يا راحلين إلـى منـى بقيـادي ….!

احمد الحاج
وهكذا حسم مصير موسم الحج المبارك للعام 1441 هـ / 2020 م بتحديد إقامة الحج لهذا العام بعدد “محدود جدا” من الحجاج ومن مختلف الجنسيات من المقيمين داخل المملكة السعودية فقط بسبب وباء كورونا (كوفيد – 19)!

يوم وصلنا ليلا الى مكة المكرمة قادمين من المدينة المنورة صلى الله تعالى على ساكنها وسلم تسليما كثيرا ، في موسم حج عام 2007 وبعد الانتهاء من مناسك العمرة ونحن مازلنا بملابس الاحرام لغرض الاقامة في مكة لحين بدء المناسك في الثامن من ذي الحجة وقف مرشد الحملة الديني وسط الحافلة المتوقفة تماما بإنتظار وصول بقية الحافلات وكان المرشد رجلا كهلا نحسبه من أهل الخير والصلاح ولا نزكي على الله أحدا ولطالما ذهب الى الحج والعمرة بحكم وظيفته تلك قبلنا مرارا وتكرارا فيما نحن نحج للمرة الأولى في حياتنا وأتمنى أن لاتكون الاخيرة بإذنه تعالى وقال بنبرة حزينة وصادقة نابعة من شغاف قلبه وعميق مشاعره ” ياجماعة إحمدوا الله تعالى انكم في هذا البقعة المباركة الان ، فكم فقدنا من أحبة كان بعضهم معنا العام الماضي في نفس هذا المكان تحديدا وقد اصبحوا تحت التراب اليوم ..كم من أناس تهفوا قلوبهم الان لزيارة هذا المكان الطاهر واداء مناسك الحج والعمرة قد منعهم إما الفقر وضيق ذات اليد ، وإما غياب الصحة والعافية ، وإما الظروف السياسية والامنية العصيبة في بلدانهم ، وإما لظرف اجتماعي طارئ ألم بأحدهم في هذا الوقت والتوقيت المهم ، وإما لأن أسماءهم لم تظهر في القرعة السنوية المخصصة للمتنافسين للتقديم على موسم الحج لكل بلد على حدة ، فإحمدوا الله تعالى كثيرا على نعمائه اذ مكنكم من حج بيته الحرام وإختصكم لحج بيته الحرام هذا العام ولعلكم لاتلقون أحبابكم وأهليكم بعد عامكم وحجكم هذا ” هنا ضجت الحافلة بالبكاء، رجالا ونساء لأن هذا المرشد قد استشعر اللحظة وإقتنصها بعد أن عاش أجواء الزمان والمكان وتحين الفرصة المناسبة ليقول ما قاله وجادت بها قريحته على مسامعنا ، كان يتحدث بطريقة غاية في الروحانية والوجدانية والانسانية والعاطفية وبكل هدوء وسكينة ووقار ، كانت نبرة صوته تتمايل مع إيقاع الكلمات وتتناغم مع الحروف والمفردات التي يتفوه بها وكأنها مقطوعة موسيقية ، وكأنها لوحة تشكيلية – ولكم تمنيت لو ان الوعاظ يسلكون ذلكم المسلك في وعظهم وارشادهم كله وفي كل وقت وحين – قبل ان تمضي بنا الحافلات الى مكان إقامتنا في منطقة العزيزية الشمالية .
لقد استذكرت تلكم اللحظات الفريدة وكنت في مهمة صحفية آنذاك لتغطية موسم الحج ونقل وقائعه فقدمت نية الحج على نية المهمة الصحفية كليا وفقا لنصيحة الاخوة والاصدقاء مشكورين ومأجورين حتى لا افقد أجر الموسم العظيم وقد لايتكرر وفعلا لم يتكرر منذ ذلك اليوم ..اقول استذكرت ذلك كله وانا اقرأ الخبر المحزن الانف عن تحديد الحج بالمقيمين داخل المملكة فقط بسبب الجائحة الخبيثة وهمت في الاجواء وانا استرجع شريط الذكريات وسرحت طويلا فيها وقلت في نفسي ” ترى ماذا عساه قائلا مرشدنا الديني ذاك رحمه الله تعالى حيا وميتا لو ان الموسم كان في موسم الحج الحالي حيث كل حجاج العالم بمن فيهم المتمكنون والمقتدرون ماديا وجسديا ونفسيا ممن ظهرت اسماؤهم في القرعة تهفوا قلوبهم الى هناك وليس بمقدورهم ان يحجوا وعليهم ان ينتظروا عاما آخر قد لاتمهلهم كورونا وبقية اسباب الموت الاخرى – من لم يمت بكورونا مات بغيره ..تعددت الاسباب والموت واحد – ولا تمنحهم شرف بلوغه …ليس بمقدورهم المبيت بمنى ، صلاة الظهر والعصر في مسجد نمرة جمعا وقصرا، الوقوف بعرفة في يوم هو خير ماطلعت فيه شمس ، النزول الى مزدلفة والصلاة في المشعر الحرام ، رمي الجمرات ، نحر الاضاحي ،الطواف حول البيت العتيق ،تقبيل الحجر الاسود ، الصلاة خلف مقام ابراهيم عليه السلام ، والصلاة في المسجد الحرام تعدل 100 الف صلاة فيما سواه ، التضلع بماء زمزم ، السعي بين الصفا والمروة ، الحلق أو التقصير ..ليس بمقدورهم ان يصلوا بالمسجد النبوي الشريف ، ان يسلموا على طه النبي الهاشمي صلى الله عليه وسلم ، خير ولد آدم من عرب ومن عجم بعد الصلاة في روضته المباركة ، والصلاة بمسجد الحبيب الطبيب تعدل 1000 صلاة فيما سواه من بيوت الله العامرة ؟
أخال مرشدنا ذاك كان سيبكي ويبكي ويبكي ويذرف دموعا حرى ويبكينا ” ولله در الشاعر الذي إنقض عليه المرض ودهمه وهو في الطريق إلى مكة فمات في طريقه اليها ولما يدخلها بعد، وقال قصيدته الخالدة قبل وفاته والتي تصدق أبياتها وكلماتها علينا حرفيا في أيامنا هذه :
يا راحلين إلى منىً بقيادي ..هيجتموُا يوم الرحيل فؤادي
لي في ربى ظلال مكة مرهمٌ ..فعسى الإلهُ يجود لي بمرادي
ويلوح لي ما بين زمزم والصفا ..عند المقامِ سمعت صوت منادي
يَقُولُ لِي يَا نَائِماً جدّ السُّرَى ..عَرَفَاتُ تجلو كل قلب صَادِي
والتي ختمها بقوله :
فليبلغ المختار ألف تحية ..من عاشق متقطع الأكباد

أودعناكم اغاتي