محنة الفكر الأنسانيّ – ألحلقة الثانية
ألفكر .. هو الأصل ألمُميّز و الحقيقيّ لوجود الأنسان كما برهنّا في الحلقة الأولى؛ وقد مرَّ بمراحل مختلفة, وعانى الكثير .. الكثير على يد الفلاسفة و المدّعين للدِّين, لأسباب جوهريّة تتعلق بآلأخلاق و مضاداته, حين حاولوا وضع قوانين ضابطة له بعكس مراد الباري الذي أطلق العنان بل و حث على تفعيله لأقصى ما يمكن عبر كل المديات, و في هذه الحلقة سنشير لحقيقة ما زالت غامضة على أكثر البشر بما فيهم المعتنقين للإسلام ومرجعيته في مختلف الأديان.
يُعتبر (ديفيد هيوم) و (رينيه ديكارت) و (إيمانوئيل كانت) أعمدة ألنّهضة الغربيّة ألحديثة ألتي بدأت منذ آلقرون الوسطى عبر ثلاثة مراحل(1) لتحقيق آلجّانب ألمدنيّ و آلحضاري بعد ثورة (ألرّينوسانس) ورغم إعتقاد الناس بخلاصهم من ظلم الكنسيّة مع آلنظام الملكي أو آلثيوقراطي؛ إلّا أنّ وقوعهم أليوم أسرى بيد (ألمنظمة الأقتصادية العالمية) رويداً رويداً بسبب فخّ ألدّيمقراطيّة ألمُستهدفة لأنتخاب حكومات تديرها الأحزاب ألمُوالية لتحقيق أهدافهم؛ تكشف حقيقة ألمظالم ألتي لم ينتبه لها آلنّاس حتى يومنا هذا بسبب ألجهل و ألفراغ الفكريّ الذي تركه الفلاسفة أنفسهم في مسألة تطبيقات فلسفة ألقيم و الكرامة الأنسانية, حين ركّزوا على آلجّانب ألماديّ خارج مدار ألدِّين – ألعرفانيّ لا التقليدي .. ألّذي إعتبروه بآلخطأ سبَبَاً للتّخلف و العبودية بسبب تسلط ألكنسية و آلفؤداليست ثمّ البرجوازية إبان القرون الوسطى, لذلك كان سقوطهم في أحضان ألمنظمة الأقتصاديّة ألعالمية اليوم مسألة طبيعية وحتميّة .. أكثر بؤساً وخطراً مِمّا كانَ عليه الوضع من قبل لسوء إستخدام التكنولوجيا والحروب والمال سندأً لمصالحهم الأقتصاديّة على حساب أخلاق وحقوق الناس!

و رغم إعتراف (كانت) علناً بقوله؛ [أنّ (هيوم) صاحب نظريّة (الشّك) قد أيقضني من سباتي]؛ إلّا أنّ (كانت) يُعتبر بنظري رائد ألنهضة الأوربيّة بلا منازع بإستثناء فشله و أقرانه عبر جميع المراحل في طرح نظريّة كونيّة شاملة تدرأ هيمنة الأغنياء على منابع الطاقة وتُحقّق الهدف من وجود الأنسان لأسباب زمكانية وعقائدية, و ربّما كانت مشيئة الله لجعلها بإسمي بعد مرور 5 قرون على تلك الأطروحات الفلسفيّة ألأحاديّة ألجانب الممتدة بجذورها عبر العصور ألفلسفيّة السّتة(2) حتى إعلان فلسفتنا مع بدء الألفية الثالثة, لكن آلأجمل الذي كشفهُ (كانت) في فلسفته, هو إعتقاده بأنّ [المعرفة نتاج ألعلاقة بين آلذّهن و آلأحساس في زمكاني مُعَيَّن] مختلفاً مع الفلاسفة الأسلاميين سيّما المُلا صدرا ألذي تأثّر بإبن عربي – لذلك إتّخذتْ فلسفتهِ – أي كانت – من (آلعقل و آلأدراك) أصلاً لكلّ الفلسفة على مذهب (هيوم) و حاول تطبيق الأشياء عليها و ليس ألعكس كما إدّعى آلفلاسفة من قبله, و بذلك أبْطَلَ آلبراهين ألتقليديّة ألتي ما زالَ بعض ألعُلماء يعتقدون بها, مُعتبراً كُلّ الأدلة ألواردة حول إثبات (الله) ليست تامّة و ليست حُجّة, و من آلمستحيل (إثبات أصل ألذات – ألدّليل ألوجوديّ – ألذّهنيّ أو بقاء النفس أو الأختيار) عن طريق الأستدلال ألعقليّ, لذا حين لا يكون آلذّهن و آلوجود دليل كافٍ على الله, فلا بُدّ من وجود دليل ثالث عمليّ و هو الأخلاق!
فما هي آلأخلاق ألتي تكون مُقدّمة للتّدين ولوجود الله؟
بإختصار شديد؛ هي (قتل الذّات) و آلتّحليّ بآلفضائل ألحسنة – بعد آلتّجرّد من آلخبائث و آلتّحلي بآلطيّبات – حتى مكارم الأخلاق لنكون مُتديّنيّن و مؤهلين للبدء بآلأسفار الكونية السبعة(3), و هذا يعني بطلان إدّعاء ألدِّين مِنْ أيِّ كان حتى لو كان عالماً أو حزباً دينيّاُ أو شعباً و حتى أمة وهي لم تُهذّب أخلاقها و سيرتها بتطهير ذاتها من آلنّفاق و آلكذب و آلنّميمة و آلفساد و آلتكبر, وبآلتّالي وبحسب نظر هذا آلفيلسوف ألكبير يُعتبر كلّ مُتديّن لم يُزكيّ نفسه ولم يعرف حدودهُ و سبب خلقه و روح رسالته ألسّماويّة – كلّ ألرّسالات – خارج عن ألتّديّن وآلدِّين مهما إدّعى وقال!
