“الحلقة الأولى”
كنا قد شددنا الرحال زوجتي ختام وأنا منعمَّان الهوى الى بلدتنا الخضراء جيوس لقضاء موسمي الشتاء والربيع فيها، حيث بحكمموقعها الجغرافي وقرب المسافة الهوائية من الساحل المغتصب يقل البرد فيها ويزدادالدفء مقارنة بعمَّان، حين فاجئنا ولدنا المعتز بالله والعامل في الدوحة بإصرارهعلى أن نزوره في قطر حيث يعمل وأعد لنا التأشيرات وتذاكر السفر وبرنامج للتجوال،ولم نمتلك إلا أن نستجيب لدعوته وخاصة أن هذه المرة الأولى التيسنزور قطر فيها ونجولها.
وصلنا مطار الدوحة وكان ولدنا باستقبالنا ومنالمطار للبيت حيث ارتحنا قليلا من وعثاء السفر، ومن ثم كنا نتجه للتجوال في سوقواقف التراثي وتناول العشاء هناك، وعبر جولة في الشوارع الفسيحة والمنارة بشكل جيدوبين المباني العالية والشاهقة واللافتة للنظر بأشكالها الهندسية الجميلة والغربيةالتصميم وإنارتها التي تحيل الليل نهارا،والتي تجعل المشاهد الذي يراها لأول مرة ينظر إليها بدهشة وخاصة لمن لم يعتاد رؤيةالأبراج الشاهقة في بلده، وبحكم أن دول الخليج بشكل عام حارة معظم أيام العام فيالنهار، فتكون الجولات فيها في العصارى وفي الليل، فتجولنا في مناطق عدة من الدوحةحتى وصلنا إلى قرب مسجد متسع وجميل ومنار بجمالية، حيث تركنا السيارة في موقف ضخمللسيارات واتجهنا الى سوق واقف التراثي، وبدأنا الجولة في أقسام السوق اللافتةللنظر بدءًا من سوق الصقور واحتياجاتها، حيث شاهدنا الصقور بأنواع مختلفة وهيبالنسبة لنا مسألة لم نراها من قبل أو نعرفها مباشرة، فتمتعنا بهذا التجوال لنتجهبعدها إلى قسم آخر حيث سوق الحمام والعصافير والطيور والقطط، وأكملنا الجولة فيأقسام السوق المختلفة بين أقسام للملابس وقسم للبهارات والتراثيات، وفي السوق أيضاأدوات موسيقية ومنتجات تراثية إضافة للسجاد الجميل والعطور والذهب والكثير منالبضائع المختلفة.
هذا السوق والذي يعتبر من أهم المعالم التييزورها كل من يصل الدوحة سواء للقاء الأصدقاء أو شراء المنتجات التراثيةوالمشغولات اليدوية أو زيارة مبنى الفنون فيه، حافل أيضا بالمطاعم المختلفةوالمقاهي من جنسيات مختلفة للأطعمة، فقد فوجئت وأنا أتجول بمطعم يحمل اسم نابلسوآخر يحمل اسم حلويات العكر، فأعادني ذلك لمدينة نابلس التي أزورها دوما كلما كنتفي فلسطين والتي كتبت عنها العديد من المقالات التي بلغت اثنا عشرة وما زلت أواصل،وخلال تجوالنا شاهدت مركز سوق واقف للفنون فدخلته وتمتعت بمشاهدة اللوحات الفنيةالمعروضة والفنانين وهم يرسمون، وقد زرنا هذا السوق عدة مرات للقاء أصدقاء أوللتجوال، وسعدت بحضور مهرجان سوق واقف للفروسية حيث تم استعراض جماليات الخيولالعربية واختارت اللجنة بناءً على مواصفات محددة الخيل الأجمل في المهرجان.
السوق أخذ اسمه منذ كان الباعة في السابقيتجمعون فيه وعلى مداخله ويعرضون بضائعهم وهم وقوفا فأخذ السوق الاسم من حالةالوقوف، وحسب بعض المصادر فهذا السوق يعود إلى 250 عاما حيث بدأ سوقا شعبيا ثم بنيمن الحجارة والطين والأخشاب التي جرى ترميمها عام 2000م وإعادة بناء السوق على النمط التراثي القديم معالتواصل بين الماضي والحاضر، وبنيت في المنطقة العديد من مواقف السيارات تحت الأرضإضافة للفنادق والمركز الإسلامي والعديد من نقاط الجذب بما فيها مشفى خاص بالصقور،حتى أصبح السوق بشكله الحالي من أهم نقاط الجذب السياحي وقبلة للمواطنين والزواروالسياح الباحثين عن الراحة والتسوق وتمضية أوقات جميلة.
