شكلت عملية مهند العقبي في مدينة بئر السبع، وعملية نشأت ملحم في مدينة تل أبيب، وكلاهما من أهلنا الفلسطينيين المتمسكين بأرضهم، والمحافظين على وجودهم، والثابتين في وطنهم، والمؤمنين بحقهم في أن أرض فلسطين أرضٌ واحدةٌ لا تتجزأ، وأنها وطنٌ حرٌ عزيزٌ لأهله الفلسطينيين، ولأصحابه العرب من المسلمين والمسيحيين، الذين ما زالوا يعيشون فيه، أو يتطلعون إلى العودة إليه، فلا المقيم فيه يقبل بواقع الاحتلال، ويستسلم لإرادة العدو، ولا الغائب البعيد ييأس ويمل، ويقبل عن وطنه آخر بديلاً، بل يصران معاً على التحرير والعودة، مهما تكلفا من ثمن أو دفعا من أجل الوطن ضريبة.
شكلت هذه العمليات الموقعة باسم فلسطينيي الداخل، والممهورة بدمائهم الطاهرة، صدمةً مهولةً ومفاجئةً للعدو الإسرائيلي، أربكته وهزته بعنفٍ، وأحدثت في صفوفه اضطراباً لم يكن يتوقعه أو يتخيله، وهو آخر ما كان يأمله ويتمناه في ظل انتفاضةٍ فلسطينيةٍ عنيفةٍ شملت الوطن وعمت كافة أرجائه، وألحقت في صفوفه خسائر كبيرة، طالت الأرواح والممتلكات والمصالح، وأضرت بسمعته وعلاقاته، وتجارته واقتصاده، وهيبته وقوته، واستقراره الداخلي وعلاقاته البينية، وما زالت تكبر وتتسع، وتقوى وتشتد، وتتعمق وتتجذر، وهو حائرٌ وغير قادرٍ على الإحاطة بها أو السيطرة عليها، أو وضع حدٍ لها بالقوة أو بالتفاهم، وبالتفرد أو بالتنسيق، فإذا بالهجوم ينطلق من داخله، ويصيب قلبه وعاصمة قراره، وأطرافه البعيدة والقريبة.
وقد علق على عملية بئر السبع التي نفذها الشهيد مهند العقبي أحد كبار الضباط الإسرائيليين، فقال ” آخر ما توقعناه أن تأتينا الضربة في بئر السبع، وتفاصيل العملية مفاجئة لنا”، وقال آخر “في عز الهدوء وفي مكانٍ غير متوقعٍ ضرب الفلسطينيون”، وقال غيره “نشرنا آلاف الجنود في الضفة والقدس، وإذ بالضربة تأتينا في جنوب البلاد”.
أما رئيس بلدية بئر السبع روبيك دانيلوفيتش فقد كان مصدوماً مما حدث، وغير قادرٍ على تصديق ما تراه عيناه، لكنه أمام هول العملية واضطراب المستوطنين في المدينة قال “عملية بئر السبع صعبة للغاية، والشرطة لا يمكنها منح كل مواطنٍ حارساً خاصاً، لأننا في ذروة معركة قاسية”.
عملية بئر السبع كانت مهولة وصادمة، ومخيفة ومرعبة، فقد فضحت المستوطنين، وكشفت عن عيوب الجيش والنخبة، واخترقت الأمن والحماية والاستعداد والجهوزية، وأثبتت أنهم يكذبون إذ يدعون الحصانة والمنعة، إذ علق محلل عسكري إسرائيلي على العملية قائلاً “عملية بئر السبع فيلم هندي، لكن خيبة الأمل الحقيقية تكمن في هروب الجنود المسلحين من منفذ العملية، وبحثهم عن أماكن للاختباء منه، بدل أن يطلقوا النار عليه، إنه سلوكٌ مخزي، كان آخر ما توقعناه أن تأتينا الضربة في العاصمة الاقتصادية لإسرائيل”.
وكانت وسائل إعلامٍ إسرائيلية ودولية قد نقلت صورة الإحباط واليأس البادية على وجوه المواطنين الإسرائيليين، بعد رؤيتهم لصور الجنود وهم يفرون ويختبؤون، ولا يقوى أيٌ منهم على إيقاف المهاجم أو إطلاق النار عليه، ما جعلهم يبدون ضعفاء وجبناء أمام مواطنيهم، خاصةً أن العملية استمرت لدقائق طويلة، وقد كان بإمكان الجنود التصرف بسرعة، ووضع حدٍ لعملية إطلاق النار، ولكن حالة الذعر هي التي كانت سائدة ومسيطرة على الجنود الإسرائيليين، الذين آثروا الفرار والاختباء.
