في نظرة ثاقبة وقراءة دقيقة للخارطة السياسية والدينية لواقع المجتمع العراقي نجد أن ممارسات رجال السياسة ، والنظام الذي تنتهجه المؤسسات الدينية لايمتلك أن برنامج إصلاحي آني أو مستقبلي لواقعنا الاجتماعي الذي يسير خطه البياني سريعا نحو الانحدار ، كما أن الفئة الثالثة وهي طبقة النخب المخلصة أوالمثقفين المستقلين ، والتي لم تجد لها مكانا في الوسط السياسي والديني الفاعل ، يبدو عليها وكأنها تقف على التل ، ترقب المشهد المأساوي بلا حول ولا قوة ، وأغلب هذه الطبقة هي ممن يمتلك قدرا لابأس به من الوعي والإخلاص ، كما تمتلك القابلية على التغيير ولديها ما يؤهلها لقيادة الأمة نحو الخلاص ، لكنها تعاني من أكثر من مشكلة تمسكها من التحرك ، ومن هذه المشاكل ( الأموال اللازمة ) حيث أن أغلب هذه الشريحة قد عزلت قسرا عن أداء دورها في توجيه المال باتجاه الإصلاح بل سرقته بأساليب شتى كما هو حاصل ويحصل بشكل سافر وصريح ، وإذا ما تهيأت فرصة لأحد في التواجد في أحد تلك المواقع ، فإنه سوف يجد نفسه محاصراً من قبل رموز الأحزاب الحاكمة ، بهدف شل حركته والتقليل من أثره في التنسيق من أجل الإصلاح ، والمشكلة الأخرى التي يواجهها المخلصون محاولة ( رموز السلطة ) تحجيم أي دور اجتماعي لهم ، ومحاربتهم وخاصة أؤلئك الذين ينشطون في المجتمع ولديهم بعض القدرات في إقامة المشاريع التنويرية بل وحتى الخدمية ، ومحاولات تحجيم مثل تلك القدرات يراد من خلالها الحد من تنامي ثقة الناس بهم ، وتحجيم دورهم الاجتماعي ، وهذا يناقض الفطرة الإجتماعية التي فطر الله عليها كل شعوب العالم ، وأسوق للقاريء الكريم مثلاً واضحاً ينبض بالحياة ، فبعد سقوط النظام الصدامي أسست في كانون الأول 2003 ( مؤسسة رعاية اليتامى في العراق / النجف ) وكنت اتصور أن الحكومة أو المؤسسات الدينية سوف تشد أزري ، وخاصة أن اعداد اليتامى في العراق تجاوز الخمسة ملايين ، لكن الذي فاجأني أن الحكومة كان لها دور سلبي لايمكن توقعه ، فهي أشاحت بوجهها في دعم تلك المؤسسة مع محاولاتي المستمرة ، وعندما عملت على تسجيلها ، بذلت جهودا مظنية بسبب الروتين القاتل من أجل استكمال متطلبات التسجيل ، وعندما سلمتها إلى مجلس المحافظة ، تبين بعد فترة أنهم ( اضاعوها ) ، وهكذا بعد كل ذلك التعب رجعت إلى المربع الأول ، فقررت ترك الأمر إذ لم يعد في وسعي أن أبدأ كل تلك المتاعب من جديد ، ولا أكتمكم سرا إن تلك المعاملة الإدارية والشخصية من قبل الحكومة ادت إلى انحسار عمل المؤسسة وتم شلها ، وهذا ما تسعى إليه الأحزاب الحاكمة مع المخلصين المستقلين من أبناء الشعب .
