بقلم: نبيل عودة

ألأسلوب الهمجي في التعامل مع الأقليات المسيحية العربية وغير العربية، ومع اقليات دينية واثنية اخرى في الشرق الأوسط، وصل الى مستويات من المتطرف الديني الارهابي الجنوني لا يمكن استيعابها، هي نتيجة مباشرة أيضا لتراث معظمه مليء بالعنف والكراهية وتاريخ لا شيء فيه الا تفجير اماكن العبادة والقتل والذبح الدموي.
المسيحية الشرقية خسرت من وزنها الديموغرافي، عددهم بتقلص دائم ومتواصل، ليس بسبب العنف والقتل فقط، بل ايضا بسبب الهجرة هربا من الاضطهاد الرسمي، غياب أي حماية من الأنظمة، والعنف الدموي للتطرف الاسلامي، كذلك بحثا عن مستقبل آمن، ولا يمكن تجاهل موضوع التناسل حيث ان عدد الولادات في العائلات المسيحية لا تتجاوز 40% من مثيلتها في العائلات الاسلامية وربما أقل من ذلك أيضا.
يتواصل التعامل مع المسيحيين العرب كجسم غريب، تتواصل الاعتداءات التي لا تصد بما تستحقه من حزم، ما زال الخوف يسيطر على الطوائف العربية المسيحية رغم الأصوات العقلانية، لكن الصوت لا يملك اسنانا وأظافر قادرة على الفعل الدفاعي، هنا لابد من دور فعال وحازم للأنظمة، لكنها عاجزة عن الدفاع عن نفسها أولا.. وربما ترى بالعنف الطائفي حلا للكثير من مشاكلها.
الموضوع ليس جديداً، الاضطهاد الذي يعاني منه مسيحيو الشرق، لا يقع بعيداً عن الواقع الأسود للعالم العربي الذي يدفع ثمنه الجميع، مسلمون ومسيحيون.
حان الوقت لتحرك جديد، لعدم الاستهتار بما تفرزه العقول المريضة تحت غطاء كاذب من الدين والتدين، حتى اسطورة الجنة التي تسحر المتطرفين اصبحت طريقها مفروشة بجماجم المسيحيين والأيزيديين واقليات مختلفة أخرى.
لا شك ان للهوية الدينية مكانها في تشكيل الوعي الوطني والثقافي والأخلاقي، اذا ما أُحسن استعمالها، لكن الظاهرة السائدة في عالمنا العربي في العقود الأخيرة هي ظاهرة مقيتة جداً، مأساوية للجميع، بعيدة عن المنطق السليم، تجعل من الدين رافعة لشق المجتمع العربي وتفريق صفوفه، وذبح كل من لا ينتمي لتنظيمات التطرف حتى لو كان مسلما لا ينتمي لفكرهم الجهادي.
حتى بدون داعش، هناك آلاف الفتاوى التي تحرض على المسيحيين وتدعو لمعاداتهم وعدم المشاركة بأعيادهم ونبذهم وما هبّ ودبّ من أوصاف سوقية تنطلق من رؤوس مريضة وعقليات متخلفة بدائية، لكن للأسف لا أحد يخرسها ويقاضي أصحابها!!
هناك آلاف الخطب الدينية شكلاً والعنصرية مضموناً، يضجّ فيها الفضاء العربي دون رقيب، دون ان تشعل الأضوية الحمراء لما يريد للمجتمعات العربية ان تقبر مستقبلها فيه.
المسيحيون العرب بما فيهم أبناء العراق من المسيحيين (العرب وغير العرب) أفرزت لهم خانة وكأنهم عنصر دخيل على الفسيفساء الاجتماعية للمجتمعات العربية متناسين أنهم كانوا من المحركات الأساسية لتطور الحضارة العربية الإسلامية.
مواد التعليم مليئة بنصوص تعمق ظاهرة العداء والرفض للمختلفين دينيا، بل والتحريض على كل من يدعي انه وطني عربي، لان الوطنية، حسب الفكر الموبوء المريض (الوهابي مثلا- وهو التيار الديني الرسمي في السعودية) هي “ظاهرة صليبية”، او انحراف معاد للإسلام، كما يدعي صغار العقل، متجاهلين ان الاسلام كان يعني انطلاقة للقومية العربية أيضا.
لا يمكن تبرئة الأنظمة العربية، حتى النظام المصري الوطني عامل المسيحيين الأقباط حسب قانون عثماني مضت عليه قرون طويلة، لدرجة ان أي عملية إصلاح بسيطة في كنيسة ما كانت تحتاج الى مصادقة من المحافظ او من رئيس الجمهورية. بعد “الربيع العربي” سمعنا ان النظام طرح “العهدة العمرية” كقاعدة للتعامل مع المسيحيين، ولا اظن ان أي عقلاني يقرأ “العهدة العمرية” سيرى بها حلا يضمن المساواة، انما نهجا لا يمكن التعايش معه. وحتى مجرد التأكيد ان الشريعة الاسلامية هي في صلب الدستور، في دول متعددة الديانات والثقافات هو ابقاء الواقع السيء للأقليات الدينية رهنا لتصرفات السلطة والحركات المتطرفة.
المسيحيون في فلسطين كانوا يشكلون 17% من مجمل المواطنين، تعدادهم اليوم لا يتجاوز 1.5% – 2%. في القدس كان عددهم 50% عام 1920 اليوم لا يتجاوز عددهم 5% من مجمل السكان العرب في القدس وربما أقل!!