ومن فرط خزيهم قامت سلطات الاحتلال باعتقال بعض العاملين العرب من غير المتواجدين في مكان الحادث، بعد أن تبين لهم أنهم يتبادلون بفرحٍ صور الجنود الفارين المذعورين، وهم يحاولون الاختباء والاحتماء من نيران منفذ العملية، في الوقت الذي طلبت فيه من إدارة شركات الانترنت حجب هذه الصور ومنع تداولها بين مستخدمي شبكة الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
أما نشأت ملحم فقد اقتحم بنفسه، وقاتل بمفرده، وامتشق سلاحه أمام جمعهم، وأطلق النار على حشودهم، وسلط بندقيته على رؤوس جنودهم وأجساد مستوطنيهم، فقتل وجرح، وما استوقفه أحد، ولا قوي على مواجهته آخر، وما إن أنهى مهمته حتى طوى حقيبته، وأعاد إليها سلاحه وحملها على ظهره كعصا وارتحل، فحكم على سكان مدينة تل أبيب كلها بالخوف والفزع، والرعب والجزع، وأسكنهم بيوتهم فلم يخرجوا منها، وأغلق مدارسهم فلم يذهب أطفالهم إليها، وأوقف أعمالهم فما استطاع أن يزاولها أحدٌ، كلٌ خائفٌ على نفسه، وقلقٌ على مصيره، بينما يذهب نشأت ملحم إلى مكمنه آمناً منهم، وغير خائفٍ من تعقبهم، وهم الذين يملكون القدرات المهولة، والتقنيات الكبيرة، ووسائل الاتصال والتتبع الحديثة.
الكيان الصهيوني لا يحتمل عملياتٍ من هذا النوع، ومجتمعه من الداخل غير مهيأ لها، وغير مستعدٍ لمواجهتها والتصدي لها، وقد صرح أكثر من مسؤولٍ إسرائيلي أن كيانه لا يستطيع أن يحتمل عمليةً أخرى كعملية نشأت ملحم، وهو التصريح نفسه الذي أطلق عشية عملية مهند العقبي في مدينة بئر السبع، بما يشير إلى حجم الألم والضرر التي ألحقته هذه العمليات بهم، إذ أقلقت الشعب وهزت الحكومة وأظهرت هشاشة الأمن، وكشفت عن فزاعة الجيش.
أما منفذا العمليتين فلم يستسلما، بل استبسلا في هجومهما، وقاتلا بصدقٍ ويقين حتى استشهدا، ولم يسقط أيٌ منهما بسهولةٍ، ولم يسلم أيٌ منها نفسه للعدو كي يأسره أو يقتله، بل بقيا واقفين على أقدامها، وأيديهما تقبض على السكين أو البندقية، وبهما قاتلا حتى حانت منيتهما شهداء كرماء أعزاء، إذ قاتل مهندُ حتى انتهت ذخيرته، وقبل أن ينال منه المستوطنون استولى على بندقية جنديٍ وقاتل بها حتى انتهت ذخيرته للمرة الثانية، أما نشأت ملحم فقد ضرب في عمليته للعدو درساً بليغاً، وأذاقهم الذل ألواناً، فبعد أن هاجمهم في قلب مدينة تل أبيب، وقتل فيها اثنين وجرح آخرين، غادر مسرح العملية آمناً إلى مكانٍ آخر، وعندما وصلوا إليه وعرفوا مكانه، لم يسلم نفسه ولم يلق بندقيته، بل قاتلهم ونال منهم قبل أن يلق الله شهيداً.
هذه العمليات البطولية أعطت الشعب الفلسطيني أملاً كبيراً، وأثلجت صدور أبنائه فرحاً، وأعادت إليهم الأمل من جديد، أن جذوة هذا الشعب ما زالت متقدة، وأن الجمر تحت الرماد ملتهب، وأنه لم يخمد ولن ينطفئ، وأن المهند الذي كان يحمله مهند سيحمله غيره، والبندقية التي أفرغ نشأت ذخيرتها في صدور العدو، سيعمرها مقاومٌ آخر، وسيحملها من بعده فلسطيني أقوى وأصلب، وأكثر عناداً وأشد مراساً.