الخرِّيجون بين فلسفة التعليم وإشكاليَّـة التعيين
د.حسن الياسري
بغداد 28 تموز 2019

لا خلافَ أنّ من مسؤوليات الدولة المهمة توفير فرص العمل لجميع المواطنين، سواءٌ على مستوى العمل في القطاع العام – الحكومي – أو الخاص ، وبما بتناسب مع قدراتهم ومؤهلاتهم ، وتلك قاعدةٌ عامةٌ لا مناص منها، وقد كفلها الدستور .
التجارب الدولية في توظيف الخرِّيجين:
وبحسب التجارب الدولية فإنّ الدولة تجنح لتشجيع القطاع الخاص وتنميته؛ بغية استيعاب الأيدي العاملة والقضاء على ظاهرة البطالة، ولا يكاد التوظيف الحكومي يمثل عبئاً على الدولة؛ كونه لا يُغطِّي سوى القلة القليلة من الأيدي العاملة . ومن جهةٍ أخرى يمثل القطاع الخاص في تلك الدول عنصر جذبٍ أكثر من القطاع العام لأسبابٍ عديدةٍ ؛ لعلّ من أبرزها الأجور المرتفعة مقارنةً بالقطاع العام، فضلاً عن توفير الضمان الصحي والضمان الاجتماعي، بيد أنّ هذا الواقع معكوسٌ البتة في العراق، فالقطاع الخاص لا يمثل أيَّ عنصر جذبٍ، بل هو طاردٌ للأيدي العاملة لأسبابٍ عديدةٍ ؛ من أبرزها قلة أجوره، وعدم تغطيته بالضمان الاجتماعي وحقوق التقاعد، بل قد يكون موضوع التقاعد هو السبب الرئيس في عزوف الخريجين عن العمل في القطاع الخاص، واضطرارهم للتهافت على مؤسَّسات الدولة للحصول على فرصة تعيين !!

ومن المعروف أنّ جامعاتنا – الحكومية والأهلية – تخرِّجُ سنوياً الآلاف من الخرِّيجين، دون أنْ يكون ثمة تخطيطٌ علميٌّ دقيقٌ لهذه الأعداد بما يوائم بين عددهم من جهةٍ واحتياجات السوق – التعيين – من جهةٍ أخرى، بخلاف ما عليه الحال في الدول الأخرى التي تهتم باحتياجات السوق؛ إذ قد تضطر المؤسَّسة التعليميَّة في تلك الدول إلى فتح اختصاصاتٍ جديدةٍ غير موجودةٍ سابقاً في حالة طروء حاجة السوق، وبالاتجاه ذاته قد تضطر إلى غلق بعض الاختصاصات التي تنتفي حاجة السوق إليها !!

هل التعليم للتعليم أو للتعيين (فلسفة التعليم) :
ويبدو لي من خلال المتابعة أنّ الفلسفة التي يعتنقها التعليم العالي في العراق بعد عام 2003 تتمثل بفتح الباب على مصراعيه أمام القبول في الجامعات – ولا سيما الأهليَّـة منها – دون نظرٍ لاحتياجات الدولة والسوق من الاختصاصات العلميَّة والإنسانيَّة؛ بناءً على أنّ الغاية من التعليم ، بحسب هذه الفلسفة ، تعليم الأفراد وإكسابهم المهارات، وليس بالضرورة توظيفهم في وظيفةٍ حكوميةٍ بعد التخرُّج ..

ولا يخفى أنَّ هذه الفلسفة هي الشائعة في دول العالم، ولكن بقدرٍ مقدورٍ، وبالشروط المذكورة قبل قليلٍ، وليس بالكيفيَّـة التي في العراق التي تعاني التضخُّم في أعداد الخرِّيجين بلا تخطيطٍ ولا استيعابٍ لهم !!
وتكمن المشكلة في هذه الفلسفة – التعليم للتعليم لا للتعيين – أنَّ الذين استطاعوا فهمها في العراق ليسوا سوى فئةٍ قليلةٍ من المُتخصِّصين، أما البقية الذين يمثلون الكثرة الكاثرة – من مختلف الشرائح والطبقات بما فيهم أساتذة الجامعات وطلبتها – فإنهم لم يدركوا كنهها، وما زالوا يعتقدون أنَّ الغاية من هذا التعليم هو التعيين والتوظيف في الوظائف الحكوميَّة، وبنوا على ذلك أسساً تتمثل بجرم الدولة وخطئها في حالة عدم توظيف أيِّ خريجٍ في وظيفةٍ حكوميَّـةٍ !!!
وبناءً على ذلك أكاد أجزم أنَّ وزارة التعليم العالي ومنذ عام 2003 لم تُوفَّق في إيصال هذه الفلسفة والرسالة إلى الخرِّيجين خصوصاً وسائر العراقيين عموماً؛ الأمر الذي حوَّلَ التعليم من كونه فرصةً للأفراد للرقي والثقافة والتعليم إلى مشكلةٍ تنوء بثقلها الدولة كلما تخرَّج طالبٌ ولم يُوظّف في إحدى مُؤسَّساتها !!!

