في معظم الدول العربية تتصدر المدارس الخاصة حديث المجتمع المخملي وخاصة مدارس اللغات والمدارس الاجنبية والدولية مثل المدرسة الامريكية والمدرسة الانجليزية والفرنسية وصار التنافس على اشده بين تلك المدراس في مستوى الاجر والتعليم والمباني التي تقدمها كل مدرسة للطالب وكذلك بين الاهالي على ايجادافضل مدرسة لتعليم اولادهم بل وصارت المباهاة بين العوائل عن اي مدرسة يتعلم فيها اولادهم وكم يدفعون سنويا حتى اذا كان الطالب من فئة غبي خمسة نجوم.

ولكن في العراق القديم الزاهي كان هناك سيدة لبنانية الاصل زوجة لاستاذ تربوي فاضل اسمه انيس عادل عرفت عراقياباسم مدام عادل واسمها الست ليلى وشقيقتها المربية الفاضلة فيكتوريا هذا الثلاثي التربوي اللامع قام بتأسيس مدرسة اهلية في بغداد عرفت باسم مدرسة عادل الاهلية سنة 1932 ،اتخذت هذه المدرسة من قطعة ارض شاسعة المساحة بحسابات ذلك الزمان تقع في منطقة العلويةالمقابلة تماما لمنطقة بارك السعدون ومقابل كنيسة السبتيين وبالقرب من شارع الزعيم عبد الكريم ( سمي باسمه لانه كان يسكن في بيت متواضع مؤجر من بيوت هيئة الاموال المجمدة يقع في ذلك الشارع) .

هذه المدرسة كانت مكونة من ثلاث بنايات واحدة تحتوي على صفوف وقاعة كبيرة للالعاب مخصصة لصفوف الروضةوالتمهيدي ومكاتب الادارة والمطعم الذي كان يقدم وجبة الغذاء للطلاب وبنايتين اخرى لصفوف المرحلة الابتدائية من الاول الى السادس، وكانت المدرسة تحتوي على حديقة خلابة كبيرة المساحة تحتوي على مسرح صيفي وهناك خلف الحديقة مشتملات لسكن الحراس والعمال والطباخين وكان هناك ايضا قسم داخلي لبعض الطلاب وساحة للرياضة وكان للمدرسة باصات صفراء كبيرةتنقل الطلاب من والى المدرسة في ذلك الزمان.

كانت مديرة المدرسة هي مدام عادل وتساعدها اختها فيكتوريا ولكن لمدام عادل شخصية فريدة ، كانت بكل معنى الكلمةمربية بشخصية المراة الحديدية كانت مرعبة للطلاب وللكادر التدريسي والعاملين في المدرسة على حد سواء ،كان طلاب المدرسة من ابناء خيرة عوائل بغداد واكثرهم شهرة وايضا من اذكياء بغداد لانالمستوى الدراسي كان عالي جدا وكذلك الاجور الدراسية .

هذه المرأة الحديدية جعلت من المدرسة الابتدائية جامعة وليست مدرسة بقوانين عسكرية صارمة ومستوى دراسي عالي جدا حيث كانت تعامل الجميع معاملة واحدة ابن الوزير حاله حال ابن ابسط موظف داخل المدرسة له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات ولا استثناء لاي كان مهما حدث،الدوام يبدأ في تمام الساعة الثامنة صباحا ومن يتأخر دقيقة عليه ان يعود الى البيت فورا فلن يقبل منه اي عذر او تبرير ولن تجدي تشفعات الاهل ،كانت المسطرة التي تحملها مدام عادل من الخشب طولها 50 سم وياويل الطالب المشاكس عندما يقف امامها كان يتمنى ان تنشق الارض وتبلعه بدلا من الوقوف امام تلك المرأة الحديدية .
كانت الكتب المنهجية تستورد بالطائرة من خارج العراق وكان كتاب اللغة الانجليزية للصف الاول الابتدائي في تلك المدرسة هو نفس كتاب طلبة الصف الخامس الابتدائي في المدارس الحكومية ولكم ان تتخيلوا الفارق الكبير في المستوى الدراسي بين طلاب مدرسة مدام عادل وطلاب المدراس الحكومية . وكان اغلب خريجين هذه المدرسة يكملون دراستهم المتوسطة والاعدادية في كلية بغداد في الصليخ لتقارب المستوى العلمي ونظام التدريس والانضباط في كليهما .