وعندما أوقفت قطعة الأرض التي امتلكها في حي الغري ( 400 متر مربع ) في محافظة النجف الأشرف لبناء مجمع الإمام زين العابدين الثقافي ، شعورا مني بالمسؤولية في المشاركة في الإصلاح ، مع أني لا أمتلك دارا واسكن في شقة مساحتها 75 مترا فقط ، تقدمت بطلب ( لديوان الوقف الشيعي ) لبنائها وحسب قوانين الوقف ، لا أريد أن اتطرق لكل المعاناة التي واجهتها لأنني ومن أجل بيان كل ذلك بحاجة إلى عشرات الصفحات لتغطيتها ، لكني اذكر ذلك باختصار حيث أني في بداية الأمر ومن أجل أن ترضَى شعبة الصيانة ومدير الديوان في النجف ، فإنني صرفت أكثر من سنة في المراجعة والجدال قبل أن اترك لهم أمر التصميم وكما يحلوا لهم ، ويبدو أنهم أُحرجوا فقاموا بتصميم المشروع ، ولما بدأ الشروع في بناء التصاميم على الأرض ، تفاجأت بإنها أقبح تصاميم رأيتها في حياتي ، أما الأخطاء التي تخللتها فإنها تعكس قلة الذوق وغباءا ، فلا لفتة فنية ولا لمسة إبداع ، وتصميم القبة يحاكي تصاميم قبب الأولياء التي كان أجدادنا يشيدونها في أوائل القرن الماضي ، والطامة الكبرى أن فترة تنفيذ العقد مع الشركة المنفذه هو 300 يوم ، بينما مر على بدأ العمل بالمشروع ولحد كتابة هذا المقال 800 يوما ولم ينته العمل بعد ، أما اسلوب التعامل الذي واجهته من قبل مدير ديوان الوقف في النجف ومهندسيه ، فهو يدعو إلى الكثير من الغرابة ، فهم يتعاملون مع صاحب المشروع الإسلامي والإنساني وكأنه عدوا لدود ، إنه تعامل لئيم غريب خشن ، ولطالما يردد مدير الديوان دون خجل أمامي وأنا أبين له بعض الأخطاء في التعامل أو البناء ( مو زين بنينالك المجمع ؟ ) ، تصوروا ما يعتقده هذا الرجل أنه هو وأمثاله صاحب ( الجميل والفضل ) على العامل الذي ضحى بماله وجهده وصحته من أجل الصالح العام ، ناسيا أو متناسيا الراتب الكبير الذي يتقاضاه والامتيازات الأخرى التي ترافق جلوسه على كرسي ذلك المنصب . أقسم بالله العظيم أني ومن فرط ما عانيت من ألم من قبل مدير ديوان الوقف في النجف ومن كذب وتحايل مهندسيه في الدائرة تمنيت لو أني لم اقدم على هذا المشروع إطلاقا ً ، وللعلم ما زلت أعاني ولم أدر فيما إذا كانت مديرية ديوان الوقف في النجف سوف تكمل المشروع أم لا .
ولطالما وأنا أراجع الدائرة لمتابعة المشروع أرى الضيق والامتعاض والألم في وجوه المراجعين ، مما يدل على أن ثمة نظام متخلف غير إخلاقي هو السائد في إدارة دوائر الدولة ، والذي يثير القلق أن الوقف الشيعي دائرة تحسب على الدين والمذهب ، وينبغي أن تكون الشفافية والإخلاص والصدق والتفاني هي السائدة في التعامل مع المشاريع ومع أصحابها ، لكننا نجد عكس ذلك تماما ، وهذا مؤشر خطير على انتكاس المنظومة الأخلاقية في العراق .
ويذكرني هذا الأمر بحديث مع المفتش العام لديوان الوقف الشيعي في بغداد في أوائل سنة 2010 أي بداية العمل بمجمع الإمام زين العابدين الثقافي ، لقد أمضيت مع المفتش العام أكثر من ساعة وهو يحدثني عن الفساد المالي لأموال الروضة الكاظمية . وهذا يعني أن القوم يدخلون أياديهم حتى في جيوب الله  ويسرقون دون وازع من خوف أو تقوى ، هذا ما يحصل في دوائر طابعها العام ديني ، ماذا يحصل في الدوائر الأخرى التي يغلب عليها الطابع المادي ، أنها بلا شك تعيش كوارث أخلاقية بأنواع شتى .
