نظّم، مؤخراً، حزب العدالة والتنمية التركي الذي يتزعمه السيد رجب طيب أردوغان، رئيس الوزراء، مؤتمراً وإحتفالاً ضخماً بمناسبة ذكرى تأسيسه ودعى إليه عدداً كبيراً من الضيوف كان من بينهم زعماء أحزاب عراقية. كما حضره الهارب عن وجه العدالة طارق الهاشمي نائب رئيس جمهورية العراق السابق الذي أدانه القضاء العراقي بتهمة الإرهاب فحكم عليه بالإعدام وآوته تركيا رغم صدور مذكرة إعتقال من جانب الشرطة الدولية (الإنتربول). لم يكون بمقدور الهاشمي حضور الإحتفال والمؤتمر إلا بدعوة رسمية مسبقة من الحزب المذكور.
لم يلبِ دعوة أردوغان زعماءُ أحزاب وحركات أساسية عراقية هي: الدعوة والإصلاح والفضيلة بسبب قضية الهاشمي كعائق مباشر.
وحضر المؤتمر زعماء عراقيون آخرون.
في الأحوال الإعتيادية، فإن تلبية دعوة لحضور مؤتمر أي حزب في العالم مباح لأي شخص عراقي أو غير عراقي بصفته الشخصية أو الحزبية. لكن الأمر يختلف في هذه الحالة لأن العلاقات غير إعتيادية بين البلدين العراق وتركيا؛ إذ هناك أمران عكرا صفو الروابط مع تركيا وهما: قضية إيواء طارق الهاشمي المحكوم بالإعدام بتهم القتل الإرهابي والتدخلات الفضة والتعدي السافر على سيادة العراق والإهانات الوقحة التي وجهها مسؤولون في الحكومة التركية للعراق وأخص بالذكر رئيس الوزراء ووزير الخارجية.
من هذا المنطلق، أُدين حضور القادة العراقيين جميعاً بضمنهم ممثل السيد رئيس الجمهورية ووفد التيار الصدري إذ أن الحضور كشف عدم إحترام شعور شعبهم وعدم الإهتمام بمصالح وطنهم وعدم التضامن مع حكومة بلدهم في شأن وطني عام لا يخص جهة دون أخرى.
لكن إدانتي لإثنين منهم هما السيدان أسامة النجيفي رئيس مجلس النواب والقيادي في إئتلاف العراقية ومسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان ورئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني، تبتعد عن مجرد عدم الإحترام وعدم الإهتمام وعدم التضامن يصدر من شخص أو قائد حزب. فهذان الشخصان مسؤولان في الدولة العراقية ويشغلان مناصب سيادية عالية المستوى.
نعم، ربما سيقولان إنهما لم يحضرا الإحتفال بصفتهما الرسمية بل الشخصية والحزبية(1). ولكن المسؤولية، وخاصة المسؤولية ذات الصفة السيادية، في كل بقاع الأرض، تفرض ضريبتها على المتصدي لها، أي على المسؤول. الفريضة غير قانونية ولكنها معنوية وطنية ترقى إلى قوة القانون في أعماق وذات كل وطني شريف. هل هناك دولة واحدة في العالم بدءاً من أمريكا وإنتهاءً بالصومال تسمح لمسؤول فيها بحضور حتى وليمة غداء في بيت يحمي قاتلاً إرهابياً مطلوباً لقضاء الدولة والشرطة الدولية؟
طرح بعض قادة إئتلاف العراقية تبريراً لحضور رفاقهم  مؤتمرَ حزب العدالة والتنمية مفاده أن الحضور كان سيسهم في إزالة العقبات بين البلدين ما يصب في صالح تحسين العلاقات. أسالهم: هل تشاورتم مع رئيس وزراء بلدكم المنتخب قبل التوجه إلى المؤتمر كي لا يظهر العراق بمظهر المفكك أم إنكم تتعمدون ذلك وهو هدفكم وإنجازكم؟ هل أبدى الأتراك إستعدادهم لتسليم أو طرد المجرم طارق الهاشمي؟ أم هل أن دم العراقيين رخيص عليكم وعليهم؟ هل خروقات الأتراك جديدة؟ هل إعتذروا عنها؟ هل إعتذروا عن زيارة وزير خارجيتهم إلى كركوك دون علم الحكومة؟ ألم تزوروا تركيا عشرات المرات بحجة تحسين العلاقات وبعد كل زيارة يزداد المسؤولون الأتراك شراسة وإعتداءً على العراق وسيادته؟ أما يشير هذا إلى أحد إحتمالين: فأما إنكم تتآمرون معهم، وهو الإحتمال الأرجح، فتزداد العلاقات توتراً؛ وأما إنهم لا يعيرون لكم أدنى أهمية بل ينظرون لكم كعملاء صغار فلماذا هذا الذل لكم؟ ولماذا تلوثون سمعة العراق؟ هل هي تركيا التي تستورد منا سلعاً متوفرة في كل الدنيا ب(12) مليار دولاراً سنوياً أم نحن الذين نستورد ذلك منها فينتعش إقتصادها؟ هل هي تركيا التي تمرر أنابيب نفطها للبحر الأبيض المتوسط عبر العراق أم العراق الذي يفعل ذلك ويستطيع الإستغناء عن تركيا بسوريا؟ ألم تتذكروا القول الشعب�!
