كذوبة تحول ماء دجلة إلى ازرق ‏
‏ خلال الغزو المغولي
علي الكاش
تنويه
سبق ان نشر المقال عام 2017 وتمت الإضافة اليه وإجراء تغييرات محدودة.‏
المبالغة إحدى صفات العراقيين، ففي الحياة الإعتيادية غالبا ما يهولوا الاحداث من خلال التعبير ‏عنها في المدح والذم معا، وهذه الصفة قديمة، حتى قيل في أهل العراق: أنكم تبالغون في كل شيء ‏حتى في طاعتكم! في الدراسة الإعدادي، كان الأستاذ يتحدث عن سقوط بغداد بيد التتار والفضائع ‏التي ارتكبوها من قتل وسلب وإغتصاب للنساء وحرق المساجد والبيوت ودار الخلافة والمنشئات ‏العامة، وكان مما ذكره نقلا عن الرواة ان عدد القتلى تراوح ما بين مليون ومليونين، وهذا مفارقة ‏كبيره لا يمكن تصديقها، كيف يكون الفارق مليون قتيل بين الحدين الأعلى والأدنى؟ ‏
كما ان قوله ان ماء نهر دجلة تحول الى الأحمر والأزرق بفعل دماء القتلى وحبر الكتب التي ‏أغرقت، لا يمكن ان يعقلها عاقل، لأن الماء جاري وليس راكدا، ولا يمكن أن يكتسب اللون الأحمر ‏مهما كان عدد القتلى، سيما ان المؤرخين أنفسهم يخبرونا ان الجثث كانت مرمية في الطرقات ‏وليس نهر دجلة، وقد أمر هولاكو جيشه بالخروج من بغداد خشية إصابتهم بالطعون بسبب الجثث ‏المتحللة المرمية في الطرقات، والتي تم دفنها بعد أن أوقف هولاكو عمليات القتل والحرق والدمار ‏لمدة أربعين يوما لدفن جثث الموتى من قبل ذويهم. كما أن ماء النهر لا يمكن أن يتحول الى ازرق ‏لأن الحبر المستخدم آنذاك كان أسودا، حتى لو إفترضنا جدلا ان الماء قد تغيير فعلا. كما أن القول ‏بأن المغول عملوا جسرا من الكتب لمرورهم ومرور خيولهم غير عقلاني ولا يستقيم مع العلم ولا ‏مع المنطق، لأم الماء سيجرف الكتب او تتمزق وتتبعثر مع موجات الماء.‏
إذن ما الغرض من إعطاء صورة مركزة عن إغراق معظم الكتب في ماء دجلة وتغيير لون الماء؟ ‏
وما الغرض من ترويج فكرة ان ماء النهر تغير لونه الى أزرق أو اسود؟ ‏
ومن يقف وراء هذه الفكرة؟ ‏
ومن هي الجهة التي تخدمها هذه الفكرة؟ ‏
ولماذا تقبل الناس هذا الطرح غير المعقول دون مناقشته وتحليله وفق المنطق والعلم، والرجوع الى ‏أقرب المؤرخين من تأريخ ومكان الحدث؟ ‏
وهل كان المؤرخون العرب صادقين في رواياتهم؟ سيما ان نظرة فاحصة على ما رووا عن الدولة ‏الأموية، يظهر لنا حجم الزيف والإفتراء الذي ارتكبوه بحقهم، مع ان الدولة الأموية إعتمدت على ‏العنصر العربي فقط، وليس العنصرين الفارسي والتركي كما جرى في الدولة العباسية، علما ان ‏تدوين تأريخ الدولة الأموية بدأ بعد سقوطها بيد أعدائهم العباسيين فتفننوا في الإفتراء عليهم، لذا قال ‏شاعرنا الرصافي واصفا أحوال التدوين التأريخي عموما:‏
وما كتب التأريخ في كل ما روت لقرائها إلا حديث ملفق
نظرنا لأمر الحاضرين فرابنـــــا فكيف لأمر الغابرين نصدق؟
سوف نناقش موضوع إغراق الكتب في نهر دجلة فقط كما أشاعوا الرواة، ونحاول أن نلقي نظرة ‏موضوعية على هذه الإكذوبة أو المبالغة فيها على أقل تقدير، لأن المغول فعلا أغرقوا العديد من ‏الكتب، لكن ليس بهذه الصورة المهولة التي نقلها لنا المؤرخون، فهناك زاوية أخرى لم يسلط عليها ‏الضوء بما يكفى، وربما تجاهلها المؤرخون لأمر في نفس يعقوب! المغول كما هو معروف عنهم ‏احتلوا ايران ودمشق وتوجهوا الى مصر ولم نشهد قيامهم بحرق مكتباتها كما جرى في بغداد.‏