في اليوم التالي كنا نتوجه إلى متحف الفنالإسلامي وحقيقة فوجئنا بجماليات وتصميم المتحف وحجمه، فدخلنا إليه مرورا بالمساحةالمبلطة عبر الحدائق وعبر نوافير الماء والجماليات في التصميم والمحيط من حوله،حيث بني المتحف والمياه تحيطه من كل الجوانب كما جزيرة في الماء، وعلى مساحات منحوله حدائق خضراء مزروعة بالورود تسر الناظرين، وهذه الحدائق مفتوحة باستمرارللجمهور، وهذا المتحف الضخم افتتح في الشهر العاشر من عام 2008م على مساحة45000 م2 ويقع على حافة ميناء الدوحة جنوبا،وبعد جولة سريعة في محيط المتحف والحدائق كنا نتجه إلى بوابة المتحف ثم الدخول حيثذهلنا بالمساحة المتسعة للمتحف، فبدأنا التجوال في الطابق الأرضي حيث مقهى مطل علىالخليج في صدر المتحف، وعلى يسارنا تجولنا في دكان الهدايا التذكارية وفي ساحةمطعم، وخرجنا إلى الساحة الخارجية المطلة على الميناء والمشاهد الجمالية، وهذهالساحة متسعة ومليئة بالنوافير إضافة للتصميم الجميل وبعد وقت من التجوال وتنشقالهواء المشبع بعبق مياه الخليج، دخلنا للطابق الأول من جديد للتجوال في معروضاتالمتحف، وفي مواجهتنا كان هناك جناح يحمل اسم: سوريا سلاما، وعلى مدخل الجناحيافطة في فقرة مما هو مكتوب: “لا يسعى المعرض إلى التحدث عن تاريخ سورياوماضيها الثقافي الغني، بل سيأخذ الزائر في رحلة تغطي خمس فترات مفصلية من تاريخسوريا، تبدأ من الحضارات القديمة قبل الإسلام، وتنتهي بالحركة التجارية النشطة فيالمدن السورية إبان الفترة العثمانية، وكشف الارتباط الوثيق بين كل عصر والعصرالذي تلاه”.
تجولنا في هذا الجناح حيث كانت المعروضات بينمادية ملموسة وما بين عرض على الشاشات، وفي البدايات كان الحديث عن مدينة اوغاريتالسياحية وهي من المدن التي اشتهرت قبل ألفي عام من الميلاد، وأحاديث عنها وعنتجارتها وعن الحرف المهنية فيها، وشاهدنا بعض من التماثيل البرونزية التي تعودلمرحلة ازدهار اوغاريت وقطع أثرية أخرى قبل الانتقال لمراحل أخرى ومشاهدة تماثيلمختلفة لطيور وغيرها وبعضها يمثل مرحلة دولة أخرى بناها الآراميين في “تلحلف” شمال شرق سوريا قبل ألف عام من الميلاد، ثم تدمر سيدة الصحراء وتماثيلتمثل لمراحل مختلفة من حضارة تدمر وحضارات عرفتها سوريا ولوحات زيتية تعود للقرن18م والعديد من الكتب التي تحدثت عن تاريخ سوريا، عبر كل هذه العصور مرورا بالمرحلةالإسلامية الأولى وبعدها المرحلة الأموية والجامع الأموي، وشاهدنا العديد منالمخطوطات وخاصة ورق من مصاحف تعود لتلك الفترة، وبعض المصاحف التاريخية أيضاوالمخطوطات التاريخية والقطع الخزفية والفخارية والنحاسيات، كما أشار الجناحللمرحلة الأيوبية ومرحلة صلاح الدين وبناء القلاع وتحصينها وقلعة صلاح الدينوالمشغولات المعدنية بتلك الفترة، ثم المرحلة العثمانية والتطور الاقتصادي بفترتهاللعديد من المدن مثل حلب ودمشق، وشاهدنا مجموعة من الأبواب والملابس القديمةالثمينة والآلات الموسيقية وقطع سلطانية وهذا الجناح ساهم بالقطع الموجودة فيهمجموعة كبيرة من المؤسسات.
