كنت ابحث عن الأسماء اللامعة في دنيا العمل والإنشاء.. الأسماء.. التي تحدثت عنها البلاد بشيء من الإطراء والإجلال .. والتكبير.
مصفى الدورة..
عمل جبار.. أقدمت الحكومة على تحقيقه رغم كل العثرات والعقبات.. فنهض هذا العملاق الضخم في أرضنا الطيبة.. وراح يمدنا بكل اسباب الرفاهية.. والإنشاء والتطور.. أنواع من النفط.. أنواع من الدهونات..
لان النفط يمد آلات عصرنا العجيب بقوة تكاد تكون سحرية.. فالعراق مدين بالكثير الى استخدام النفط.. لانه جزء لا يتجزأ من حياته اليومية.. “وبدون النفط لا ينتهي التقدم فحسب بل ان الحياة نفسها تشرف على النهاية”.
وعلمت ان وراء هذا المصفى الهائل.. رجالا غدوه بأفكارهم.. وأنفسهم.. وبذلوا في سبيله أثمن ما عندهم من إمكانات..
هؤلاء الرجال ذللوا الصعب.. وحققوا الامال. بصدق نواياهم..
واول من التقيت به من هؤلاء الرجال.. هو الاستاذ محمد النقيب.. مدير مصافي النفط الحكومية العام.. هذا الرجل الذي رافق فكرة الانشاء منذ كانت صغيرة تحبو في الأذهان.. حتى امتدت.. واستطالت فإذا بها مصفى الدورة الضخم الجبار.. زرته في مكتبه الانيق القابع في بناية البنك (البريطاني) في شارع البنوك.. ورحب بي الرجل الشهم أيما ترحيب.. وقبل إن اسأله ابتدرني قائلاً:

  • اشلون العالم هسه.. بعدهم وراء الكلية طايرين؟
  • العالم بخير وسعادة ما دامت اختراعاتهم مسخرة لأجل رفاهية الإنسانية.
  • رأيك في القمر الصناعي.
  • انه عمل جبار.. يدل على عظمة الذكاء البشري.. وهنا دخل سكرتير المدير الأستاذ عبد الوهاب الأمير فقال مخاطبا الاستاذ المدير.
  • ها لله.. هالله بالاسبوع؟
    فأجابه المدير..
  • إني هالله بي من الأسبوع..
    وسألته..
  • متى اختمرت فكرة إنشاء مصفى الدورة في أذهان المسؤولين؟
    فرد علي بعد ان اعتدل في كرسيه الوثير.
  • اختمرت هذه الفكرة في اذهان المسؤولين قبل نيف وعشرين سنة اي منذ سنة 1924 وكانت وقتئذ في طريق الدراسة.. فتقدمت بعض الشركات العالمية للإنفاق معها حول تحقيق فكرة انشاء المصفى.. ولكن نشوب الحرب العالمية الثانية اوقف المشروع الى حين.. وفي سنة 1945 طلبت وزارة الاقتصاد من مجلس وزراء الموافقة على انشاء المصفى وكانت النية متجهة الى تشييده في منطقة بيجي ولكن اخيرا ارتأى تشييده في بغداد لاسباب اقتصادية اهمها ان بغداد تستهلك 40 % من المنتجات ولانخفاض اجور النقل فيها..
    وبعد ان وافق مجلس الوزراء على المشروع قامت الوزارة باعلان المناقصة ولكن لم يتقدم احد لانشاء المصفى بالنظر لان الشركات العالمية كانت مشغولة بانشاء المصافي في اوروبا التي دمرتها الحرب بالاضافة الى توسع طاقة التصفية في الولايات المتحدة.. وعندئذ اضطرت الحكومة الى اجراء اتصالات مباشرة مع الشركات فتقدمت شركة “كركوك” وتعهدت بانشاء المصفى فوقعت الاتفاقية بين الحكومة وبين الشركة سنة 1950 وابتدا العمل في مصفى الدورة خلال سنة 1950 وانتهى سنة 1954 وبلغت تكاليفه (12) مليون دينار.. وان موظفيه بما فيهم الخبراء والمهندسون والممرضون والموظفون والعمال – بلغ (2148) شخصا..
  • من هو اول رجل عرض فكرة انشاء المصفى المذكور؟
  • كان اكثر الوزراء تحمسا لفكرة الانشاء هو الدكتور نديم الباجه جي وقد بذل الجهود المضنية في سبيل اظهارها الى حيز التنفيذ ولا ننسى فضل الهيئة الفنية التي وضعت اسس مواصفات العمل..