السؤال المهم: لماذا؟ هل تغيرت طباعهم من العنف الى التسامح؟ ألا توجد مكتبات كبيرة في ايران ‏ودمشق؟ هل هناك مكتبات تستحق الحرق والغرق وأخرى لا تستحق؟ هل مياه أنهار ايران ودمشق ‏لا تتجانس مع دماء القتلى وأحبار الكتب، ولا يتغير لونها؟ هل تعلمت خيول المغول السباحة ولم ‏تعد بحاجة الى جسور من الكتب لتعبر الأنهار؟ هل في الأمر لغز؟
سنلقي نظرة على ما ذكره الرواة بشأن إغراق الكتب.‏
قال ابن الساعي” يقال إن المغول بنوا إسطبلات الخيول وطوالات المعالف بكتب العلماء عوضًا ‏عن اللبن”. (مختصر أخبار الخلفاء/127).‏
قال ابن خلدون في حديثه عن غزو المغول للعراق” أُلقيت كتب العلم التي كانت بخزائنهم جميعاً في ‏دجلة، وكانت شيئاً لا يعبّر عنه، مقابلة في زعمهم بما فعله المسلمون الأوائل في كتب الفرس ‏وعلومهم”. (تأريخ ابن خلدون7/48).‏
قال القلقشندي” يُقال أنّ أعظم خزائن الكتب في الإسلام ثلاث خزائن، إحداها خزانة الخلفاء ‏العباسيين ببغداد، كان فيها من الكتب ما لا يُحصى كثرة ولا يقوم عليها نفاسة، ولم تزل على ذلك ‏إلى أن دهمت التتار بغداد، وقتل ملكهم هولاكو المستعصم آخر خلفائهم ببغداد، فذهبت خزانة الكتب ‏فيما ذهب، وذهبت معالمها وأعفيت آثارها”. ( صبح الأعشى1/466).‏
قال ابن تغري بردي” خربت بغداد الخراب العظيم، وأُحرِقت كتب العلم التي كانت بها من سائر ‏العلوم والفنون التي ما كانت في الدنيا؛ قيل: إنّهم بنوا بها جسراً من الطين والماء عوضاً عن ‏الآجُر، وقيل غير ذلك”.(النجوم الزاهرة 7/84)‏
قال أبن الفوطي في ترجمته لعز الدين بن أبي حديد قوله ” لما أخذت بغداد كان ابن أبي حديد ممن ‏خلص من القتل في دار الوزير مؤيد الدين مع أخيه موفق الدين، وحضر بين يدي المولى السعيد ‏خواجة نصير الدين الطوسي، وفوّض إليه أمر خزائن الكتب ببغداد مع أخيه موفق الدين والشيخ ‏تاج الدين علي بن أنجب ابن الساعي”. ( مجمع الآداب في معجم الألقاب).‏
قال عبد الملك بن حسين العصامي المكي” نهبوا ( التتار) الخزائن والأموال، وأخذ هولاكو جميع ‏النقود وأمر بحرق الباقي ورمى كتب مدارس بغداد في دجلة، وكانت لكثرتها جسرًا يمرون عليها ‏ركبانًا ومشاة وتغيّر لون الماء بحبرها الأسود”. (سمط النجوم العوالي3/شرح حال التتار).‏
قال ابن كثير” في هذه السنة ـ سنة الغزو ـ عم البلاء وعظم العزاء بجنكز خان المسمى بتموجين ‏لعنه الله تعالى ومن معه من التتار قبحهم الله أجمعين واستفحل أمرهم واشتد إفسادهم من أقصى بلاد ‏الصين إلى أن وصلوا بلاد العراق وما حولها حتى انتهوا إلى إربل وأعمالها فملكوا في سنة واحدة ‏وهي هذه السنة سائر الممالك إلا العراق والجزيرة والشام ومصر وقهروا جميع الطوائف التي بتلك ‏النواحي الخوارزمية والقفجاق والكرج واللان والخزر وغيرهم وقتلوا في هذه السنة من طوائف ‏المسلمين وغيرهم في بلدان متعددة كبار مالا يحد ولا يوصف وبالجملة فلم يدخلوا بلدا إلا قتلوا ‏جميع من فيه من المقاتلة والرجال وكثيرا من النساء والأطفال وأتلفوا ما فيه بالنهب إن احتاجوا ‏إليه وبالحريق إن لم يحتاجوا إليه”. (البداية والنهاية13/103)‏
هذه الفئة من المؤرخين نظروا الى مسألة إغراق الكتب وإتلافها نظرة أحادية ضيقة، لاحظ تأريخ ‏وفاتهم (ابن الساعي 674. هـ. ابن الفوطي 723 هـ. ابن خلدون 808 هـ. ابن تغري 874 هـ، ‏بمعنى أنهم سمعوا ما قيل عن إغراق الكتب ولم يكونوا شهود عيان على الغزو المغولي بإستثناء ‏الأول الذي لم ينقل لنا صورة دقيقة وواضحة عن الغزو المغولي عام 656هـ.‏