عائلات مسيحية كثيرة هاجرت من غزة في فترة الاحتلال الاسرائيلي، وفي فترة عرفات أيضا، نتيجة المضايقات والملاحقات الدينية من المتطرفين الاسلاميين، مما اضطر النساء المسيحيات الى التحجب، وبالتالي هجرة واسعة للعائلات المسيحية.
رغم ذلك، ما زلنا نسمع ونشاهد ما يثير قلقنا وامتعاضنا.
عندما نعبر في الشارع الرئيسي في الناصرة، ونقرأ: “الله مولانا ولا مولى لهم”، وشعارات تحريضية اخرى يقصد بها المختلفين دينا، فمن تخدم هذا الشعارات؟ حتى اسرائيل الديمقراطية وقوانينها المتشددة ضد العنصرية، تنفع في الحالة اليهودية فقط، وليس في مدينة الناصرة او الوسط العربي.
هذا الواقع اثار انتباه شرفاء عرب كثيرين، وكتبت مقالات هامة منصفة تنبه الى الازمة التي يعيشها المسيحيين العرب وتردي اوضاعهم.
هذا ليس جديدا. دائما وقف الكثيرين من العقلاء العرب ، مسلمين خاصة… ضد التطرف الديني الذي يدفع المسيحيين للهجرة.
ما زلت احتفظ بمقال نشره الأمير السعودي طلال بن عبد العزيز في صحيفة النهار اللبنانية(29 كانون الثاني 2002)، تحت عنوان “بقاء المسيحيين العرب” كتب:” ان ما يحدث للمسيحيين العرب نتاج بيئة تفترش التعصب والتطرف وبالتالي العنف المؤدي الى كوارث تاريخية والأهم من ذلك كله فكرة الغاء الآخر، وان بقاؤهم ترسيخ للدولة العصرية وللتنوع الثقافي وللتعددية وللديمقراطية ولمنع استنزاف الطاقات العلمية والثقافية من منطقتنا، وهجرتهم ضربة عميقة توجه الى صميم مستقبلنا”.
اضاف:” في عصر النهضة الممتد طوال القرنين التاسع عشر والعشرين لم يغب العرب المسيحيون عن دورهم في إعادة إحياء معالم العروبة ومضمونها الحضاري الجامع والمنفتح على الحضارات الأخرى الناهضة في مرحلة التراجع العربي”.
واختتم مقاله بنداء:” إن هجرة العرب المسيحيين في حال استمرارها هو ضربة عميقة توجه إلى صميم مستقبلنا. مهمتنا العاجلة منع هذه الهجرة، ترسيخ بقاء هذه الفئة العربية في شرقنا الواحد، والتطلع إلى هجرة معاكسة اذا أمكن”.
هذا كتب قبل حقبة الدواعش.. لكن الوهابية لا تقل بعقليتها عن الفكر الداعشي، وهي في جذور كل التطرف الاسلامي بدءا من القاعدة وصولا الى داعش ومختلف التيارات الجهادية.
الواقع اليوم رهيب من جميع النواحي، اولا ضد الأقلية المسيحية، ثانيا ضد قوى اسلامية لا تقبل الفكر الداعشي الإجرامي، وثالثا ضد المستقبل العربي وتطوره.
الصحفي المصري محمد حسنين هيكل كتب أيضا في وقته: “أشعر ، ولا بد ان غيري يشعرون، ان المشهد العربي كله سوف يختلف حضاريا وإنسانيا وسوف يصبح على وجه التأكيد أكثر فقرا وأقل ثراء لو ان ما يجري الآن من هجرة مسيحيي المشرق ترك أمره للتجاهل او التغافل او للمخاوف. أي خسارة لو أحس مسيحيو المشرق انه لا مستقبل لهم او لأولادهم فيه، ثم بقي الإسلام وحيدا في المشرق لا يؤنس وحدته غير وجود اليهودية – بالتحديد أمامه في اسرائيل”.
المفكر المصري جلال امين كتب “ان تحرير الأقباط هو شرط ضروري لتحرير المسلمين”
وطارق حجي كتب:” الأقليات في الشرق الأوسط هي الموصل لعدوى التقدم والتحديث والسير مستقبلا”.
اليوم مع انتشار وباء الداعشية وسكاكين الذبح ، تبدو الصورة قاتمة مليون مرة أكثر من العقدين السابقين، عالم عربي يتراجع مئات السنين، هذا ضمن أهداف الحركة الصهيونية أيضا، ابقاء العالم العربي في الحضيض. مجتمع مريض متنازع يذبح بعضه بعضا.
كان رواد القومية العربية من المسيحيين متأثرين من شعارات الثورة الفرنسية. وكانوا على قناعة انه يجب التفتيش عن أرضية مشتركة يقف عليها المسلمون والمسيحيون، من هنا أوجدوا فكرة القومية العربية، فيما بعد أخذت العروبة فكرة القومية بعد أن كانت أرضية ثقافية فقط.
المسلمون العرب الأوائل لم يطرحوا استقلال البلاد العربية عن الدولة العثمانية بل حكماً ذاتياً، في حين أصر المسيحيون على الاستقلال الكامل.
ما اصروا عليه تحول الى سيف مسلط على رقابهم!!
nabiloudeh@gmail.com