المتحف قام بتصميمه المهندس المعماري آيوهمينغ بي وهو أمريكي من أصل صيني وقد قام بزيارة عدد كبير من المواقع الإسلامية حتىخرج بفكرة التصميم وخاصة بعد أن رأى نافورة مسجد ابن طولون بالقاهرة، والمتحف مكونمن خمسة طوابق وفي الطابق الثاني والثالث المتحف المستديم بينما في القاعةالأساسية في الطابق الأول تكون المعارض غير الدائمة، وفي الطابق الرابع قاعات محاضرات وقاعات عرض صغيرة وفي الطابقالخامس مكتبة متخصصة بالفن الإسلامي ومطعم حديث ومكاتب إدارية.
صعدنا للطابق الثاني عبر الدرج الملتويوالمصمم بشكل فني متميز علما أن المصاعد متوفرة أيضا لمن يرغب باستخدامها، لنبدأجولة رائعة عبر تاريخ يمتد لأكثر من ألف عام بين مئات القطع الفنية منذ بداياتالحضارة الإسلامية حتى نهاية القرن التاسع عشر، فتأملنا إبداعات فنية من بلدانإسلامية مختلفة احتاجت جهدا كبيرا وبالتأكيد مبالغ طائلة للحصول عليها حيث تمجمعها على مدى 15 عام من العالم، فهي كانت في بيوت أمراء وحكام وأناس عاديين أيضا،فشاهدنا ستائر مزينة بالحروف وفن الخطوط ومفتاح للكعبة يعود للقرن 14 م من الفولاذالمعشق بالفضة ومنقوشات خشبية مزينة بالكلمات، وأنماط زخرفية مختلفة من أماكنإسلامية عديدة، وخزفيات كثيرة بين بلاط وبين آنية وأطباق ولوحات وخوذ محاربين منالمعدن وخناجر فولاذية مزينة بالماس والياقوت، إضافة لمنحوتات عاج آتية من الهندوالأنماط الزخرفية المختلفة حيث أن فن الزخرفة متميز بالفن عند العرب منذ قبلالإسلام، كما شاهدنا العديد من الإبداعات النحاسية والزجاجيات والحلي الرائعةالجمال والثمينة وأشكال متنوعة من العملات، إضافة للمصاحف التاريخية وأوراق مصاحفولوحات زيتية لأمراء وحكام حكموا في القرون الماضية، والسجاد ولوحات ومنقوشات الخطالعربي وتابوت خزفي وأجهزة علمية مثل “الإسطرلاب” الذي كان يستخدم فيالحسابات الرياضية والفلكية بأشكال مختلفة إضافة لأدوات هندسية وأدوات أخرى،وأشكال لأحياء مختلفة مثل تماثيل لحيوانات وطيور وفخاريات مختلفة وثوب نسائي منالقماش والذهب من آسيا الوسطى يعود لأواخر القرن 12م، وتراثيات ومصنوعات من تركياوإيران ومصر وسوريا بأعداد جيدة والباقي من البلاد الإسلامية المختلفة من وسط آسياحتى باقي المناطق الإسلامية، وبعد عدة ساعات من التجوال خرجنا من المتحف وارتحناعلى العشب بالحديقة المجاورة للمتحف متنعمين بعبق الخليج، لنكمل بعدها جولة فيالأسواق وصولا إلى سوق واقف، بعد أن رغبنا بزيارة المتحف الوطني لكنه لم يكن قد تمافتتاحه بعد في فترة زيارتنا، وبعد العشاء عدنا للبيت للراحة استعدادا لجولة أخرىفي اليوم التالي لزيارة أمكنة أخرى ستكون مجال الحديث في الحلقة القادمة إن شاءالله.
صباحبارد مع أربعينية الشتاء والأمطار تتساقط على نافذة شرفة مكتبي العمَّانية فتحدثأصواتا كما معزوفة موسيقية مع فنجان قهوتي وشدو فيروز: “أنت معي سراجنا مضاء..ليلتنا ملاح.. وكوخنا يموج أنت معي.. فلتمطرالسماء.. ولتعصف الرياح.. ولتهطل الثلوج”، فأتذكر جولتي في قطر حتى وصلت قلعة زبارة على بعد 100كم من الدوحة وتجولت في الكثير من الأمكنة كما قلعة برزان وغيرها، فأهمس: صباحكمأجمل.. صباحكم وطن.
“عمَّان12/1/2020” www.facebook.com/ziadjayyosi/notes www.facebook.com/ziadjayyosi/photos_albums