وقد سار بعض الكتاب المحدثين على منهاج هؤلاء السلف، فلم يدققوا في الأخبار وينقلوا الحقيقة ‏كاملة. قال كوركيس عوّاد” ذكر بعض المؤرّخين أن المغول رموا كتب مدارس بغداد في بحر ‏الفرات، فكانت لكثرتها جسراً يمرّون عليها ركاباً ومشاةً، وتغيّر لون الماء بمداد الكتابة إلى ‏السواد”. (خزائن الكتب القديمة في العراق). وقد نقلها عواد عن قطب الدين النهرواني في كتابه ‏‏(الإعلام ببيت الله الحرام)، دون تصحيح إسم النهر، كان النهر دجلة وليس الفرات. كما ذكر أشرف ‏محمد صالح” تمكن المغول من إسقاط الخلافة العباسية سنة 1258 فكانت كارثة مروعة لاسيما بما ‏يتصل بانجازات الحضارة الإسلامية فقد دُمرت المكتبات وأحرقت الكتب، ويقال في إحدى ‏الروايات أنهم وضعوا الكتب في نهر دجلة كي تعبر عليه الخيول فكانت كارثة حقيقية، حيث تحول ‏لون النهر إلى اللون الأسود بسبب الكميات الهائلة من الكتب التي ألقيت فيه. لقد كان سقوط بغداد ‏إنسانية، وعلمية، وحضارية، فقد قُتل آلاف من العلماء والشعراء، وشُرد مَن نجا منهم، وأُحرقت ‏المكتبات، وخُربت المدارس، وقضي على الآثار الإسلامية، فدمر حصاد مئات السنين من التراث ‏العربي”. (الغزو المغولي”. (صفحة دموية في تاريخ الحضارة الإسلامية). وقال راغب السرجاني” ‏لقد حمل التتار الكتب الثمينة.. ملايين الكتب الثمينة، وفي بساطة شديدة -لا تخلو من حماقة وغباء- ‏ألقوا بها جميعاً في نهر دجلة… ألقى التتار بمجهود القرون الماضية في نهر دجلة، حتى تحول لون ‏مياه نهر دجلة إلى اللون الأسود من أثر مداد الكتب، وحتى قيل أن الفارس التتري كان يعبر فوق ‏المجلدات الضخمة من ضفة إلى ضفة أخرى”. (المغول وحرق مكتبة بغداد/ مقال). وهناك من مرٌ ‏على الموضوع متجاهلا تفاصيل حرق وإغراق الكتب رغم أهميته ومنهم علي الصلابي بقوله” لما ‏حلت النكبة ببغداد على أيدي المغول قتل اللآلاف من العلماء والشعراء، وشُرد من نجا منهم، ‏وأحرقت المكتبات وخُرت المدارس والمعاهد، وقضي على الآثار الإسلامية”. (المغول بين ‏الإنتشار والإنكسار/221).‏
كانت هناك زاوية لم يتحدث عنها الرواة السابقون، وكان شيخ الإسلام إبن تيمية (661 ـ 728 هـ) ‏بإعتباره شاهدا على الغزو وأحد أكبر المحرضين على مقاومة الغزاة، أول من سلط الضوء على ‏الزاوية المعتمة من الموضوع، وهي أن الطوسي كان قد إستولى على معظم المخطوطات العراقية ‏ونقلها معها الى طوس، قال شيخ الإسلام ” لمّا استولى التتار على بغداد، وكان الطوسي منجّماً ‏لهولاكو، استولى على كتب الناس والوقف والملك، فكان كتب الإسلام مثل التفسير والحديث والفقه ‏والرقائق يعدمها، وأخذ كتب الطب والنجوم والفلسفة والعربية، فهذه عنده هي الكتب المعظمة”. ‏‏(مجموع الفتاوى 13/111). وتبعه عدد من المؤرخين كالصفدي (ت: 764هـ) في ترجمة نصير ‏الدين الطوسي بقوله” فابتنى نصير الدين الطوسي بمدينة مراغة قبة ورصدًا عظيمًا واتّخذ في ذلك ‏خزانة عظيمة فسيحة الأرجاء، وملأها من الكتب التي نهبت من بغداد والشام والجزيرة، حتى ‏تجمع فيها زيادة على أربع مائة ألف مجلد”. (الوافي بالوفيات1/147). وهو نفس ما أشار اليه ‏المقريزي أيضا بقوله ” بنى