كانت مدام عادل تعاقب الطلاب المتراجعين دراسيا والكسالى بدروس اضافية للتقوية بعد الدوام وتمنع الاهل من أصطحاب ابنهم المشاكس او الكسول او المقصر بعد انتهاء الدوام الى البيت الا بعد ان تحجزه لثلاث ساعات يؤدي خلالها مختلف انواع الفرائض والواجبات الاضافية اجباريا بعدالدوام .

كانت تشرف بنفسها على نوعية وكمية ونظافة الطعام الذي يقدم في مطعم المدرسة لجميع الطلاب وكان هناك عاملان لتقديم الطعام واحد اسمه بطرس والاخر اسمه خوشابا،بطرس كان عندما يقدم الفاصوليا اليابسة للطلاب يسكبها سكب بكميات كبيرة فوق صحن الرز ولايجلبها بصحن منفرد مما يجعل خليط الرز والفاصوليا كانه شوربة ومنذ ذلك اليوم صارت عند اغلب الطلاب عقدة من الفاصوليا اليابسة نتيجة عمل بطرس هذا .

في تلك المدرسة كانت الدروس اللامنهجية مثل الرياضة والفن والموسيقى تحضى بنفس الاهمية لدى الادارة والمعلمين وكانت هناك حفلة سنوية فنية للطلاب تقام على حدائق المدرسة ومسرحها الصيفي يقدم من خلالهالطلاب فعالياتهم ومواهبهم الفنية والشعرية والمسرحية والموسيقية امام الاهالي والشخصيات البارزة التي كانت تحضر ذلك الحفل السنوي بصورةدورية وتقدم الهدايا التقديرية والتشجيعية للطلبة المتميزون في تلك الفعاليات .

كانت مدام عادل مربية محنكة بشخصية دكتاتورية صارمه وكانت تعامل ابنتها التي تعمل ادارية بالمدرسة بنفسالصرامة التي تعامل بها المعلمات والعاملات ،كان الطلاب يكرهونها احيانا ولكنهم اليوم يترحمون على ايامها والساعات والسنوات التي قضوها معها واليوم فقط عرفو قيمة افضالها على جميع ممن تخرج من تحت يديها ،هذه المرأة الحديدية خرجت عظماء وعلماء ونوابغ وفنانون و 99 % ممن تخرج من مدرستها احتلوا ارفع وارقى الوظائف والمناصب الادارية والعلمية والفنية في كل انحاء العالم فتجد كل من تخرج من مدرسة عادل الاهلية بارزا وناجحا ومتميزا في مجال عمله اليوم لانه حمل اساسا علميا راسخا قويا منهجيا دوليا فتح له اصعب الطرق والابواب ليدخلهاوهو مسلح بعقلية علمية تجعله يخترق كل الصعوبات وبسهولة تامة، مدام عادل كانت مثل ورائد من رواد التعليم في العراق منذ ذلك الزمان المشرق الزاهي والبهي والذي لن يعود ابدا.

بعد ثورة 1968 كان من اول القرارات التي اتخذت هي الغاء التعليم الخاص وتأميم كل المدراس الخاصة وعندها تركت تلك المربية الفاضلة وعائلتها العراق كله بعد ان صودرت تلك المؤسسة التعليمية الرائعة بكل مبانيها وممتلكاتها لتصبح مدرسة حكومية اسمها (العهدالجديد ) .

رحم الله مدام عادل ان كانت حية ام متوفاة وجزاها الله خير الجزاء على مازرعته داخل عقول اجيال واجيال صارت رمزا ونموذجا رائعا للعراق في العالم اجمع .

قصي الفرضي / العراق بغداد