لم يؤثر السجن والسجان ومهما اشتدت القساوة والعنف على ان يكتموا صوت العدالة ويغيروا المسيرة والعطاء وينحو بالسبل الواسعة التي رسمها الله لأولِياءهُ الصالحين على ان يزيغوا من اهدافهم فلم تثمر بها جميع الحكومات في العصرين الاموي والعباسي, فهم سادات البشر خلقوا للأخرة وهم الشجرة النبوية الباسقة والدوحة العلوية اليانعة , أئمة الهدى عطائهم تتفجرمنه ينابيع الحكمة وسيل المعرفة ومنهل العلم تراهم متواضعين بسطاء تقبل اليهم الدنيا ومافيها وهم عن ذلك يدبرون لاتغرهم زينتها وزخارفها ,لايبخلون عن زق العلم ,لهم جامعات تدرس فيها مختلف العلوم هنيئا لمن ارتوى من فيضها , قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (النجوم أمان لأهل السماء إذا ذهبت النجوم ذهب أهل السماء ، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض) وواحد من تلك النجوم الساطعه في مدينة بغداد الامام الكاظم عليه السلام عاش اسيرالسجون يثنىِ على الله ويقنُت له بالشكر لما تهيأ له من مناخ هادىء في مقبرة الاحياء وبيت الاحزان كما وصفها النبي يوسف(ع) حينما خرج من السجن وكتب على الباب تلك العبارات,ولدِ الكاظم عليه السلام في منطقة الابواء تقع مابين مكة والمدينة في السابع من صفر سنة 128هـ الموافق السادس من شهر تشرين الثاني سنة 745م وعمره 55 سنة مدة أمامته 35 سنة كنيته ابو الحسن اوابراهيم ,امه حميدة البربرية كانت من اشرف الاعاجم وقد قال عنها الامام الصادق عليه السلام ( حميدة مصفاة من الادناس كسبيكة الذهب) شهدت حياته صنوفا من الوان العذاب والمراقبة والتصفية ,اودع السجن ايام خلافة المهدي العباسي الذي خلف المنصور في عام 158هـ ثم اطلق سراحه بسبب حلم راهِ الخليفة المهدي وبعث الى وزيره الربيع وأمره باحضار موسى بن جعفر,فلما حضر الامام عليه السلام قام له المهدي وعانقه واجلسه ثم قصى عليه الحلم الذي رأه , انه رأى امير المؤمنين علي عليه السلام فقال له (فهل عسيتم ان توليتم أن تفسدوا في الارض وتقطعوا ارحامكم ),كان الامام يصلي نوافل الليل ويصليها بصلاة الصبح ويبقى راكعا وساجدا حتى تطلع الشمس , ويخر لله ساجدا واشتهر بدعائه الذي لازمه طول حياته( اللهم أني اسألك الراحة عند الموت والعفو عند الحساب ) ومن اقواله المؤثره( قل الحق وإن كان فيه هلاكك فإن فيه نجاتك ودع الباطل وان كان فيه نجاتك فإنه فيه هلاكك), هذا الأمام المعصوم صاحب السمو والرفعة في الخلق يبتهل من الله العفوعند الحساب فكيف حالنا نحن المتكبرون والجبارون في الارض والمكبلون بالذنوب , عرف عن الكاظم انه باب الحوائج وماقصده زائر عارفا بحق الله واهل البيت الا واثلج صدره ببركة الله , هذا شيخ الحنابلة وعميدهم الروحي ابو علي الخلال يقول ( ماهمنيٌ امر فقصدت قبر موسى بن جعفر الا سهٌل الله تعالى لي ما آحب ), لقد كان الامام أعلم أهل زمانه واشتهر منذ نعومة اظفاره بان ينابيع الحكمة والمعرفة تتفجر من جوانبه ,وفي بداية امامته سيطرة الفلسفة اليونانية على الفكر العام وسادت الشبهات وانتشرت بشكل كبير وامتدت الى صلب العقيدة والدين وخضعت الكثير من عقول المسلمين وتأثرت بها ,وماكان من الامام الا أن يتحمل