نعم ، لي فيها ألف ناقةٍ وألف جمل..!

في أول وهلة بعد صدور قرار إلغاء البطاقة التموينيّة نظرتُ إلى وضعي الإقتصادي ووضع عائلتي الصغيرة وقلت لنفسي مالي أنا والبطاقة التموينيّة؟ فأنا مهجّر وبالرغم من مرور ما يُقارب من ربع قرن على تقاعدي فإنني لم أفلح في إستعادته بعد وقف صرفه بسبب ظروف التهجير منذ أكثر من ستّة سنوات أمّا البطاقة الموصوفة فكم فاتتني فرص إستلام إعانات أو إكراميات قدّمتها دوائر المهجرين وذلك بسبب عدم تمكّني من تجديد بطاقتنا منذ ذلك الحين ،وأسمع الآن أن أحد الأخوة الطيبين إستطاع أن يستخرج لنا نسخة جديدة ولكننا لم ننتفع بها لغايته أبدا فما لنا نحن والبطاقة التموينيّة ؟ وأنا بلغت سنّا اصبحتُ أسير فيها بمساعدة العصا ولم أتمكّن أن أجمع ثمن كفني ! ولكنّني بعد وقت قصير نظرت إلى نفسي في المرآة ووجدت كم أنا أبتعد عن نفسي وآرائي ومبادئي ثم هل ستبقى الأسعار كما هي بعد الإلغاء؟ لا شكّ أن أسعار المواد الغذائيّة سترتفع بسبب الطلب المتزايد وفي تلك الحالة سوف لن يعود بوسعنا أن نسدّ إحتياجاتنا الأساسيّة بما هو متوفّر أو متاح من المداخيل المحدودة وحتّى لو إستعدت الراتب التقاعدي الذي أصبح مجرد خيال فإنني لا أعرف هل سيسدّ الفروقات التي ستحصل في الأسعار ؟

ثم نظرتُ مرّةً أخرى إلى نفسي في المرآة وبالعين الثالثة أو كما يُسمونها عين الحقيقة  ! وبدت لي إحدى النسوة وهي تجمع من مكبات النفايات شيئا يؤكل ثم بدا لي حسّوني وهو الطفل الذي يبيع أكياس النايلون في الشارع بعد أن ترك المدرسة وتراءت لي تلك الصورة الرائعة للطفلة التي تتعلّم الكتابة وتقوم بكتابة فروضها وهي تبيع في الشارع بعض الحلوى أو شيئا آخر ثم أخذت الصور تترى وأرى أيّام الحصار القاسية يوم كنّا نُفطر على خبزأسود مطلي بقليل من الدهن ونرش عليه شيئا من السكّر ، يوم كنت أضطرّ أن أعير ولدي وكان طفلا صغير الجرم أعيره حذائي قياس 43 لكي يذهب به إلى المدرسة ، يوم كنّا نلبس أبناءنا وقرّة أعيننا ملابسنا القديمة فيظهرون وكأنهم مهرجين في السيرك ، يوم أن كانت جارتنا الله يرحمها تبعث لنا بما تبيضه دجاجاتهم لإطعام أم أطفالي عندما كانت حبلى، يوم أن كنّا ننتظر بائع ( عتيق للبيع) في الصباح لكي نبيع برميل النفط حتّى نستطيع أن نذهب للعمل، يوم كنّا نتمنّى لو أن أقرباءنا الذين يعيشون في الخارج لو يبعثون لنا ما يفيض من طعامهم لعلّنا نأكل شيئا من الجبن أو اللحم أو الخبز الفرنسي حتّى ولو أعقاب الصمّون، يوم كنت أذهب لدائرة التقاعد وأقبض راتب التقاعد ولا أعود إلاّ بكيلو فاكهة وأجرة التاكسي التي تّعيدُني إلى البيت ، يوم إنقطعنا عن شراء الصحف والمجلات وطبعا جميع أنواع الكتب ولكنّنا لم نعرض ما جمعناه من كتبنا للبيع حتّى التهجير الذي ضيّعها لنا قسرا وقهرا

نظرت مرّةً في نفس المرآة ووجدت كم أنا أبتعد عن نفسي بهذا المنظور الغريب وكم أنا أناني ، وأنا العراقي الذي لا يضع أمامه سوى حبّ العراق وأبناء العراق من كل جنس ومن كل لون ومن كل مذهب ودين وقوميّة وفئة ، لطالما أحببت حتّى من عاداني وأساء إليّ لأنني أكره الذلّ ولا أتمناه حتّى لأعداء العراق.

تٌرى هل أنه صحيح أن لا ناقة لي فيها ولا جمل؟

وهؤلاء الصبية الذين يملؤون الساحات والصبايا الشعثاوات شبه العاريات والظلم والإجحاف والفتن التي تكاد تمزّق البلاد ومطر الفساد الأسود .. تُرى على رؤوس من يهمي ومارد العوز المبكي تُرى عمّن يبحث؟ في الطرقات والدروب؟وكانه أفعى كبيرة أو تنّين ضخم !

نعم يوم خرجت أنا وأطفالي هائما إلى غير قصد حدث وأن خامرني شعور أنني وحدي تماما حيث تخلّى عنّي حتّى أهلي وأقربائي حتّى أقرب الناس منّي  ولكنّني تذكّرت أنني عندما كنت صغيرا كنت كشّافا وقد علّمونا أن ” الكشّاف يهزأ بالصعاب “.

بلى إن لي فيها ألف ناقةٍ وألف بعيروألف جمل

لي فيها كل عراقي من هو معي ومن هو ضدّي من نصرني ومن آذاني من حاول أن ينتهز الظروف ليُكيّفها ضد كل ما تبنيناه من الخصال الفاضلة و من ظهر أنه ليس لئيما كما كنت أتصوّر .

رحم الله الشيخ عبد الله النوري مفتي دولة الكويت الأسبق حين قال من نظمه في مناسبة لاستقبال وفد عراقي برئاسة الأستاذ عبد الهادي الجواهري عام 31 حينما خطب فيهم وأنشد قصيدة جميلة قال فيها:

 إنّي أُحبّ بني العراق ــ وحبّهم فرضٌ عليَّ ــ محبّتي أولادي

أنا ضد إلغاء البطاقة التموينيّة

أنا ضد الفقر والعوز

أنا مع شمول الأطفال بالتغذية المدرسيّة

أنا مع توفير العمل لكل قادر عليه

أنا مع الحريّة

إن كانت تلك هي الإشتراكيّة فبها وإن كانت غيرها فهذا ما أريد ولا أظن عراقيا واحدا لا يُريد هذا لكل عراقيّ

عاش العراق والعراقيون بكل إنتماءاتهم العرقيّة والقوميّة والدينيّة والإثنيّة والمناطقيّة

عاش العراق..!