لقد أمضيت في المملكة المتحدة وحدها أكثر من عشرين عاما ، وخلال تلك الفترة تكونت لدي فكرة واضحة عن أداء دوائرها الرسمية ، واسلوب تعامل الموظفين فيها مع المواطن ، فإضافة إلى التنظيم الحضاري في آلية التعامل الفني ، فإنك تجد شفافية ورقي إخلاقي في تعامل الموظف مع االمواطن ، إن الدولة وقبل أن تسلم الموظف مهامه ، عليه أن يمتلك شهادة في العلاقات العامة ، فالدولة يهمها أولاً أن تحافظ على كرامة المواطن وهو يدخل في دوائرها ، تريد للموظف أن يدرك حقيقة وعليه أن يؤمن بها وهي أن وجوده في هذه الدائرة هو بالدرجة الأولى لخدمة المواطن وإنجاز مصالحه ، وتريد للمواطن أن يشعر أنه صاحب الحق على الدائرة في أنجاز مصالحه ، ولطالما رأيت بعض المواطنين يتجاوزون في ألفاظهم على الموظف ، فيلتزم الأخير بالصمت ، وإذا أراد أن يرد فإنه يرد بلغة مؤدبة ليقنع المواطن بصحة موقفه ، وهذا عكس ما يحصل تماما في دوائرنا ، وقد سقت لكم مثلاً واضحا في تعامل مدير دائرة الوقف الشيعي في النجف ، وهذا السلوك الذي يرفضه الدين والعقل والوجدان الإنساني هو ليس متوفر في دائرة الوقف الشيعي في النجف وحسب وأنما يكاد أن يشكل ثقافة سائدة راسخة في أغلب دوائر الدولة في العراق .
حكومات ودوائر الشعوب السليمة غير المريضة تنمي لدى مواطنيها حب الخير وخدمة المجتمع  ، وإذا ما وجدت أحداً يبادر إلى ذلك الخير بماله أو جهده أو فكره ، باركت له مساعيه ماديا ومعنويا و احتضنته وهيأت له ظروف الاستمرار في ذلك العمل التطوعي ، ولذلك فإن من أكبر الأسباب التي أدت إلى تطور تلك المجتمعات ، هو الأعمال التطوعية التي تقوم بها الأفراد والمؤسسات الخيرية ، ونحن في العراق نجد عكس ذلك تماما ، فإن العامل المتطوع يشعر بالغربة وبمجاهدة دوائر الدولة وموظفيها له ، بل وحتى مجتمعنا وأغلب مؤسساتنا الدينية – ولي في ذلك تجارب وأمثلة كثيرة – فإنها تشعر بالضيق أو الحسد في بعض الأحيان من الكفوء العامل المتطوع ، وتنظر إليه في أحيان أخرى نظرة استغراب وكأنها غير مقتنعة من أن هناك من هو مستعد للتضحية بماله وجهده وفكره من أجل المجتمع ، وأكيد ثمة اسباب موضوعية لمثل تلك المواقف لايسع ضيق المقال التطرق إليها .