� الع
راقي: “النفس الدنية توكِّع قدر راعيها”.
إذا كان البعض قد جعل الإستهانة المتعمدة بالدستور والقانون أمراً مالوفاً لشل أو تهديم العراق الجديد المتجه نحو الديمقراطية  ولينجو، ذلك البعض، بأفعاله القذرة وفساده الطغموي(2) والشوفييني، الأمر الذي أبعَدَ إمكانية مسائلة أسامة ومسعود قانونياً، فإن هناك حكم الشعب المعنوي الذي يهيل عليهم ترابَ الخزي والعار.
وإذا كانت شركات النفط وإسرائيل والسعودية وتركيا وقطر و”المتعاونون” معهم في الداخل العراقي يظنون أنه بإمكانهم إثارة جزع العراقيين من الديمقراطية لينكفئوا إلى الوراء ويسلِّموا العراق صاغرين بيد تلك الجهات الطامعة مقابلَ الأمان، فهم مخطئون. فالتقسيم سيأتي قبل ذلك لأن الجماهير تدرك بأن الأمان الموهوم هو ذل وعبودية وإنتحار.
وليعلموا أن الحرب الباردة تستيقظ ولو بتثاقل ولكنها ستعود بفعل تناقض المصالح الحيوية، وهي ملاذ ومأوى بؤساء السلاح أمثالنا الذين قتلَنا وقتلَ غيرَنا النظام الطغمويُ بسلاحه فجرَّدوه منه، بعد أداء المهمة، وتَرَكَنا “محررُنا” الذي شكرناه ونشكره(3)، والذي لم تَرُقْ له قوتُنا الجماهيرية المليونية السلمية ولم يرُق له تَوْقُنا إلى علاقات صداقة متكافئة معه ولم يرق له إخراج قواته، تَرَكَنا بلا سلاح وبلا تدريب ليحاول أن يلعب بمصيرنا حكام السعودية وتركيا وإسرائيل وقطر ومِن ورائهم شركات النفط وبيدهم الطغمويون والإرهابيون والشوفيينيون(4). نعم سيدفعوننا دفعاً ورغم أنوفنا وضد إرادتنا، نحو الحرب الباردة للإحتماء بها وقد قيل “يا روح ما بعدك من روح”. ليس خافياً أن هناك في المحيط والداخل من  سعى ويسعى وأغرى ويغري من أجل ثني الحليف الأمريكي، المفترض، عن التسليح والتدريب لإضعاف قدرات العراق والحكومة العراقية ومن أجل توتير العلاقات مع أمريكا لكي يقفزوا إلى كرسي العمالة بعد وأد الديمقراطية بدل كرسي الصداقة النزيهة المتكافئة. لكن إستيقاظ الحرب الباردة قد يُفقد المعوِّلين على شركات النفط وتركيا والسعودية وقطر ما وُعدوا به وأصبح حلماً لمصالحهم الخاصة بالضد من مصلحة الشعب العراقي.
أخيراً، أضم صوتي إلى أوائل المعبرين عن إستيائهم من أسامة ومسعود وأقول: أيها السيدان إنكما بذيئان وستنتقم منكما دماءُ العراقيين الأبرياء بصورة أو أخرى إن عاجلاً أو آجلاً فالشعوب والديمقراطية لا يقهرها الطغمويون والإرهابيون والشوفيينيون ومِن ورائهم شركات النفط إذ ولّى الزمن الذي ذبحتم فيه الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم.
