الادب الخاكي والزيتوني…البعثي الصدامي
———————————————-
“القلم والبندقية: لهما فوهة واحدة”. عبارة قالها المقبور العفلقي صدام حسين في زمن حروبه وحكمه، وقد أصبحت أصلاً معرفيا في خدمة الثقافة الخاكية (اي في خدمة العسكر) التي ألف عنها عباس خضر كتابا صدر لدى منشورات دار الجمل.
عبارة صدام تذكرنا بقول ماو تسي تونغ “الثورة تنبع من فوهة البندقية”، او دعوة ستالين الى “هندسة الارواح” في الادب، وهؤلاء الثلاثة جعلوا بعض الكتّاب دون وعي يغرقون في “الادب” الخاكي او النفايات الكلامية. قال صدام كلمته ووجد مترجموا سلطة حربه فرصة لتدبيج الدواوين والقصص عن السواتر والدم والجماجم ومدح القتل. ربما اقرب تعبير عن خاكية هذا الزمن وحجم الكارثة التي أصابت البشرية من جراء عسكرة الثقافة، كلمة احدى الشاعرات العربيات في ختام مهرجان المربد السادس 1985: “الشاعر الذي نريد، عليه ان يكون كالجندي في جبهات القتال. كذلك القصائد اذ غابت عنها رائحة البارود والدم فهي عفنة، وكذلك فإن الشاعر المساوم هو جندي هارب من الجبهة وعلينا ان نلاحقه ونحرق كل قصائده”.
كل كلمة يقولها صدام كانت تنظم شعريا، يصرح بأن “القتال واجب مقدس”، فتتحول القصائد في ليلة وضحاها الى قصائد مقاتلة. ويخطب “ان الشهداء يرسمون مستقبل العراق” فيترجم الشعراء لوحة النضال الرفاقي في الزمن الخاكي:”متعبا، عاد من طاهري، وحيا الرفاق، غير ان الرصاصة.. في صدره، رسمت لوحة رائعة، للعراق”.
مدح الشعراء في تاريخهم السلاطين والأغبياء ولكنهم لم يصلوا كما مجد المقبور صدام حسين، فقائمة المداحين له ولحربه تتجاوز الالف كاتب وشاعر عراقي وعربي. ما سر هذا الحب يا ترى؟ في تصور عباس خضر، ان علاقة العرب بالحاكم علاقة مرضية، اقرب الى المازوشية، لها جذورها التاريخية لا تخلو من علل اجتماعية، لم يكن حب صدام عذريا، انما حب وهوس ممزوجان بعقد نفسية وتاريخية. كان صدام الصورة الكاملة للبطل الصحراوي الذي صنعته الظروف والمخيلة العربيتان. ووجد الشعراء الخاكيون كل الوسائل المتاحة عسكريا وتاريخيا لتقديم الولاء.
المتابع للادب الخاكي، لن يجد شيئا يستحق التسامح والغفران، بل سيشعر بالقرف من جراء السطحية التي تناول فيها الادباء الحرب بحسب المؤلف، وكأنها ليست حربا يموت فيها العراقيون بل على موعد مع الجنة وفاء للقيادة الخاكية وفي ذهنيتهم، القتلى هم سعداء، والسمك يفرح بالقذائف وهي تخترق المياه باتجاه العدو، والشهداء لا يموتون بل يعودون ليلا ويضاجعون زوجاتهم ويحتسون الشاي، لأنهم ماتوا لأجل المسيرة البعثية.
حول “الخاكيون” الثقافة في العراق الى بيت دعارة سياسية للعساكر ليفعلوا ما يشغلوا ثقافة الانسان، وانتجوا نفايات ثقافية، وآلافاً من الكتب التافهة، واغرقوا المجتمع بثقافة الكيتش.
اذا قلنا ان بعضهم ارغم على الاستتباع لصدام، فثمة ضيوف عرب على العراق من جماعة الخاكية، كانت قسوتهم على معارضي العراق ومنفيي البعث اشد من تحريض بعثيي صدام. يقول المصري مختار النادي:
“اقطع رقاب خوارج المنفى
وأرجعهم لسادتهم بأكياس البريد”.