والدليل على هذا الكلام أنَّ الخرِّيج – ومهما كانت شهادته وكفايته ودرجاته وكيفيَّة تخرُّجه – عندما لا يُوفَّقُ في التوظيف الحكوميِّ ويضطر للعمل في القطاع الخاصِّ بأيِّ عملٍ، فإنّ الجميع يعتقد أنّ الدولة قد أجرمت، وكأنَّ الخرِّيج وصاحب الشهادة لا يجوز أنْ يعمل إلاّ في الوظائف الحكوميَّة، وأنه إذا عمل عملاً في القطاع الخاص فقد تحوَّل إلى فرصةٍ للتندُّر على الدولة، ومادةً تتغنَّى بها الفضائيَّات ووسائل الإعلام المُختلفة !!! وكأنَّ هذه الفعاليات تروم ترسيخ فكرةٍ في الأذهان – وهي غير صحيحةٍ – مفادها أنّ الأعمال الكثيرة والمُتعدِّدة في المجتمع التي يقوم بها القطاع الخاصُّ هي لغير المُتعلِّمين فقط، وينبغي أنْ لا يقربها المُتعلم والخرِّيج وإلا أصبحت سُبّةً عليه !!!
في حين إنَّ الذي يُحرِّك المجتمع – أيَّ مجتمعٍ – هم هؤلاء العاملون في القطاع الخاصِّ، كما أنَّ عباقرة العالم ومَن خدموا البشريَّـة هم في الواقع مَن يديرون هذا القطاع بمختلف منافذه، ولا تكاد تجد هؤلاء العباقرة في الوظائف الحكوميَّـة، بل في الأعمال الخاصَّة !!!
ولا تفوتنا الإشارة إلى أنَّ التأريخ يخبرنا أنَّ الأنبياء والأئمة والمُثقفين والأدباء والمُفكِّرين قد عملوا بالأعمال الخاصَّة، مهما صغر شأنها، ما دامت شريفةً؛ فاليد العاملة الشريفة يدٌ يحبها الله ورسوله، وقد كانت جديرةً بأنْ تنال تقدير الرسول الأعظم (ص).
مقترحاتنا لمعالجة المشكلة:
وتأسيساً على ما قد سلف؛ أتقدَّم بالمقترحات الآتية، واضعاً إياها بين يدي المعنيِّين، تنفيذيِّين وتشريعيِّين:
1- قيام الحكومة عموماً ووزارة التعليم العالي والبحث العلميِّ على وجه الخصوص، عبر التنسيق مع الفعاليات الإعلاميَّة والمجتمعيَّة المُختلفة بتعزيز ثقافةٍ مُجتمعيَّةٍ قائمةٍ على نشر فلسفة التعليم التي تؤمن بها، المتمثلة بأنَّ (التعليم للتعليم لا للتعيين أساساً)، مع حرص الحكومة على ضرورة استيعاب الخرِّيجين كلما وجدت إلى ذلك سبيلاً، وإيجاد فرص العمل المناسبة لهم ولاختصاصاتهم، سواء في القطاع الحكوميِّ أو الخاصِّ، والتركيز على منح الأولويَّـة للكفاءات والمُتميِّزين منهم، فهؤلاء قد ظُلِموا ولم يُراعَ تميُّزهم، ما أفضى إلى إصابتهم بالإحباط .
2- شمول جميع العاملين في القطاع الخاصِّ، من الخرِّيجين وغيرهم، بحقوق التقاعد. وبهذه المناسبة أُجدِّدُ الدعوة إلى ما كنتُ طرحته في عام 2016 في رؤية مكافحة الفساد التي أرسلناها إلى رئاسة الوزراء والبرلمان، التي ورد فيها الآتي :
دعوة مجلس النواب لإحداث تدخُّـلٍ تشريعيٍّ يكفل حقَّ التقاعد للعاملين في القطاع الخاصِّ؛ عبر فتح ملفاتٍ تقاعديَّةٍ لكلِّ مواطنٍ بلغ سنَّ الخامسة والعشرين عاماً، في هيأة التقاعد الوطنيَّة، مقابل استقطاعاتٍ شهريَّةٍ مُحدَّدةٍ ، وتوضع هذه الاستقطاعات في صندوقٍ استثماريٍّ خاصٍّ يكفل استثمار الأموال المُتراكمة .