هولاكو الرصد بمدينة مراغة بإشارة الخواجا نصير الدين الطوسي، ‏وهو دار للفقهاء والفلاسفة والأطباء، بها من كتب بغداد شيء كثير وعليها أوقاف لخدامها”. ‏‏(السلوك لمعرفة دول الملوك1/510). وأكد محمد شاكر الكتبي في ترجمته للطوسي” هو محمد بن ‏محمد بن الحسن، نصير الدين الطوسي الفيلسوف صاحب علم الرياضي؛ كان رأساً في علم ‏الأوائل، لا سيما في الأرصاد والمجسطي فإنه فاق الكبار، قرأ على المعين سالم بن بدران المعتزلي ‏الرافضي وغيره، وكان ذا حرمة وافرة ومنزلة عالية عند هولاكو، وكان يطيعه فيما يشير به عليه، ‏والأموال في تصريفه، وابتنى بمراغة قبة ورصداً عظيماً، واتخذ في ذلك خزانة عظيمة فسيحة ‏الأرجاء وملأها من الكتب التي نهبت من بغداد والشام والجزيرة حتى تجمع فيها زيادة على ‏أربعمائة ألف مجلد”. ( فوات الوفيات3/247). وأشار إبن كثير الى أنه ” عمل الخواجة نصير ‏الدين الطوسي الرصد بمدينة مراغة ونقل إليه شيئًا كثيرًا من كتب الأوقاف التي كانت ببغداد”. ‏‏(البداية والنهاية13/161).‏
لذلك يمكن القول بأنه فعلا أحرقت وأغرقت الآلاف من الكتب، لكن هذا جانب من الحقيقة وليس ‏كلها، الحقيقة أن معظم الكتب سُرقت من بغداد ونقلت الى طوس بإشراف الشيخ الطوسي نفسه، ‏وإذا علمنا أن بيت الحكمة كان يحوي (300000) كتابا، وان ما سرقه الطوسي أكثر من ‏‏(400000) كتابا، فهذا العدد يقدم للقاريء تصورا شاملا عن حجم الكتب المسروقة من مكتبات ‏العراق. وإذا أخذنا بنظر الإعتبار ما أتلفه الطوسي من الكتب حرقا أو إغراقا في مجال الشريعة ‏والفقه والدراسات القرآنية التي تخالف مذهبه الشيعي، سنفهم اللغز الذي يقف وراء إخفاء دور ‏الطوسي وعدم تسليط الضوء الكافي على سرقته مكتبات بغداد.‏
ذكر عباس العزاوي” في هذه السنة662هـ‎ ‎وصل نصير الدين الطوسي إلى بغداد لتصفح الأحوال ‏والنظر (في أمر الوقوف) والبحث عن‎ ‎الأجناد والمماليك‎. ‎ثم انحدر إلى‎ ‎واسط والبصرة وجمع من ‏العراق كتبا كثيرة لأجل الرصد”. (تأريخ العراق بين احتلالين1/276). وقال” جمع من العراق‎ ‎كتبا كثيرة لأجل الرصد الذي وضعه بمراغة عام 657هـ وعين فيه جماعة يتولون عمله‎ ‎إلى أن ‏انتجز سنة 672 هـ”. (تأريخ العراق بين احتلالين1/315).‏
الخلاصة: ‏
أن معطم كتب العراق سرقت خلال الغزو المغولي، ونقلت الى طوس، وما يتعلق بالعلوم الدينية ـ ‏سيما كتب أهل السنة ـ أحرقت أو أغرقت عمدا وكلاهما تم بإشراف الطوسي، فلا ماء دجلة تحول ‏الى ازرق أو أو أسود ولا غيرها من الإفتراءات التي يراد منها طمس الحقيقة، وإخفاء دلائل ‏الجريمة البشعة، مثلما حاول البعض أن يبرأ العلقمي ـ وزير هولاكو ـ من خيانة الخليفة العباسي ‏والتمهيد لإحتلال المغول بغداد، بل وإضفاء لقب (قدس سره) عليه، لا نعرف كيف تتحول الخيانة ‏الى قداسة، ويصبح العميل والخائن قديس؟ لكن التأريخ يعيد نفسه، فهذا بالضبط ما يحصل في ‏العراق بعد عام 2003. عراق اليوم: دم سائل، ومصير جائل، وعدل زائل، وحكم سافل، وحاكم ‏عايل، وشعب جاهل، من خياله راجف، بقلب خائف، وبال كاسف، ورجاء قليل، وحكم عليل، وفقر ‏ذليل.‏
نسأل المولى تعالى، أن يصرف عن العراق الردى، ويرشد الشعب الى الهدى، ويسمى به الدرجات ‏العُلى، انه المجيب للدعوات.‏
المبحث مستل من كتابنا إغتيال العقل الشيعي ج/3 بنسخته الجديدة (4 أجزاء).‏
علي الكاش