آفات إجتماعية قاتلة (5)
هلع القادة وجزع الجمهور = إنحطاط وخور جمعي كامن في اللاشعور !!
احمد الحاج
(1)
شكرا للـ” عكركة” التي لقنتني دروسا في الحياة !
بعد تفكك قطعات الجيش جنوبي العراق عام 1991 على إثر إنسحاب مفاجئ من الكويت وإختلاط الحابل بالنابل منذ ذلك الحين والى يومنا هذا ، وأثناء إعادة تشكيل القطعات مجددا على عجالة وجدت نفسي وبعد رحلات مكوكية جبلية وأخرى صحراوية سابقة هذه المرة بالقرب من اﻷهوار ، وتم تكليف أحد الجنود بجلب الماء يوميا حيث كان يأتينا به لنشرب ونطبخ ونتوضأ وذات يوم وبعد أن أعطاني قدحا من الماء عبارة عن بقايا – شيشة – معجون زجاجية وأثناء الشرب واذا بي ألمح – عكركة- صغيرة جدا تسبح داخله فراشة وظهر ، و” العكركة” بالعراقي تعني – الضفدعة – فسألته ” من أين أتيت بالماء ؟ قال ” من المكان الذي أجلبه منه طيلة الفترة الماضية ” قلت هلا أرشدتني الى المكان لطفا ﻻ أمرا ؟” قال ” مو تدلل ” .
فذهبت بصحبته الى المنبع واذا به مبزل مائي ملئ بالإطارات المستهلكة والفلين وبقايا العجلات المدمرة !
ومنذ ذلك الحين تعلمت أمورا ثلاثة ” اﻷول ليس كل ما يهدى اليك يكون عن طيب خاطر ، وقد يكون ملوثا وغير صالح للشرب واﻷكل فتأمل بسجايا من يهديك أو يخبرك شيئا وإن زعم حبك قبل قبول هديته أو تصديق خبره ” ، اﻷمر الثاني ” لاتثق بعدو يتجهمك وﻻ بكسول أو أحمق أو أناني ملكته أمرك فكلهم يوردك المهالك “، الثالث ” ماحك جلدك مثل ظفرك فتول أنت جميع أمرك “.
وشاهدنا مما أسلفت أن قيادات الكتل واﻷحزاب السياسية العراقية ولشدة حرصها على المغانم وإستقتالها على المناصب تراها عجولة في كسب السيئات وإبرام الاتفاقات التي تضر جمهورها وﻻتنفعه ، كسولة في الحسنات التي تجلب له المنافع وتدرأ عنه المفاسد يستوي في ذلك ممثلو السنة والشيعة ، العرب والكرد والتركمان وبقية الطوائف واﻷقليات اﻷخرى، اﻷمر الذي إنعكس سلبا على قواعدهم الشعبية التي باتت بدورها كسولة في نصرة الحق الذي يصب في الصالح العام ، نشطة في تأييد الباطل الخاص بالمكون ولو على حساب المصلحة العامة ، فلو أن مزارع الحنطة والشعير التابعة للمكونات اﻷخرى قد إحترقت بالكامل بفعل فاعل فلن يحرك أي منهم ساكنا مع إضرارها الشامل باﻷمن الغذائي للبلاد لصالح المستورد اﻷجنبي ، فيما لو إحترقت مزرعة واحدة فحسب بحادث عرضي للمكون الذي ينتسبون اليه فإنهم سيقيمون الدنيا ولايقعدونها بوجود المحرض السياسي والاعلامي التابع له والذي بات يعتاش على تحريض المكون ضد إخوته في الدين ونظرائه في الخلق وشركائه في الوطن لحصد مزيد من اﻷصوات وصرف أنظار القواعد الجماهيرية بعيدا عن سرقاته ومثالبه التي لاتحصى بحقهم ، وعليك ان تتعامل مع قياداتك – العكركية – التي أثبتت الوقائع لؤمها وفشلها عبر مئات التجارب السابقة ايا كان انتسابك بما قاله عنترة بن شداد ذات يوم :
إن الأفاعي وإن لانت ملامسها ..عند التقلب في أنيابها العطب

(2)
دروس من وحي ” المعركة والكونة ”
