د.يوسف السعيدي
ربما لم يكابد هذا الجيل الا ما كابده في السنين السابقة التي مرت ..وكانت قاسية بحق…
وكانت مأساوية بلا شك….
وكانت الافظع مما مر في تاريخ العراق دون ريب…
حسبها انها كانت سنينا اجدب الناس فيها…
وحسبها انها كانت سنينا لم تزرع فيها إلا بذور الضغينة، ولم تثمر إلا عن الرعب، وكأنها تتساقط من شجرة الزقوم التي تظلل أهل الجحيم…
ثم حسبها ان السماء ما امطرت فيها إلا الدماء مدرارا…
لقد عاش هذا الجيل الماساة، والخشية كل الخشية ان يستقر في عقله وضميره ان هذه هي الحياة، فيضيق ذرعاً بالهواء، ويعادي الشمس، ويلوذ بالجريمة ليحتمي منها…
ويفترض ان الشعب بل والبشرية كلها هي فرد واعداء…. فرد واعداء… ولكن علينا، نحن العراقيين، ان نلوم انفسنا قبل ان نلوم الغير، وان الآباء والاجداد قد اسسوا لهذا، حيث كانت الغرائز حاضرة بينما العقل غائب، وكانت السادية أو النزوع نحو الحاق الاذى حد الافتراس ماثلين بينما الرحمة مفقودة… لقد انمحت مآثر التاريخ الزاهية إلا ظلالاً تستعصي على الفهم وبقيت منه صورة السيوف التي تقطع الرقاب….
وكانت اكرم الرقاب واشرفها رقبة الامام الحسين عليه السلام، وهيمن الندم على كل جارحة فينا لكنه لم يدفع الى الصلاح بل تحول الى رغبة جموح في الثأر لما حدث احيانا، وفي تقليد ما حدث في أكثر الاحايين.
ولست معنيا هنا بالتاريخ القديم بما فيه من فضائل ومن شرور… أنما في العام ١٩٥٨ وجه الرصاص الى العائلة المالكة ولم تكن سوى جمهرة من النساء فيها رجلان لا غير الملك الذي احبه الناس، وانتظروه سنينا منذ اغتيال ابيه وولي العهد عبدالاله، كان الجمع يحمل المصاحف الشريفة لكن الرصاص قد انهمر على جمع مستسلم بريء قد احتمى بكتاب الله.
سلمت جثة عبدالاله، وبعده نوري سعيد الى ما اسمته الأحزاب (الجماهير) وكانت هناك لذاذة في تقطيع اوصالها، ومكسباً أي مكسب بالحصول على اصبع سقط حول الجسد… وكان العرس لا يكتمل إلا بسحب الجثة بالحبال من شارع لشارع، ومن محلة لاخرى حتى تتلاشى على اسفلت الطريق، اما ما تبقى، ان بقي شيء، فيحرق وسط الزغاريد والتصفيق… بهذه الطريقة تصورنا اننا قد اصبحنا احراراً….
صارت الحبال وسيلة النضال ضد (الامبريالية وعملائها)، وكان شعار بعض افراد الحزب الشيوعي (ماكو مؤامرة اتصير، والحبال موجودة)…. وقد رسمت على بعض جدران بغداد والمدن الاخرى لوحات بدائية تمثل اشخاصاًَ وقد التفت الحبال حول اعناقهم….
حتى الذي يزف الى عروسه كان الجمع يهتف وراءه (اعدم، اعدم جيش وشعب يحميك)…. ولم تقف الثقافة متفرجة بل كانت على موعد مع الحقد فاحتضنته وقال شاعر مجدد يتحدث عن (اعداء الثورة) سنجعل من جماجمهم منافض للسجائر) وقال شاعر كلاسيكي بارز يخاطب (زعيم الثورة) فضيق الحبل واشدد من خناقهم فلقد تبين في ارخائه الضررُ
بهذه الطريقة تصور أعضاء الحزب الشيوعي انه سيستحوذ على السلطة اما ان استيلاءه على السلطة في بلد كالعراق هو العامل الرئيس لاية حرب عالمية ثالثة فهذا ما لا يفكر به من اسكرتهم الهتافات. ولم يتوقف الامر عند منتسبي العهد البائد فظهرت تسمية جديدة هي (ايتام العهد البائد)
وهكذا أصبح يتيما لعهد مذموم كل من عارض بل كل من استخدم عقله، بل كل من اخذته الرافة بالناس، ولم يستسغ طعم الدماء…. واصبح اقطاعيا كل من (غترته نظيفة) ، بما في ذلك المسؤول عن تنفيذ الاصلاح الزراعي لتصفية الاقطاع فقد ظهرت اهزوجة بحقه تقول (هديب اقطاعي شلون اتأمن بيه اسمع يكريم)….
طبعاً لم يفكر احد بان تطبيق الاصلاح الزراعي بهذا الشكل قد جعل القطاع الزراعي ينهار… ولم تنفع وعود الحزب الشيوعي للفلاحين ببيت وبقرة حلوب وزوجة (معلمة)…
في العام ١٩٦٣ جرى الانتقام من قبل حزب البعث فتحول ايتام العهد البائد الى ايتام العهد القاسمي، وجرى اولاً تصفية عبد الكريم قاسم واتباعه بذات الطريقة التي تمت فيها تصفية العائلة المالكة… وصار رافعو حبال الامس ضحاياها…
وانتهت تسعة أشهر ليطل انقلاب جديد فاذا باحد أقطاب ٨ شباط يفخر في ١٨ تشرين من نفس العام ان طائراته تلقي على (رفاقه) حجارة من سجيل…
ومضى الحكم يقتص ممن رفعوا اللافتات لتسعة اشهر فقط، ومضى اتباعه يثأرون حتى العام ١٩٦٨ وفي كل الاحوال كان هناك اعدامات فردية واخرى جماعية، وحروب، وحاكم يستفرد بيتيم من العهد الذي سبق ليسلم نفسه يتيما لحاكم جديد…
وثأر يجر الى ثأر…
وانتقام يولد انتقام…
ودماء تسيل وتطمح بالمزيد….
ورقاب تخنق أو تقطع لتدعو غيرها الى رفقة الطريق وجلاد يفخر بعدد ضحاياه…
وجلاد آخر يواجه الاول ويسابقه في عدد الضحايا…
ومثقفون لم يعودوا يتوزعون على مدارس الادب ونظرياته بل على الطوائف سنة أو شيعة.. والنتيجة تعالوا للحساب:
بعد كل هذا الدمار الذي الحقناه بانفسنا… ليس لدينا عمل يدر رزقاً… ولا كهرباء توقد مصباحاً… ولا قطرة ماء تبل غلة… ولا شارع للسير… ولا بيوت تأوي مشردينا… ولا ضماد يلف اجساد جرحانا… وحتى بلا وطن ندعي اننا منه وانه لنا…
اما يكفي هذا التفاخر بقتل بعضنا ؟
حاشا لله ان يكون قد حرمنا من افكار تصارع بعضها، ومن السنة واقلام تحمل رؤانا ويجادل فيها بعضنا البعض، وحاشا لله ان يكون قد تركنا لا نجيد إلا لغة السلاح إلتي تأكل من اجسادنا وتجتث ارواحنا فلماذا يظل الانتقام لذات الانتقام مبتغانا؟…
لماذا ناكل بعضنا ؟؟؟ فحتى كواسر الغاب لا تأكل لحم بعضها فكيف استسغناه…. نحن؟ كيف؟ والى متى ؟….

الدكتور
يوسف السعيدي