الصدامات المتكررة.
وهكذا فان توازن القوى في ظل التعددية القطبية سوف يتيح للولايات المتحدة الأمريكية عدة فرص، فمن ناحية سوف يخفض من الإنفاق الدفاعي (وإن لم يكن بنفس الدرجة التي تحققها إستراتيجية التوجه الانعزالي)، كما يقلل من الحاجة إلى نشر القوات الأمريكية في المناطق الساخنة في العالم مادامت الولايات المتحدة ستترك معالجة المشكلات لتضطلع بها الدول الكبرى في مناطقها، وربما سيكون هذا دافعاً لأن تركز الولايات المتحدة تخطيطها الدفاعي على منع ظهور قوة مهيمنة في المستقبل.
وهكذا وبما إن كل قوة من القوى الفاعلة سوف تسعى إلى تحقيق مصالحها المختلفة، فان الصراع فيما بينها سوف يأخذ اتجاهاً مغايراً للصراعات المعروفة على مدى التاريخ. فالصراعات السابقة التي انتهت بالحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية كانت أطرافها الرئيسة من مراكز الرأسمالية العالمية (عدا حالة الاتحاد السوفيتي خلال الحرب العالمية الثانية)، إلا إن ما يجري في المرحلة الراهنة يتميز بأمرين: أولهما انه يتم في إطار أممية رأس المال والشركات عابرة القومية، أو ما يدعى بعولمة الاقتصاد. أما الأمر الثاني، فانه ليس من الضروري أن يأخذ الصراع طابعاً عسكرياَ، بل إن الطابع العام للصراع سيكون طابعاً تجارياً اقتصادياً عالمياً، وقد يؤدي هذا النوع من الصراع إلى نتائج ربما ستكون أقسى من نتائج الصراع العسكري، ومن المرجح أن تتحمل دول الجنوب الجزء الأكبر من هذه النتائج في جميع الحالات.
وهكذا فالنمط السائد في حروب المستقبل سوف لن يتخذ نمطاً عسكرياً، فأن إحتمال إستخدام القوة من دولة عظمى كالولايات المتحدة الأمريكية ضد القوى الكبرى الأخرى، أو بالعكس ينطوي على قبول تكاليف سياسية عالية.
وفي تقديرنا فإن هذا الإحتمال إنما يبنى في جوهره على ثلاثة أسباب رئيسة: أولهما تنامي الإعتماد الإقتصادي المتبادل، وثانيهما، تزايد القوة التدميرية للحرب، وثالث الأسباب هو ظهور ما نسميه اليوم بالقوى العقلانية.
إذ فرضت طبيعة المتغيرات الدولية بعد إنتهاء الحرب الباردة بروز إهتمامات جديدة على صعيد العلاقة بين القوى الكبرى في النظام الدولي، تمثلت في دعم القاعدة الإقتصادية والتكنولوجية، مما أدى إلى ظهور مفهوم الإعتماد المتبادل والترابط بين الدول، ليصبح هذا الترابط مقوماً من مقومات القوة التي لم تكن موجودة في حسابات القوة التقليدية.
فإحدى الخصائص التي يتميز بها عالم اليوم هو كونه عالماً تتشابك فيه المصالح وتتنوع فيه الحاجات، وتتداخل إلى درجة أوجدت نوعاً من الإستحالة في أن تعيش وحداته بمعزل عن الإعتماد على الآخرين.
وهكذا أدى التكامل الإقتصادي والإعتماد المتبادل بين مراكز القوى الفاعلة إلى أن يكون الإهتمام منصباً حول ضمان وتقوية المصالح المشتركة بين هذه القوى، والحيلولة دون أن يمس هذه المصالح تهديد ما، ولذلك فهناك على ما يبدو إتفاقاً ضمنياً على عدم إستخدام القوة العسكرية ما بين الأقطاب بسبب تداخل وتشابك مصالحها لان علاقاتها الإقتصادية ستكون تنافسية وتعاونية في آن واحد.
وهكذا فكلما زادت درجة الاعتماد المتبادل واتسمت بقدر من التوازن في تحقيق مصالح مختلف الأطراف، فان ذلك سيخفض من احتمال دخول الأطراف في الحرب نظراً للفوائد التي يحققونها من استقرار النظام، فضلاً عن ارتفاع تكلفة الحرب لأي طرف ولكل الأطراف، ونظراً للتكاليف الباهظة المحتملة فان الحرب بين القوى الفاعلة ستكون غير مجدية من الناحية الإقتصادية.
أما فيما يتعلق بالقدرة التدميرية للحرب، فقد أدى التطور الذي أحدثته الثورة التكنولوجية في ميدان الصناعات العسكرية لتحسين الخصائص النوعية لمنظومة الأسلحة النووية، إلى أن يكون التفكير بعدم شن الحرب النووية أكثر عقلانية، لأن الحرب النووية إذا قدر لها أن تندلع تكون دمار شامل ومتبادل، وعندها تلغى الحدود الفاصلة للتمييز بين الأهداف العسكرية (التكتيكية)، والأهـداف المدنيـة (الإستراتيجية)، بل أن إحتمال قيام الحرب بأسلحة تقليدية يكون محظوراً هو الآخر بالكلفة العالية التي تتضمن كذلك مخاطر التصعيد بالأسلحة غير التقليدية.