حدث في منتصف الثمانينات أثناء الحرب العراقية – الايرانية أن مرض أحد المراتب في الجيش فإضطررت الى صعود القمة الجبلية بدلا منه قبل يومين من حلول رمضان آنذاك ، وبقيت هناك 32 يوما بعد إكمال عدة الشهر الفضيل بالتمام والكمال وكلي أمل بأن أحتفل بالعيد في إجازة مع اﻷهل والخلان اﻻ انني فوجئت بزميل ثان وأظنه نفس الزميل الاول يمرض أيضا ، واذا بي أصعد هذه المرة الى قمة جبلية أخرى أعلى من سابقتها ﻷحتفل بالعيد هناك ، العجيب أنني كنت قد تبرعت وفي مغامرة غير محسوبة العواقب بإعداد مائدة الافطار يوميا وتجهيز حلويات العيد وكنت أخترع أكلات لم تدرج حتى الان ، ﻻ في كتب الطبخ الشرقية ولا الغربية ولطالما تحول – قدر التمن – في نهاية المطاف الى – مجدرة – أو حلاوة رز بالسكر ، واﻷعجب أن طبخاتي الغريبة تلك على – صوبة علاء الدين – كانت تحظى بشعبية مع عدم رغبتي بتناولها والاكتفاء بصمون الجيش مع التمر الزهدي والشاي ربما وكما قال ماركيز (عند الجوع لا يوجد خبز سيء) وﻻ ادري حتى اليوم كيف كانوا يطيقون الطبق الذي علمني إياه احدهم زاعما أن جدته علمته إياه وهو عبارة عن – معكرونة بالمعجون بالبيض بالدهن بالطماطة بالبصل في قدر واحد – بما كان يحلو لي تسميته ” طبق المعركة والكونة ” وغالبا ما كان نصف المزيج العلوي ﻻ يؤكل اﻻ بصعوبة بالغة فيما كان نصفه الثاني – اللاجع – اسفل القدر يصبح عصيا على التنظيف ليرمى مع قدر الطبخ من اعلى الجبل الى اسفل الوادي ويدرج في قائمة ” خسائر المعركة ” وما اكثرها في نهاية المطاف !!
هذه التجربة علمتني أن ” لاتحشر أنفك فيما لاتجيد صناعته أو إدارته أو قيادته ” ﻷن الخسائر الناجمة عنه ستكون كبيرة جدا ﻻمحالة ، وشاهدي أن محاولة الكثير من سياسيي الصدفة تسويق أنفسهم على أنهم الممثلون الوحيدون لمكوناتهم مع إصرارهم على قيادة جماهيرهم والتشبث بالمناصب بعد ظفرهم بها في كل دورة انتخابية برلمانية أومحلية تشبه قدر ” المعركة والكونة ” نصفه ﻻيصلح للاكل ونصفه الاخر سيرمى في الوادي ، ورحم الله إمرأ عرف قدر نفسه وعليك أن تتعامل مع هؤلاء بـما قاله مارتن لوثر كينغ :
لا يستطيع أحد ركوب ظهرك، إلّا إذا كنت منحنياً
(3)
على مائدة كاهي الشيرة وقيمر السدة
ذات يوم صلينا العيد وكانت عندي سيارة – بونتياك نص مجرقعة – ومن عادتي يعرف ذلك جميع المقربين أني أحاول تجاوز المعوقات والعقبات والمنغصات في العيد قدر الامكان، وبعد خروجنا من الصلاة اكتشفنا أن – السلف مشكل – وعبثا حاولنا تشغيله هنا تدخل عدد من الباكستانيين والبنغلاديش مع بعض الاصدقاء العراقيين مشكورين لدفع السيارة وأنا بداخلها -مسلطن- والابتسامة لاتفارقني وفي النهاية ترجلت قائلا ﻷصدقائي ﻻ نريد ان نفسد فرحة العيد وهلموا بنا لنترك السيارة وشأنها ولنذهب لتناول الكاهي والقيمر كعادة العراقيين صبيحة العيدين وسط ذهول الاصدقاء حتى ان احدهم قال لي والعرق يتصبب من وجهه بعد محاولات عدة لدفعها الى الامام و الوراء – معقولة تضحك في هكذا مواقف ؟!- قلت – حاول ان تضحك وتستهزئ بالمواقف الحرجة واياك ان نتغص عليك وعلى من حولك فرحتهم اذ ليس من صفات المؤمن الهلع والجزع في أحلك الظروف وأشد المواقف !