المسؤولية وتصدى لها بمنهج ورسالة ابائه ووقف بحزم وانتصرعلى كل الشبهات وحافظ على العقيدة ,ومع ذلك فان الخطر كان يحوم عليه من جلاوزت حكام الجور, فارتكبوا جريمة العصر والذنب الذي لايغتفر بحق الامام الكاظم عليه السلام حينما اوعز هارون الا رشيد السندي بن شاهك الأثيم بقتل الامام بعد ان القي به في غيابات السجن لفترة طويلة جدا وقد شكى الامام برسالة وجهها الى هارون وهو يقضي سنوات من الظلم في السجون العباسية قال له( انه لن ينقضي عني يوما من البلاء الا انقضى عنك معه يوم من الرخاء , حتى نفني جميعا الى يوما ليس له انقضاء وهنالك يخسر المبطلون ) واخير عمد السندي بن شاهك واستجابت نفسه الخبيثه بسم الامام فوضع الرطب المسموم فأكل منه الامام عشر رطبات فقال له السندي ( زد على ذلك ) فرمقه الامام بطرفه وقال له ( حسبك قد بلغت ماتحتاج اليه) وبعد اكل الرطب سر السم الى جميع بدنه وقد امتنع الامام الكاظم عليه السلام ان يتولى غسله وتكفينه السندي وقال ( انا اهل بيت مهور نسائنا وحجٌ صرورتنا وآكفان موتانا من طاهر اموالنا وعندي كفني ) ثم أوصى الامام قبل وفاته قال , فاذا حملت الى المقبرة المعروفة بمقابر قريش فالحدوني بها وترفعوا قبري فوق اربعة اصابع مفرٌجات , ولاتأخذوا من تربتي شيئا لتتبركوا به فإن كل تربة لنا محرمة الا تربة جدي الحسين بن علي عليهما السلام فان الله عز وجلا جعلها شفاء لشيعتنا وأوليائنا ,هنالك اسباب ادت الى اعتقال الامام من قبل هارون وزجه بالسجن منها : احتجاجه عليه بأنه اولى بالنبي من جميع المسلمين , فهو احد اسباطه ووريثه انه احق بالخلافة من غيره , وقد جرى احتجاجه مع هارون عند قبر النبي , والسبب الاخر : اغاظ هارون حينما اراد هارون ان يرجع فدك الى الامام فلم يرضى الا ان ياخذها بحدودها فقال الرشيد ماهذه الحدود؟: فقال ان حددتها لم ترد ماعلينا , فأصر الرشيد عليه ان يبينها له قائلا بحق جدك الا فعلت فقال:الحد الاول: فعدن , فلما سمع الرشيد تغير وجه والحد الثاني: سمرقند فاربد وجه واستولت عليه موجه من الغضب , والحد الثالث:أفريقيا فاسود وجه الرشيد وقال بصوت يقطرغيضا (هيه), والحد الرابع : سيف البحر وجزر ارمينيا , فثار الرشيد ولم يملك اعصابه دون ان قال لم يبقى لنا شيىء .قال الامام قد علمت انك لاتردها ,والسبب الاخر: هو جباية الاموال ,عمد بعض الاشرار باخباره ان الامام قد اشترى ضيعه تسمى ( اليسٌيريه ) جمعها عليه السلام من الاموال التي تجبى اليه عن طريق الخمس , وفي ذات يوم استضاف هارون الامام الكاظم وكان جالس الى جانبه ابنه المأمون ولقد اكرم هارون الامام وخرج معه ليودعه , وحينما سأل المأمون ابيه عن الكاظم عليه السلام قال هارون : انا امام الجماعة في الظاهر بالغلبه والقهر وموسى بن جعفر اما الحق والعدل, وبموت الامام وانتقال روحه الطاهرة الى الرفيق الاعلى بعد ان فاضت روحه الزكية فقد العالم نورا ساطعا وكوكبا دري واظلمت الدنيا بفقده وثلمة الاسلام بفاجعته الى اليوم الدين واشرقت الاخره بقدومه , وخسر الاسلام والمسلمين المع شخصية كانت لهم وتد في الارض وامان من الظلمات وبركات لاتحصى وعدل لايقهر.
بقلم: صادق غانم الاسدي