  • هل تعتقدون ان الدورة ستصبح منطقة صناعية؟
  • نعم ستصبح منطقة صناعية مهمة لوجود مصفى الدورة ومصفى الدهون ومشروع الغاز الاتي من كركوك ناهيك عن المعامل الاخرى المشيدة على ارض الدورة ولا شكل انه سيتبعها خطوات لتحضير المواد الكيميائية النفطية…
  • لماذا اخترتم الدورة مكانا لاقامة المصفى عليه؟
  • هناك اسباب عديدة اهمها ان بغداد تعتبر اكبر منطقة مستهلكة.. ولقرب الدورة منها فقد اختيرت لهذا الغرض.. ولصعوبة ايجاد مساكن للموظفين والعمل في مناطق اخرى.. ولكون اتجاه الريح في بغداد هو من الشمال او من الشمال الغربي في اكثر ايام السنة ولهذا تخلصت من الروائح النفطية بقدر المستطاع وكان اهالي منطقة المسبح يشكون من الروائح ولكن بفضل الجهود المبذولة فقد كادت الروائح تزول نهائيا ثم اشدعوه اهل المسبح مدللين.. خلي واحد شوية يشتم هوه…
  • لماذا ارتفع سعر البانزين في العراق وما سبب ذلك؟
  • ان سعر البانزين هو (110) فلوس منها (55) وفلسا تؤخذ “كمكس” و(55) فلسا الباقية هي لمصلحة المصافي..
    وان ميزانية المصلحة قائمة على القروض وتدفع فوائد عليها بالاضافة الى هذا عندما بدأت مصلحة المصافي في العمل فكرت بتوحيد الاسعار في مراكز الالوية.. فهذا التوحيد كلف المصلحة ما يقرب من ثلاثة ارباع المليون سنوياً..
    فمثلا يباع النفط الاسود في السليمانية بـ(8) فلوس وربع.. ولكنه في نفس الوقت يكلف المصلحة نقله الى السليمانية (8) فلوس وتبيعه هناك بـ(8) فلوس وربع .. ان المصلحة تبيع بعض منتجاتها بخسارة.. وازاء ذلك اضطرت الى زيادة سعر البانزين .. (6) فلوس لتخفيف العبء المالي الثقيل الملقى على عاتقها..
  • هل تعتقدون ان مصفى الدورة سينتج زيتا يضاهي الزيوت الاجنبية؟
  • نعم.. وقد اثبتت الفحوض المختبرية التي اجريناها في مختبرات الدورة وامريكا بان دهون مصفى الدورة تضاهي احسن انواع الدهون المستوردة الى العراق الان وتفوق بعضها جودة..
  • ما هو مستقبل العراق الصناعي؟
  • العراق مستقبل صناعي باهر.. سواء ما يخص النفط او ما يخص السمنت.. او غيرها.. وقد انشئت معامل السكر في الموصل.. ومعامل النسيج.. واما القول بان العراق بلد زراعي فقط فهو غلط ومردود …
  • ما هي هوايتك المفضلة؟
    فنظر الي نظرة ذات معنى وقال بعد ان جر نفسا عميقا من سكارته الاجنبية..
  • احب المطالعة كثيراً.. مطالعة الكتب الادبية والعلمية .. العربية .. والاجنبية على السواء.. واسال عبد الوهاب الامين عن ذلك..
  • هل تحب الموسيقى؟
  • يابه وين رحت .. اشو من النفط والصناعة الى الموسيقى والهواية.. وبعد .. احب الموسيقى العربية.. واتذوق الغربية وخاصة الكلاسيكية..
    واما الغناء.. فكل المطربين يعجبوني.. واطرب للغناء العراقي كثيراً..
  • ما هي الشهادة العلمية التي حصلت عليها؟
  • بي . اس. سي. في الهندسة النفطية.. وقد زرت امريكا مؤخرا فاستفدت كثيرا من مشاهداتي لمصافي النفط الضخمة الامريكية..
  • هل هناك موظفون اجانب يتقاضون راتبا اكثر من راتبك؟
    في المصفى موظفون اجانب يتقاضون راتبا ضعف راتبي.. والسبب لانهم اجانب والاجنبي لايترك بلدته الا اذا وجد ان هناك راتبا مغريا.. كما ان الاجانب يعيشون عيشة (راقية) تكلفهم الكثير من النفقات.
  • هل آن الاوان لان تدخل المرأة العراقية لان تدخل البرلمان اذا كانت ذات ثقافة تؤهلها لهذا المكان.. ولكني اتساءل كم في العراق من النساء المثقفات اللواتي يمكن دخولهم المجلس؟
    ولما لم اتمكن من الاجابة على سؤاله طويت اوراقي وخرجت.. من مكتبه في البنك البريطاني وانا احمل صورة لهذا الرجل الذي احتل مصافي النفط كما لو كانت مصافي النفط كما لو كنت احمل خزائن البنك الانكليزي كلها في جعبتي.
    جريدة الشعب 1956