هل سيُصدر مجلس النواب بياناً ولو بالأغلبية يقول فيه :
“يعبر مجلس النواب عن إدانته وسخطه على حضور مسؤولين عراقيين، وبالأخص السيدين رئيس مجلس النواب ورئيس إقليم كردستان، إحتفالَ حزب العدالة والتنمية التركي؛ إذ أن حضورهم، بأية ذريعة، شكل إستهانة بدماء العراقيين الأبرياء التي أهدرها المحكوم بالإعدام طارق الهاشمي المطلوب للشرطة الدولية الإنتربول والذي تؤويه الدولة التركية. إن حضور الموما إليه ذلك الإحتفال يشكل علامة من علامات التحدي للدستور والقضاء العراقيين ويمثل إهانة لمشاعر الشعب العراقي.”؟
يبقى طرح مشروع البيان هذا على مجلس النواب مهما،ً حتى لو فشل بالتصويت إذ أنه سيكون وثيقة إدانة تأريخية للشخصيَن ولكل من يقف بجانبهما في مجلس النواب أو لم يدنهما على صعيد المجتمع المدني وإعلامه ومنظماته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1): أراد النائب عن إئتلاف العراقية السيد حامد المطلك أن يهوِّن من وطأة الذنب الذي إقترفه السيد أسامة النجيفي فصرح، المطلك، بأن حضور النجيفي كان بصفته الرسمية وليست الحزبية!!! أراد السيد المطلك أن “يكحِّلها”  “فعماها”.
(2): للإطلاع على “النظم الطغموية حكمتْ العراق منذ تأسيسه” و “الطائفية” و “الوطنية” راجع الرابط التالي رجاءً:
http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=14181
(3): بلغ النظام البعثي الطغموي حداً من الإجرام والفساد قلما بلغه قبله من النظم في العالم؛ إذ مارس سياسة التطهير العرقي والطائفي بمنهجية وبرمجة واعيتين نجمت عنها جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية بلغ حد إستخدام الأسلحة الكيميائية في حلبجة الكردستانية والأهوار. قتل النظام 182 ألف كردي في حملة الأنفال الشهيرة بوحشيتها، وأكثر من ربع مليون من عرب الجنوب والوسط في إنتفاضة الربيع الشعبانية عام 1991. إضافة إلى هذا سيطر النظام على كامل عوائد النفط المهرب فرشى بها ملوكاً ورؤساء وأحزاباً ونقابات وحكومات ومنظمات بضمنها الأمم المتحدة فرقصوا جميعاً على جثث العراقيين المغدورين. أيقن العراقيون أن النظام أصبح خارج إمكانياتهم للإطاحة به وما عاد قادراً على ذلك إلا الله أو أمريكا؛ فأطاحت به أمريكا لمصالحها الخاصة ولم يدافع العراقيون المغدورون عن ذلك النظام. ساعد الأمريكيون على إقامة نظام ديمقراطي في العراق. وقد وجَّه العراقيون مجمل الأحداث لصالح العراق وحسب.
(4): أقصد بالشوفينيين تحديداً الحزبَ الديمقراطي الكردستاني وبالذات السيد مسعود البرزاني رئيس الحزب ورئيس إقليم كردستان. قد لا يكون هذا التعبير دقيقاً لأن الشوفيينية تعني التعصب القومي. ولا أرى أن الحزب المذكور (ح د ك) وزعيمه بدأوا يتخذون مواقف غير سليمة بحق العراق لصالح شركات النفط التي تصر على أسلوب “المشاركة في الإنتاج” بدل “عقود خدمة” التي تعتمدها الحكومة الفيدرالية – يتخذون المواقف بدافع الحرص القومي الكردي وتوحيد الأمة الكردية التي مزقتها معاهدة سايكس- بيكو الجائرة، بل يتخذونها لمصالحهم الحزبية الضيقة وتشديد السيطرة على إقليم كردستان إستبدادياً بإسم القضية الكردية؛ وهذه مزايدة على حساب المصلحة القومية الكردية التي قد تتضرر كثيراً بتعويل (حدك) على وعود شركات النفط وتركيا والسعودية وقطر وقيل إسرائيل، ضارباً بعرض الحائط الأسلوب النضالي السليم بالتعويل على الكفاح التأريخي المشترك مع أشقاء الكرد وهم كافة مكونات الشعب العراقي وفي المقدمة منهم عرب العراق من شماله حتى جنوبه. علاوة على هذا فإن التعويل على “الأقوياء” المتفردين في العالم قد ينتهي مفعوله بظهور بوادر إنطلاق حرب باردة جديدة ستشل قدرة هؤلاء “الأقوياء” على التأثير المطلق في أحداث العالم وخاصة منطقة الشرق الأوسط ذات الأهميتين النفطية والستراتيجي!

محمد ضياء العقابي