و مُجمل هذه الفلسفة تتوافق مع آلنّبأ العظيم على لسان الخاتم(ص)؛ [إنّما بُعثّتُ لأتمّمَ مكارم الأخلاق] و [إنّما الدّين ألمعاملة] و في كل شيئ؛ في العائلة و المجتمع و الأقتصاد و السياسة و الأقتصاد والتربية وغيرها!
هكذا إعتقدَ (كانت) بأنّ الأخلاق(4) هي آلتي تصنع ألدِّين, و آلعقل ألعمليّ(5) هي آلتي تصنع ألأخلاق و التي بها يكون الله موجوداً في الأرض أو أيّ كوكب آخر من خلال الملتزمين بها!

خلاصة نظريّة هذا الفيلسوف هي: [بدون إعْمالِ ألأخلاق في آلحياة يغدو كلّ ما يتظاهر به و يدّعيه أو يُمارسه الأنسان من طقوس في مرضاة الرّب زَعْمَاً دينيّاً و عبوديّةً كاذبة و مُفتعلة], و هذا هو حال ألمُدّعين أليوم للأسف, لهذا لا مستقبل لشعوبنا بدونها.
ألفيلسوف الكونيّ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لمعرفة التفاصيل راجع الحلقة 3 من[فلسفة الفلسفة الكونية].
(2) لمعرفة ألتفاصيل راجع ألحلقة 3 من[فلسفة الفلسفة آلكونيّة].
(3) الأسفار الكونية السبعة و تبدأ بـ: ألطلب – العشق – المعرفة – التوحيد – الأستغناء – الحيرة – الفقر و الفناء.
(4) ألأخلاق؛ هي دراسة معياريّة للخير والشّر تهتمّ بالقيم المُثلى، وتصلُ بالإنسان إلى الارتقاء عن السّلوك الغريزي بمحض إرادته ألحرّة؛ بعكس ألّذين قالوا؛ بأنّ الأخلاق ترتبط بما يُحدّدهُ ويفرضهُ الآخرون كعرف أو قانون، و ترى أنّها تخصّ الإنسان وحده، ومصدرها ذاته (ضميره) ووعيه, و يعتقد أفلاطون بأنّ الأخلاق تتمثّل في كبح شهوات الإنسان، والتّسامي فوق مطالب الجسد بالالتفات إلى النفس والرّوح وتوجيههما لتحصيل الخير و المعرفة و محاربة الجهل والأمية الفكرية, أمّا (آلأخلاق) بنظر الأنبياء و أئمة المسلمين(ع) فإنّها تتغذى من القوة الغيبية التي تُوجه عقل وروح الأنسان لأن تحفظ في النهاية الكرامة الأنسانية من خلال القول والفعل والنيّة, ولهذا يمكن إعتبار تعريف (أفلاطون) ثمّ (كانت) و (شوبنهاور) و غيرهم مع أقرانهم الأسلاميين: بأنها زبدة وروح ما جاء به ألعرفاء والأئمة والأنبياء وهي (إتمام مكارم الأخلاق) بحسب النص مع فاصل الزمن بين الفئتين.
(5) العقل النظري والعقل العملي، مصطلحان يجري استخدامهما في بعض العلوم؛ فالعقل العمليّ في اصطلاح المناطقة هو المعبَّر عنه (بالحسن والقبح) عند المتكلّمين، والمعبَّر عنه (بالخير والشرّ) عند الفلاسفة ، والمعبَّر عنه (بالفضيلة والرّذيلة) في اصطلاح علماء و أئمة الأخلاق, أما المراد من العقل النظري فهو العقل المُدرك للواقعيات التي ليس لها تأثير في مقام العمل إلاّ بتوسّط مقدّمة اخرى، كإدراك العقل لوجود الله، فإنَّ هذا الإدراك لا يستتبع أثراً عملياً دون توسّط مقدّمة اخرى كإدراك حقّ المولويّة وانَّ آلله هو المولى ألجدير بالطاعة, والمراد من العقل العمليّ هو المُدرك لما ينبغي فعله وايقاعه أو تركه والتحفّظ عن ايقاعه، فالعدل مثلا ممّا يُدرك العقل حُسنهُ وانبغاء فعله والظلم ممّا يُدرك العقل قبحه وانبغاء تركه، وهذا ما يُعبِّر عن إنّ (حسن العدل وقبح الظلم) من مُدركات أو بديهيات العقل العملي وذلك لأنَّ المُمَيّز للعقل العمليّ هو نوع المدرَك فلمَّا كان المُدرك من قبيل ما ينبغي فعله أو تركه فهذا يعني انَّه مدرك بالعقل العمليّ هذا ما هو متداول في تعريف العقل العملي، وجاء السيد الصدر بصياغة اخرى لتعريف العقل العملي وحاصلها؛ إنَّ العقل العملي هو ما يكون لمُدركه تأثير عملي مباشر دون الحاجة لتوسّط مقدّمة خارجيّة.