3- تفعيل ما ورد في المادَّة (25) من الدستور بشأن إصلاح الاقتصاد العراقيِّ على وفق أسسٍ اقتصاديَّةٍ حديثةٍ، وبما يضمن استثمار موارده كافةً، وتنويع مصادره . إذْ لم يتم تفعيل هذا النصِّ لغاية الآن، وآية ذلك أنَّ معالم الاقتصاد العراقيِّ ما زالت غير معروفةٍ وغير مُستقرةٍ !!
4- الاهتمام بالقطاع الخاصِّ وتشجيعه وتنميته؛ إذعاناً لحكم الدستور من جهةٍ، ووفاءً من الدولة بمسؤولياتها إزاء المواطنين من جهةٍ ثانيةٍ، واستيعاباً لمزيدٍ من الأيدي العاملة من الخرِّيجين؛ بغية التخلُّص من البطالة المُقنَّعة التي يعاني منها القطاع العام من جهةٍ ثالثةٍ !!
ويجدر التنويه في هذا الصدد إلى ضرورة تحديد معالم القطاع الخاصِّ، وضرورة التزامه بالقانون والأنظمة والتعليمات ومبادئ النزاهة، وأنْ لا يكون مُتحلّلاً من كلِّ التزامٍ قانونيٍّ، ولا سبيلاً من سبل الفساد والإفساد، كما هو شائعٌ لدى البعض، مِن الذين يعتقدون أنَّ العمل في القطاع الخاصِّ يجعل كلَّ شيءٍ مُباحاً، بما في ذلك سلوك طرق الفساد، وكأنهم يفتون أنَّ الفساد مُحرَّمٌ على العاملين في القطاع العامِّ، ومباحٌ للعاملين في القطاع الخاصِّ. ولقد أثبتت التجربة الميدانيَّـة لدينا أنَّ فئةً كبيرةً من ملاكات القطاع العامِّ قد فسدت؛ بسبب إغراءات العاملين في القطاع الخاصِّ، إذ عادةً ما يكون أول ما يفكر فيه المقاول – مثلاً – هو تسيير المعاملة بأيـَّة صورةٍ، ولو اقتضى الأمر مخالفة القانون وتقديم الرشا؛ ولهذا تهتمُّ الدول المُتقدِّمة بمكافحة الفساد في القطاع الخاصِّ أحياناً بصورةٍ أكبر من مساعيها في مكافحته في القطاع العامِّ . ولا يعني هذا الكلام أنَّنا ننفي مسؤوليَّـة القطاع العامِّ في هذا الصدد !!
5- إتاحة الفرصة لوزارة التعليم العالي والبحث العلميِّ في رسم سياسة التعليم في العراق، وعدم التدخُّل السياسيِّ في شؤون التعليم؛ إذ ليس من مهمَّات البرلمانات في جميع دول العالم التدخُّل؛ لفرض الدور الثالث للطلبة المُكملين مثلاً، أو رفع نسبة القبول، أو زيادة مقاعد كليَّات الطبِّ والدراسات العليا أو أو .. وما الى ذلك من أمورٍ تنفيذيَّـةٍ بحتةٍ لا علاقة لها البتة بالعمل البرلمانيِّ!!
6- الاهتمام بأساتذة الجامعات وإشراكهم في دوراتٍ تدريبيَّـةٍ خارج العراق في مراكز مُتخصِّصةٍ معروفةٍ؛ بغية تطوير مهاراتهم التدريسيَّـة، ووضع معايير موضوعيَّةٍ للتدريسيِّين، ونبذ الصورة النمطيَّة القائمة حالياً على أنَّ كل صاحب شهادةٍ عليا هو أهلٌ أنْ يكون مُدرِّساً وأستاذاً؛ فربَّ مُدرِّسٍ أجهل من طالبه.
7- التمسُّك بالأنظمة والتعليمات الرصينة التي كانت تحكم المُؤسَّسة التعليميَّـة، ونبذ الإجراءات التي أسهمت في تردِّيها، مثل الدور الثالث وما شابه.
8- تشجيع البحث العلميِّ الرصين، ورعاية الباحثين والمُبدعين والنوابغ وذوي الأفكار الخلاقة؛ التزاماً من الدولة حيال علمائها ومُبدعيها، وإعمالاً لحكم الدستور الذي نطق بهذا، ولم يُستَجبْ له !!