بعبارة أخرى، أن طبيعة العلاقات الدولية المعاصرة أصبحت لا تتوافق مع النموذج النزاعي بين الدول، إنطلاقاً من أن التطورات المرتبطة بالثورة الصناعية، وتزايد التبادل العالمي قد ساهم في إنشاء شبكة متشعبة من الترابط المتبادل بين مختلف الدول، كما فرض مهام إجتماعية وإقتصادية جديدة على الدولة التي إتضح أنها غير قادرة بمفردها على تلبية هذه المتطلبات الجديدة، وهو ما جعل علاقات المشاركة والتعاون في تحمل الأكلاف والمسؤوليات الدولية وتوزيع المنافع تتم عبر التعاون بصيغة توزيع المصالح وليس بصيغة علاقات عدوانية كما كانت خلال حقبة الحرب الباردة. إذ أن طبيعة المشكلات الدولية سوف تجعل من الصعوبة مواجهتها بدون مشاركة الأطراف الأخرى، كالإرهاب وإنتشار أسلحة الدمار الشامل، وتغيير المناخ، وتأمين مصادر الطاقة، وإنعدام الإستقرار نتيجة للفقر والأمراض.
أما ثالث الأسباب التي تدفع باتجاه نبذ الحرب بين الدول الكبرى، فتتمثل في أن القوى الكبرى وصلت إلى درجة من العقلانية بحيث أنها تستطيع أن تكيف أزماتها بإتجاه الحل والتلاقي، وليس بإتجاه التصعيد والمواجهة، فضلاً عن إن تنافسها فيما بينها في مناطق العالم المختلفة سوف يخضع إلى إنضباطية عالية بحيث لا تقود تلك التنافسات إلى استخدام القوة العسكرية فيما بينها.
إذ يُعد النظام الدولي المتعدد الأقطاب أكثر استقراراً من الأنظمة الأخرى، إذ يشير (كوينسي رايت) إلى: “إن احتمال حدوث الحرب ينخفض تناسبياً كلما يزداد عدد الدول المسهمة في النظام”. ولعل السبب في ذلك يعود إلى إن العلاقات المتبادلة والمتفاعلة بين أطراف النظام الدولي المتعدد الأقطاب تجري على مساحة واسعة، وتتخذ فيها أنماط متعددة من التفاعلات بما يحقق الثقة المتبادلة بين الأطراف، ومن ثم تكون علاقات المجابهة وعدم الاستقرار بين الأقطاب في حدها الأدنى.
فضلاً عن ما تقدم هناك مسألة أخرى ترتبط بالنظام الدولي المتعدد الأقطاب، وتتمثل في طريقة رسم السياسات واتخاذ القرارات، إذ نجد أن النظام المتعدد الأقطاب يختلف عن النظامين ( الأحادي والثنائي) في هذه الناحية، ففي الوقت الذي تكون فيه للدولة القطبية الأحادية سلطة شبه مطلقة، ولها القدرة على فرض إرادتها نسبياً على الأطراف الأخرى، أي إن تصريف السياسات وتنسيقها يتم هنا بشكل مركزي من قبل الدولة القطبية، نجد إن الدولة القائدة في ظل نظام القطبية الثنائية تتمتع بدور متميز في إدارة سياسات القوى المتحالفة معها، إذ تأخذ على عاتقها تقرير سياسات الحلف وتعمل على ضبطها وتوجيهها، بينما يميل النظام المتعدد الأقطاب إلى إتباع اسلوب المشاركة والاتفاق والتشاور فيما يتعلق باتخاذ القرارات ورسم السياسات بين القوى الرئيسة في النظام.
ومع عدم إنكارنا بوجود خلافات بين القوى الفاعلة في النظام المتعدد الأقطاب، إلا أن هذه الخلافات ذات طبيعة تنافسية يصعب وصفها بأنها خلافات آيديولوجية أو مذهبية – عقائدية ذات طبيعة تصارعية. وفي هذا الصدد يشير (كنيث والتز) إلى أن: الأنظمة التنافسية تحكمها إذا صح القول (عقلانية المتنافسين) الأكثر نجاحاً.
ومع عدم إقرارنا بالأحكام المطلقة في كون الحرب لا يمكن حدوثها بين القوى الفاعلة والرئيسة في النظام الدولي المتعدد الأقطاب، يمكن القول بأن هذه القوى سوف تبتعد كثيراً عن الحدود التي تكون فيها رهينة القوة العسكرية، إذ لا خيار فيها إلا الخيار العسكري، وستدرك حجم الدمار والخسائر الناجمة عن لاعقلانية القرار السياسي باللجوء إلى إستخدام القوة لحل مشاكلها، معطية بذلك أرجحية كبيرة عند المفاضلة لقنوات العمل السياسي والدبلوماسي.