مهرجان المربد اهم المهرجانات الثقافية العربية في العراق، فقد كانت تدعى اليه اعداد هائلة وصلت في المربد السادس الى اكثر من الف كاتب وشاعر، ومنهم اسماء شعرية ونقدية وعربية لامعة. وشاءت الحكومة الخاكية في العراق ان يكون المربد واجهتها الإعلامية للعالم والعرب، يقرأ علي شلش البيان الختامي للمربد السادس:”من هذا المنبر نؤكد وقوف المفكرين كل المفكرين والشعراء والأدباء العرب مع المقاتل العراقي في خندق صموده وخندق الفكر المقاتل، فمجدا للعراق وقائده العظيم”.
تنص البرقية الموجهة الى صدام حسين المقبور باسم جميع المشاركين، والتي قرأها المغربي احمد المديني على الكلمة الآتية:” لقد رأينا يا سيادة الرئيس كيف تقذفون بالحق على الباطل بكلمة (لا). كيف تشمرون عن سواعدكم بكلمة (نعم) لاضاءة مواطن المستقبل. وليس لنا نحن الادباء والشعراء العرب المشاركين في مهرجان المربد السادس ان نتوضأ بماء النصر الذي قدتم العراق اليه فحملتم به عبئا عنا وقدمتموه لنا هدية. هي هدية التاريخ للأجيال القادمة ضوءا وامثولة وفداء”.
كانت في قائمة المشاركين بالضرورة (الموقعين) على هذه البرقية اسماء عربية تصدح بكتابات الحرية والسلام والحب والالم هل كانت برقيات موقعة برغبة كاملة منهم.
قد يقول قائل، ربما رفعتها الحكومة العراقية باسم جميع الادباء؟ ولا دخل لهم بالبقية! هذا وارد، والمرجح، فالدكتاتورية الصدامية كانت تفعل كل شيء لأجل غايتها، ولكن لماذا لم يوضح الأدباء عن مشاركتهم.
بعد هروب كتاب التعبئة الى المنافي او ظهورهم بعد سقوط صدام، اعرب بعضهم بأنهم كانوا مغلوبين على أمرهم في كتاباتهم التعبوية، ولا مهرب لهم من الكتابة للطاغية. الم يسمع بعضهم بالشاعر محمود البريكان في العراق، الم يكن من الصامتين؟ يقول عبد الرزاق عبد الواحد “عجزنا، نحن اصدقاؤه، وعجزت وزارة الثقافة والاعلام عن ان تحصل من محمود على مجموعة شعرية له وتنشرها، رغم ما قدمت له من مغريات!” وكلمة مغريات هنا مثيرة جدا، ولكن ليس بقدر الموقف الانساني للبريكان. هذا الشاعر الذي قتله لص وهو يعيش في عزلته، وقد نشرت قصائده بعد موته.
اراد الخاكيون ان يكون البريكان خاكيا ورفض، وهم يريدون كل شيء في اطار الخاكية، ويصنفون الحياة الثقافية حسب القوالب الجاهزة حزبيا. رغم سقوط صدام تحولت الخاكية لدى البعض الى روح ونفس واعتقاد ودين.
“الادب الخاكي” العراقي والعربي لم يكن موجها للشارع والإنسان البسيط، انه شعر مجلس قيادة الثورة والحرب كما قال نزار قباني في كلمة الشعراء العرب في مهرجان المربد عام 1985، “لا اعتقد ان حكومة ثورية في اي مكان في العالم، أدخلت الشعر في جدول اعمال مجلس قيادة الثورة، ومناقشات مجلس الوزراء، وفي خطط التنمية والاعمار، مثلما فعلت الحكومة العراقية”.
الادب الخاكي ادب فرق الاعدام حقا، كان نتيجة طبيعية لثقافة غير طبيعية موغلة بالدم. تقوم على فكرة الغاء الآخر ومحوه، وتمجيد القتلة وصانعي الحروب…..
الدكتور
يوسف السعيدي