 وإذا أردنا أن نناقش الأسباب التي أدت إلى ترسيخ هذه الأخلاق الخطيرة العابثة في مجتمعنا ، فسوف نجد أنها بسبب تخلف مؤسساتنا الدينية والحزب الحاكم والرموز السياسية التي فرضت نفسها عن طريق (ديمقراطية عمياء عرجاء ومشوهة ) ، فهذه الرموز لاتمتلك مشروعا إصلاحيا للخراب الذي ورثته عن النظام السابق ، ولا تمتلك نفوسا ترحب بمشاريع الإصلاح ، فالجميع يتعامل مع الواقع المتخلف بارتجالية خالصة ، فهم لا يمتلكون أصلاً أي فكرة عن كيفية الشروع في إصلاح ما خربه ( الدهر ) ، ولعل خطورة هذا الأمر هو أن الفساد يؤدي إلى فساد أكبر كداء ( السرطان ) يتسع إذا لم يُستأصل ، كذلك هو الفساد يتسع إذا لم يكن هناك مشروع أو برنامج يعمل على معالجته والحد من انتشاره ، وهذه سنة كونية كما هو الإصلاح ينمو مع وجود مصلحين ومشاريع تعززه في المجتمع ، ونعتقد أن غياب المشاريع الإصلاحية سواء من قبل الحكومة أو المؤسسات الدينية هو الذي يعمل على تفاقم المشكلة التي يأن منها المجتمع وسوف يزداد أنينه إذا ما بقينا على هذا الحال ، ففشل دوائرنا في أدائها وغياب التعامل الخلقي والإخلاص لدى موظفيها يشكل حلقة صدئة مسمومة ضمن سلسلة الفشل التي تلتف حول عنق الشعب العراقي وتزداد ضيقا يوما بعد يوم ، سلسلة الفشل التي تبدأ حلقاتها بالفساد الإداري وسرقة المال العام والتخلف في الزراعة والصناعة  والتجارة بل وفي كل نواح الحياة المختلفة التي تهم الحياة اليومية لأبناء هذا الشعب ، بل إن الرموز الحاكمة فشلت حتى في إقامة علاقات متوازنة مع بعضها ، فضلاً عن علاقتها المتأزمة مع  مواطنيها ، وهذا مؤشر خطير على أن غياب المنظومة الأخلاقية اتخذ طابعا شموليا ، إلى الدرجة التي أصبح معه المجتمع العراقي اشبه بالجسم الذي يعاني من مرض أميبيا مزمن .
يؤاخذني بعض الأخوة وهم يقرأون كتاباتي عن غياب منظومة القيم في مجتمعنا ، فيتهمونني بالتشاؤم ، فيما أنا أعرض الواقع الذي نعيشه كما هو ، وأنا إذ اتنقل في دهاليز التخلف التي تملأ عراقنا الحبيب ، أفتش عن مخرج يقودني إلى حياة تنعم بها الشعوب من حولنا ، مع أنها لاتمتلك ما نملكه من ثروات أنعم الله بها علينا ، أنا أكتب بهذه الصورة اعتقادا مني من أن ما أكتبه سوف يكون حافزا للمخلصين في أن يفتشوا معي عن مخرج للمأساة الأخلاقية التي نعيشها ، ويبحثوا في تجارب الشعوب الأخرى التي سبقتنا في الرقي  على الأقل ، بعد أن ثبت أننا لم نمتلك تجربة خاصة بنا ، أريد من خلال ذلك أن نخرج المتنعمين من قمقم الدنيا إلى فضاء التفكير بآلام الآخرين ، وخاصة أن أكثرهم ممن يتشدقون بالإيمان والتدين وحب أهل البيت والتمسك بسيرتهم ، فهل نستطيع إصلاح ضمائرهم وتذكيرهم بأن ثمة خالق لديه نار أعدها للمتجاوزين على حقوق الآخرين ، نحن أمة لطالما نفتخر بتاريخنا وبحضارة عمرها 7 آلاف سنة ، لكننا عجزنا في عصر الرحلات إلى المريخ من أن نوفر لمرضانا وأطفالنا الكهرباء في قيض ترتفع حراته إلى أكثر من 50 درجة ، سؤال أريد أن يشاركني في الإجابة عليه المخلصون القلائل في هذا البلد ، من هو المسؤول عن هذا التخلف ؟ علينا أن نقتلعه بأي ثمن ، وعندما ننجح في ذلك ، عندها يحق لنا أن نعيش ، وإلا فنحن أمة لاتستحق الحياة .
للموضوع تتمة إنشاء الله