وشاهدي أن العراقييين باتوا هلعين يشجعهم على ذلك قادتهم اضافة الى وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي فتراهم ينهارون سريعا اذا السماء أمطرت خشية الغرق ” مع تكرار شائعة انهيار سد الموصل ، وتهويل فيضان دجلة والفرات ، وخطر السيول ..الخ ” جزعين اذا السماء حبست ماءها خشية العطش ،الجفاف ، سد اليسو ، التصحر ، إنخفاض مناسيب الانهار صيفا ” كل ذلك من دون اتخاذ الاجراءات اللازمة لإستثمار المياه على النحو الامثل ، بناء السدود ، ملءالخزانات ، كري الانهار ، تنظيف البحيرات ، شق القنوات ، اجتثاث زهرتي النيل والشنبلان ، عقد الاتفاقات الرصينة طويلة الامد مع الدول المتشاطئة بما يخدم مصالح الجميع والكف عن لغة التهديد والوعيد الفارغة التي درج عليها – الطرزانيون والطرزانيات – وهم لايساوون في المعادلات الدولية شعرة في جلد خنزير بري ، وعدم الاكتفاء بلطمية الصيف والشتاء على مستوى القادة والجماهير في التعامل مع تلك الاحداث المتكررة الى حد الاستهلاك ، علاوة على تكرار اسطوانات مشروخة يعمل الإعلام المسيس على تضخيمها لحرف الانظار عن كوارث حقيقية يراد حجبها عن الرأي العام وغاليا ما تتتمحور تلك الاسطوانات حول ” ظهور غرير العسل ، الجراد ، انفلونزا الطيور والخنازير، الكوليرا ، الكلاب السائبة ..الخ ” والاكتفاء بالهلع والجزع وتبادل النكات السمجة ومقاطع الفيديو السخيفة والتصريحات الجوفاء وعلى المستويات كافة ، والحل هنا يكمن بما قاله الامام الشافعي رحمه الله :
وكنْ رجلاً على الأهوالِ جلدا ..وشيمتكَ السماحة ُ والوفاءُ
فلو ان شعوب الارض تجزع كجزعنا وتلطم الخدود وتشق الجيوب عند المصائب كما نفعل نحن لما تمكن الالمان من بناء مدنهم المدمرة بالكامل بعد الحرب العالمية الثانية والإرتقاء بإقتصادهم ليكون الثالث على مستوى العالم ببضع سنين لا اكثر ، ولما نهض اليابانيون بعيد قنبلتي هيروشيما ونجازاكي الذريتين لتصبح رقما صعبا على خارطة الابداع البشرية ، ولما قامت للفتيناميين بعد احتلالين غاشمين ” فرنسي – اميركي – ” أهلك الحرث والنسل قائمة ، ولو هلع الروس كهلعنا لما أصبحوا ثاني أقوى دولة في العالم برغم الخسائر المادية والبشرية التي لاتحصى على يد النازيين ، والحديث يصدق على جميع اﻷمم والشعوب الحية التي عانت الامرين من ويلات الكوارث والمجاعات والحروب ، وبما اننا لسنا بدعا من الشعوب فلابد من إجتثاث هلع القادة وكذبهم وفضح زيفهم ، مكافحة ظاهرتي جزع الجماهير وخورها قبل تحولهما الى مرضين مزمنين قاتلين يصعب علاجهما ، تجاوز الشعور بالانحطاط والعجز والدونية في اللاوعي الجمعي للامة ، وبخلافه فأن جيلا سيولد من ارحامنا وبين آظهرنا “لو امطرت السماء عليه حرية فسيرفع المظلات ” بل وسينكس الاعلام ويعلن الحداد العام وينصب سرادق العزاء حزنا على مفردات الحصة التموينية وعلى عبوديته التي صهرت اغلالها بتنور الوعي وكسرت قيودها بمعاول الحرية !. اودعناكم اغاتي